قبيل نشوب ثورة 25 يناير صدرت واحدة من أفضل المذكرات التى كتبها قادة العمل الدبلوماسى المصرى على الإطلاق، وهى مذكرات السفير عبد الرءوف الريدى ثانى سفير لمصر فى الولاياتالمتحدة بعد عودة العلاقات بين البلدين فى أعقاب حرب أكتوبر 1973، وقد شغل هذا الرجل هذا المنصب طيلة 8 سنوات (1984 - 1992) كان فيها نموذجاً للانجاز المبهر والعمل الدءوب. وكان القريبون من مراقبة أحوال الدولة يظنون أن مصر سوف تستفيد منه فى هذا الموقع سنوات أخرى بعد بلوغه الستين لكنهم، وأنا منهم. فوجئوا بالرجل يترك موقعة عند بلوغه الستين عاما، ولم يكون من الصعب فهم السبب فى هذا سبب معقد لكن جوهر السبب يعود إلى قدرة الريدى ونجاحه وتفوقه، وهو النجاح الذى صب فى مصلحة نظام مبارك ومصلحة مبارك نفسه وبالطبع فى مصلحة مصر وعلاقاتها الخارجية.. وإذا كان هناك عشرة صنعوا مجد حسنى مبارك فقد كان عبد الرءوف الريدى واحداً منهم بلا جدال، وإذا كان هناك خمسة صنعوا هذا المجد فقد كان عبد الرءوف الريدى نفسه كان سيفعل ما فعل وسينجز ما أنجز حتى مع اختلاف مع من يشغل موقع الرياسة، أى أنه لم يكن على علاقة بمبارك فيما قبل الرياسة، ولم تكن علاقته به علاقة سابقة على وصوله إلى منصب السفير.. لكن الذى لا شك فيه هو أن الريدى كان أول من قدم لوطنه المناخ الذى حوله من وطن مدين بالدولار إلى وطن ذى رصيد دولارى قابل للتراكم ولتكوين ما أسماه الرئيس مبارك فيما بعد الاحتياطى، وقد كان الريدى واعيا كل الوعى للدور الاقتصادى للعمل الدبلوماسى بعيدا عن كل المصطلحات والمسميات، ذلك أنه كان ينظر إلى مصر على أنها شىء واحد وعلى أنها والدته الحنون التى ينبغى عليه أن يوفر لها كل ما يستطيع توفيره حتى لو لم يطلب منه ذلك أحد وحتى لو لم يتوقع أحد منه ذلك، وهكذا قدر لهذا الرجل أن يسهم بالدور الأكبر فى إلغاء الديون العسكرية التى كانت مستحقة للولايات المتحدة على مصر وأن يبدأ بنفسه المبادرة من أجل هذا الانجاز وأن يتولى هذا الانجاز حتى النهاية، ثم إذا هو يمضى خطوات أخرى فى سبيل تحقيق إنجاز آخر فيما يتعلق بالديون المستحقة للدول العربية والأوروبية فيما عرف بنادى باريس، وإذا هو يخطو خطوة ثالثة فى الحصول لمصر على معونات أخرى عاجلة وآجلة تقديرا لموقف مصر من حرب الخليج. أنجز الريدى هذا كله بينما هو يؤدى دوره بامتياز فى واشنطن، وبينما هو لا يبخل على غيره بالنجاح ولا بالتقدير، وفيما هو يدفع بمرءوسيه فى مدارج الرقى حتى عرفنا منهم أكثر من وزير للخارجية فى فترة لاحقة. وقد تحدث الريدى فى مذكراته التى بين أيدينا عن تفضيلات هذه المعارك الدبلوماسية الاقتصادية بدقة وأمانة، وعرض رؤيته ورؤية غيره بتجرد وإنصاف، كما لخص فى هذه المذكرات كل المواقف المحيطة بكل انجاز بفهم وتبصر، ولم يكن الريدى بحاجة إلى مزيد من الدقة والأمانة والتجرد والانصاف والفهم والتبصر كى يتحفنا بما نكتشفه فى أنفسنا من تقدير لدوره وجهاده ودأبه وإخلاصه وفهمه وذكائه. على أن الريدى فى مذكراته لا يقف عند حدود ما أنجره وهو على رأس الجهاز المسئول لكنه يأخذنا منذ بداية هذه المذكرات إلى آفاق رحبة من تاريخ وطنه فى عهدى عبد الناصر والسادات قبل عهد مبارك، راويا دوره فى وسط المجموعة التى قدر لها أن تقود الدبلوماسية المصرية فى هذا الفترة، ونحن نعرف أنه كان واحداً من المقربين إلى محمود رياض وزير الخارجية (64 - 1971) والأمين العام للجامعة العربية بعد ذلك (1972 - 1979) وأنه اشترك معه فى حضور عد من دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما حضر معه رياسة مجلس الأمن الدولى حين آلت هذه الرياسة لمصر فى الفترة التى شهدت أزمة خليج الخنازير بين كوبا والاتحاد السوفييتى والولاياتالمتحدةالأمريكية، ونعرف كذلك من المذكرات أن الريدى عمل سفيرا فى باكستان فى مرحلة مفصلية من تاريخ باكستان والمنطقة التى تتوسطها باكستان حيث إيران من ناحية وحيث أفغانستان والغزو السوفييتى لها من ناحية أخرى.. ونعرف كذلك أن عبد الرءوف الريدى حضر المعقبات الدولة لحرب 1967 من خلال أكثر من موقع وأنه بكى فى أثناء هذه الحرب كما لم يبك من قبل، وأنه فوجىء بهذا الذى وقع من هزيمة لم يكن يتصور أنها بهذا الحجم. نعرف هذا كله بالتفصيل فى مذكرات الريدى ونعرف كيف يمكن لإنسان عظيم مثله أن يواصل أداء دور ذكى من أجل خدمة وطنه من أولئك الذين بدأوا حياتهم فى شبابهم منبهرين بأحمد حسين، وما كان أحمد حسين يمثله لمثله من الشباب الحر الأبى الوطنى المخلص. نراه أيضاً واعيا لقيمة الوفد إلى الحد الذى خبره بنفسه حين حاول أن يسير مع المؤرخ عبد الرحمن الرافعى خطوات قليلة فى قرية عزبة البرج حين كان الرافعى يتابع معركته الانتخابية للفوز بعضوية مجلس الشيوخ عن دائرة فارسكور وهى الدائرة التى كانت تمتد من شمال المنصورة وحتى البحر الأبيض المتوسط فإذا بالجماهير المؤمنة بالحزبية الحقة لا تقبل من الرجل مهما كان شأنه ألا يأيتها إلا إذا حان موعد الانتخاب، ويعطف والد عبد الرءوف الريدى على ابنه بما يكفل له أن يفهم طبيعة السياسة والانتخابات منذ مرحلة مبكرة. نرى عبد الرءوف الريدى فى مذكرات إنسانية وهو يقود خطواته بنجاح فى الدراسة فى دمياط الثانوية ثم فى كلية الحقوق، نراه وهو يتذكر تفصيلات الحياة الاجتماعية والحضارية وأسعار السلع وايجارات الشقق، نراه وهو يعبر عن سعادته بمصر وعن أسفه لما آلت إليه أحوالها فى كثير من الأحيان وبخاصة بعد أن تقاعد فأصبح المشى فى الشوارع عذابا.. إلخ ثم نراه وهو يتحول من العمل الدبوماسى الناجح الذى وصل إلى قمته إلى أعمال تطوعية أخرى فى مكتبة الجيزة (التى سميت مكتبة مبارك) وسلسلة المكتبات التى تبعت لها وانشئت على غرارها. فى كل هذا الذى يرويه أستاذنا الريدى بتدفق وتواضع نرى أنسانا بمعنى الكلمة يفرح ويحزن، وينهر ويمل، ويصعد ويهبط، ويعجب ويكره، ويتكلم ويصمت، ويفاجأ فى بعض الأحيان ولا تعتريه المفاجأة فى معظمها، نرى إنساناً أجادت التربية الحقة صقل شخصية فى البيت والمدرسة والجامعة وجامعة الحياة ثم أتاحت له الحياة أفضل الحظوظ فى الزوجة الصالحة والأصدقاء الحقيقيين والأساتذة العطوفيين، نراه محظوظا فى علاقاته بزوجته السيدة فريدة الوكيل كما نراه محظوظا فى علاقاته بعمر لطفى السكرتير العام المساعد للأمم المتحدة الذى مات فى أعقاب وفاة والده والذى قدر له أن يصحب جثمانه إلى مصر كما نراه محظوظا فى علاقاته بمحمود رياض الذى عمل معه فى الأممالمتحدة ثم فى الوزارة ثم فى الجامعة العربية، نراه محظوظاً فى علاقته ببلدياته محمد حسن الزيات صاحب الفضل الأوفى على العلاقات المصرية الأمريكية، ونراه أيضاً محظوظا فى علاقته بأحمد عصمت عبد المجيد وإسماعيل فهمى ومحمود رياض وعمر سرى وكل من سبقوه إلى السلك الدبلوماسى. كما نراه متميزا فى علاقته بمن لحقوا به فى السلك الدبلوماسى من طبقة عمرو موسى ونبيل العربى وأحمد ماهر وأبوالغيط ومحمد العرابى ومحمد كامل عمرو. قبل هذا كله نرى الريدى كما وضعته فى تلافيف مخى واحداً من الدمايطة الأربعة الذين أفاد منهم مبارك وعصر مبارك كما لم يفد من أعلام أى إقليم آخر فى مصر، نرا الريدى واحداً من هؤلاء الأربعة الذين قدر لعصر مبارك أن يستفيد منهم على مستوى نادر من إفادة عصر من أربعة زملاء متعاصرين لم يكونوا جماعة لكنهم كانوا يؤدون على غير اتفاق دور الجماعة.. فهذا هو أسامة الباز الرجل الذى صنع أسطورة مبارك وهذا هو عبد الرءوف الريدى الذى حول مصر سياسيا واقتصاديا فى عصر مبارك من دولة مدينة إلى دولة ذات احتياطى، وكان له الفضل الأكبر فى هذا التحول دون أن يدرى هو نفسه ودون أن تدرى مذكراته هذه الحقيقة برياسة الثانية (1987 - 1993) ويعتزل السياسة والحكم وقبل هذين الرجلين كان زميلهما حسب الله الكفراوى الذى بدأ انجازات الحضارة الحديثة فى عصر السادات وواصلها بهمة واقتدار فى عصر مبارك، كما كان صلاح منتصر الذى ظل على الدوام منذ آواخر عصر السادات وحتى يومنا هذا رمانة الميزان التى تضبط إيقاع إعلام الدولة فى هدوء ومن وبدون ادعاء.