قد نتندر أحيانا على الأشياء الصغيرة التى تصادفنا فى حياتنا اليومية لكننا ننسى أو نتناسى أن الأشياء الصغيرة تلعب أدوارا كبيرة وحاسمة، تؤثر علينا سواء كنا أفرادا أو جماعات، فالشعرة خيط رفيع ودقيق، نكاد لا نراه، ومع هذا فإن سقوط شعرة من رأس امرأة تقف أمام المرآة لتمشط شعرها قد يجعلها تشعر بالخوف وبالفزع لأن هذا السقوط ينبهها إلى أنها توشك أن تتخطى سن الشباب، وبعيدا عن النساء فإن أحد حكماء العرب – وهو معاوية ابن أبى سفيان - كان قد أشار بوضوح إلى العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وضرورة أن تكون علاقة اتصال تتجلى فيها الحيوية المثمرة وليست علاقة انفصال يشوبها الجمود والبرود، حيث قال قولته الشهيرة : لو كان بينى وبين الناس شعرة ما قطعتها .. أما علماء النفس وسواهم ممن يدرسون العبقريات الفنية والأدبية فإنهم يتحدثون عن الشعرة أو الخيط الرفيع الذى يفصل بين العبقرية والجنون ! على ضوء هذا وسواه أستطيع القول إن شعرة واحدة يمكنها أن تفصل بين الفوضى والثورة، وهناك أمثلة عديدة وغنية بالدلالات التى تؤكد هذا الفارق الدقيق، وما جرى فى كل من تونس ومصر وليبيا خلال أواخر سنة 2010 وأوائل سنة 2011 التى غربت شمسها هو الشاهد الحى على أن شعرة واحدة تفصل بين الفوضى والثورة، بل إن هذا الشاهد الحى يتأكد تماما لو أننا عدنا إلى تاريخ أكثر الثورات الشعبية شهرة فى العالم كله، وأقصد الثورة الفرنسية، فقد كان لتلك الثورة مفكرون وأدباء مشهورون أدركوا حتمية انفجارها، أو واكبوها ومن بينهم جان جاك روسو – صاحب كتاب العقد الاجتماعى - وفولتير صاحب المقولة الرائعة: إنى أختلف معك فى الرأى ولكنى على استعداد لأن أدفع رأسى ثمنا لحريتك فى إبداء رأيك! *** إلى جانب هؤلاء المفكرين والأدباء كان هناك أناس ممن يطلق عليهم الغوغاء والدهماء أو السوقة والرعاع أو حتى البلطجية بلغة زماننا، وهنا أعود إلى كتاب تاريخ الثورة الفرنسية لألبير سوبول وهو يتحدث عن سقوط الباستيل يوم 14 يوليو سنة 1789 - كانت هناك جماعات تتجول فى باريس يوم 13 يوليو بحثا عن الأسلحة وتهدد بتفتيش قصور الارستقراطيين، وبدأ الناس يحفرون الخنادق ويقيمون الحواجز، ومع الفجر كان عمال الحديد يصنعون الحراب إنما كان يلزمهم بنادق، وبعد الظهر رفض الحرس الذى تلقى الأمر بإخلاء باريس أن يطيع.. وفى يوم 14 يوليو طالبت الجماهير بالتسلح العام، فذهبت إلى قصر الإنفاليد بغية الحصول على أسلحة واستولت على 32000 بندقية ثم تابعت سيرها إلى الباستيل الذى كان يتحدى الهجوم الشعبى بجدرانه التى يبلغ ارتفاعها 30 مترا وخنادقه الملأى بالماء بعرض 25 مترا ومع هذا كله استطاع الشعب أن يندفع وأن يقتحم الباستيل ! تعمدت أن أنقل هذه الفقرة بالكامل من كتاب تاريخ الثورة الفرنسية وهى الثورة التى تفصلنا عنها 222 سنة وذلك لكى يمكننا أن نتأمل فيما هو متشابه بينها وبين الثورات التى اشتعلت فى كل من تونس ومصر وليبيا منذ أواخر سنة 2010 وأوائل 2011 وهنا تتلاحق الأسئلة : ألم يكن الشعور بالظلم هو القاسم المشترك بين كل تلك الثورات وما سيتلوها بكل تأكيد من ثورات عربية شعبية توشك أن تنفجر معلنة عن نفسها ومطالبة بالحرية والكرامة وسبل الحياة الكريمة؟ ولماذا تم إشعال النار فى السجون قبل أو بعد إطلاق المساجين من زنازينها فى كل من تونس ومصر؟ وكيف حصل ثوار ليبيا على الأسلحة المتنوعة بما فيها من مدافع مضادة للطائرات ؟ ولماذا لم يتعظ الطاغية الليبى؟ ولماذا قتله الذين قتلوه بصورة همجية ووحشية بعد أن ظلوا يتقاذفونه فيما بينهم، دون أن يقبضوا عليه باعتباره أسيرا فى أيديهم إلى أن يحاكموه ولو محاكمة صورية عبثية وأخيرا – وهذا ما سأجيب عنه – كيف نستطيع أن نحدد طبيعة تلك الشعرة الرفيعة والدقيقة التى تفصل ما بين الفوضى والثورة ؟! *** يرى المؤرخون أن الثورة الفرنسية هى أم الثورات فى أوروبا، وقد اختارت فرنسا أحد أحداث تلك الثورة، وجعلته عيدا قوميا تحتفل بذكراه كل سنة، ويتمثل هذا الحدث التاريخى فى اقتحام سجن الباستيل الرهيب يوم 14 يوليو سنة 1789. ويرى المؤرخون كذلك أن ثورة 23 يوليو 1952 هى أم الثورات فى منطقتنا العربية، لكن السؤال الذى أود أن أطرحه الآن يتعلق بالفارق بين طبيعة كل ثورة من هاتين الثورتين الشهيرتين ؟ كانت الثورة الفرنسية ثورة شعبية بكل معنى الكلمة، وقد امتدت تداعياتها وآثارها إلى سائر دول أوروبا، حيث انهارت أنظمة عديدة من أنظمة الحكم المستبدة والظالمة، أما الثورة المصرية فكانت ثورة عسكرية، ساندتها الجماهير الشعبية منذ أول يوم من أيامها، كما أنها أحدثت بعد نجاحها زلزالا ضخما، هز أنظمة الحكم فى أرضنا العربية، حيث تتالت الانقلابات والثورات العسكرية ومنها – على سبيل المثال - ثورة العراق بقيادة عبد الكريم قاسم ونائبه عبد السلام عارف يوم 14 يوليو سنة 1958 لماذا لم تحقق الثورة الفرنسية أهدافها وفقا لشعارها الشهير الذى رفعته : الحرية – الإخاء – المساواة إلا بعد مرور سنوات على يوم اقتحام الباستيل، بينما تمكنت الثورة المصرية من أن تفرض الاستقرار وتحققه منذ بداية انطلاقتها الرائعة ؟ الجواب - بكل بساطة - لأن طبيعة الثورة الأولى جعلتها فى حالة سيولة لفترة طويلة كما جعلت الثوار أنفسهم يختلفون بل يقتتلون، ومن هنا انبثق المثل الشهير : الثورة كالقطة تأكل أبناءها، أما الطبيعة العسكرية لثورة يوليو 1952فى مصر فهى التى أتاحت لها أن تحقق الكثير من أهدافها على الرغم من كل ما حيك ضدها من مؤامرات ومن مكائد. إذا كان العالم قد شهد بعد الحرب العالمية الثانية وقوع انقلابات عسكرية عديدة، فإنه لم يشهد ثورة شعبية بعد الثورة الفرنسية إلا حين نجحت الثورة الإسلامية ذات الملامح الشيعية فى إيران سنة 1978 إلى أن شهدنا جميعا ثورات شعبية بكل معنى الكلمة فى أرضنا العربية، وكانت البداية فى تونس وتلتها مصرثم ليبيا، وما يزال اللهب الثورى يطغى على المشهد فى كل من اليمن وسوريا. يبقى سؤال : لماذا لم تستقر الأوضاع فى كل تونس ومصر وليبيا بعد نجاح الثورة فى كل منها ؟ الجواب يكمن فى طبيعتها، فهى ثورات شعبية لم تحاول الاستقواء بالخارج الأجنبى فى كل من تونس ومصر، ولكنها استنجدت بحلف الناتو فى ليبيا، ومن طبيعة الثورات الشعبية عموما أنها لا تستطيع حسم الأمور بنفس سرعة الحسم فى الثورات العسكرية، وهذا ما جرى فى كل من الثورتين الفرنسية والإيرانية، وهو نفس ما يجرى وسيظل جاريا فيما يتعلق بثورات تونس ومصر وليبيا وسواها من الثورات الشعبيةالتى لم تنجح أو لم تحقق أهدافها حتى الآن فى أرضنا العربية، وهكذا يظل كثيرون يرددون قول إبى القاسم الشابى. إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلى ولابد للقيد أن ينكسر، بينما يتذكر آخرون قول أمير الشعراء أحمد شوقى : وللحرية الحمراء باب – بكل يد مضرجة يدق، بينما يظل القلق متغلغلا فى النفوس بسبب كل ما نراه ونرصده من مشاهد الفوضى والارتباك واختلاف الآراء، ورغبة قوى عديدة - وأبرزها القوى التى تتصور أنها وحدها تحتكرالإسلام وتتفرد دون سواها بالحديث عن هذا الدين السمح - فى أن تركب موجة الثورة، حتى وإن كانت لم تشارك فيها إلا بعد أن تأكدت وتيقنت أن حدثا جديدا قد تحقق أو أنه يوشك أن يتحقق على الأرض، وهذا ما يجعلنى – فى الخاتمة – أعيد ما سبق أن قلته فى البداية، مؤكدا أن ما بين الفوضى والثورة.. شعرة، مجرد شعرة!