لو أننى قلت لكم : الشهداء يعودون هذا الأسبوع .. فلابد أنكم ستتهموننى بالجنون أو على الأقل ستندهشون مما أقول، وربما تتساءلون أو يتساءل بعضكم بقدر لا بأس به من التهكم والسخرية: كيف يمكن أن يعود هؤلاء الشهداء إلى بيوتهم وإلى أهاليهم وأصدقائهم ومحبيهم بعد أن انتقلوا للدار الآخرة ؟! والحقيقة أن الدهشة ستتلاشى تماما حين نعلم أن هذا الذى يبدو كأنه خبر غير قابل للتصديق هوعنوان مجموعة قصصية للكاتب الروائى الجزائرى الطاهر وطار، وكانت هذه المجموعة قد صدرت عن المؤسسة الوطنية للكتاب بالجزائرسنة 1984وهى تضم سبع قصص قصيرة ، تتسم بالواقعية، وكلها تتعلق بالشأن الجزائري، كما أنها مكتوبة بلغة عربية مبسطة ، وإن كان تأثير الأدب الفرنسى يبدو واضحا فى طريقة سرد كل قصة منها .لماذا أعود لقراءة هذه المجموعة القصصية، رغم أننى قرأتها أكثر من مرة على امتداد سنوات سابقة؟ إننى أعود إليها لكى نرى جميعا كيف تنعكس صورة محددة من صور الماضى على مرآة الحاضر، ولكى نتأكد – من جديد – أن التاريخ يعيد أو يكرر نفسه، ولكى نتذكر المثل العربى الشهير: ما أشبه الليلة بالبارحة! لكى أفصح عما أريد قوله، لا بد من العودة إلى التاريخ فيما يتعلق بثورة الجزائر، ولا بد من أن نتأمل حالة السيولة الفوضوية التى نشهدها ونعايشها كل يوم فيما يتعلق بالثورات العربية التى اندلعت فى كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وعلينا بعد ذلك أن نستكشف وجوه التلاقى والتشابه بين ما جرى – تاريخيا – فى الجزائر، وما يجرى حاليا فى تلك الدول العربية! فى الأول من نوفمبر سنة 1954 اندلعت الثورة الجزائرية التى ساندتها مصر – جمال عبد الناصر بكل قوة مادية ومعنوية، وظل الاحتلال الفرنسى للجزائر يحاول القضاء على تلك الثورة، لكنها انتصرت فى خاتمة المطاف، بعد أن قدمت قرابين الفداء متمثلة فى مليون شهيد ، وتم إعلان استقلال الجزائر رسميا يوم 5 يوليو 1962 وبحكم الطبيعة البشرية فى كل مكان وزمان كان لا بد أن يحصد الثوار المنتصرون غنائم النصر التى تتوزع على الأقارب والأصدقاء، بل كان من الطبيعى أن يتصارع الثوار فيما بينهم فيما يتعلق بتوزيع الغنائم ، على حساب البسطاء والفقراء الذين يفترض أن الثورة قد اندلعت من أجلهم ومن أجل تحقيق حياة كريمة لهم! هذا الذى جرى فى الجزائر منذ انتصار الثورة هو ما رصد الكاتب الروائى والقاص الطاهر وطار ملامح متنوعة منه ، أما ما يجرى وما يزال يجرى فى أجواء ربيع الثورات العربية فهو ما رصده كثيرون من الكتاب والأدباء العرب ، وأعتقد أن من حقى الآن أن أشير إلى قصيدة لى بعنوان لا مكان للشهداء، وفيها أقول : غسل الشهداء شوارع مصر وأهدوا للأرض هداياهم وانصرفوا جاء الأفاقون الكذابون الدجالون القتلة حشدوا معهم كل الجهلة أخفوا لمعان خناجرهم كى يخفوا ما كانوا اقترفوا شحذوا بالمكر حناجرهم ثم اندفعوا لشوارع مصر كى يختلسوا ثمرات النصر ... يبقى سؤال : ما هذا الذى رصده الطاهر وطار فى مجموعته القصصية الشهداء يعودون هذا الأسبوع ؟ .. هذا ما سأشير إليه الآن . مسيرة صعبة بحثا عن أرض خصبة إذا كنت قد أشرت إلى المجموعة القصصية التى أصدرها الطاهر وطار سنة 1984 ، فإنى لم أتحدث عما رصده هذا الكاتب الجاد والملتزم على امتداد قصص هذه المجموعة، وبالذات ما رصده فى إحدى قصصها التى سمى المجموعة كلها باسمها: «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» وهى قصة تستدعى تأملا عميقا نتيجة لارتباطها الوثيق والعميق مع ما يجرى على الأرض العربية التى تشهد ما يطلق عليه الإعلام الغربى ومعه الإعلام العربى: ربيع الثورات العربية. تصور هذه القصة مشاعر إنسان قروى موغل فى العمر، يقضى أيامه القاسية وهو يتذكر ابنه الذى استشهد وهو يقاتل الاحتلال الفرنسى الذى جثم على تراب الجزائر على امتداد مائة وثلاثين سنة. ولست أريد الآن أن أتدخل فى سرد أحداث قصة الشهداء يعودون هذا الأسبوع، ولذا سأترك المجال أمام كاتبها الجاد والملتزم ، لكى نتعرف منه ومن خلال أسلوبه الخاص على الذى جرى للإنسان القروى عند قراءة رسالة ابنه الشهيد ! شاع خبر تسلم العابد بن مسعود رسالة من ابنه الشهيد فى كل أرجاء القرية ، وكان هناك من اندهشوا وتعجبوا ، كما كان هناك آخرون ممن تصوروا أن الجنون قد أضاع عقل العابد بن مسعود ، وأنه يهذى هذيانا لا شفاء منه ، لكن الرسالة ذاتها أحدثت بلبلة كبيرة بين الجميع، فهناك – مثلا- أفراد من كوادر حزب جبهة التحريرالجزائرية ممن حصلوا على امتيازات خاصة بعد الاستقلال أخذوا يؤكدون للآخرين أن الشهداء لا يمكن أن يعودوا للحياة من جديد، وحتى لو عادوا – وهذا مستحيل – فإن عودتهم لا يمكن أن تعطيهم الحق فى أن يقتسموا معهم ما حصلوا عليه من امتيازات خاصة، لم يحصل على مثلها البسطاء والفقراء! ماذا لو عاد الشهداء للحياة من جديد ؟ قال أحد الموظفين الروتينيين: على هؤلاء الشهداء أن يقدموا شهادات تفيد بأنهم أحياء، لأننا قد استخرجنا لهم من قبل شهادات وفاة، بينما قال واحد من المنتفعين الجدد: لن يلبثوا أسبوعا حتى يتزيفوا، إنهم سيؤولون إلى ما آل إليه غيرهم، أما زوجات الشهداء فإن منهن من أصبحن يشعرن بالحرج ، فهناك من تنفق ببذخ على ملذاتها بفضل ما تلقته من تعويضات، وهناك من قامت بتحويل بيتها إلى دار للدعارة! وعلى أية حال فإن قصة الشهداء يعودون هذا الأسبوع مليئة بالمفارقات وبالتناقضات الحياتية، لكنها تنتهى بمصرع العابد بن مسعود على قضبان السكة الحديدية دون أن يعرف أحد هل دفعه أحد المنتفعين الجدد نحو القطار ليلقى مصرعه تحت عجلاته أم أنه قد انتحر؟! ما علاقة هذه القصة بما يجرى الآن على أرضنا التى تشهد ربيع الثورات العربية؟! علينا أولا أن نعود للتاريخ لنتذكر أن فرنسا قد احتلت الجزائر يوم 3 يوليو سنة 1830. لكن الجزائر أعلنت الاستقلال يوم 5 يوليو سنة 1962 بعد نجاح الثورة المسلحة ضد الاحتلال والتى كانت قد اندلعت ابتداء من يوم الأول من نوفمبر سنة 1954 وقد تعاقب على الحكم فى الجزائر بعد إعلان الاستقلال كل من أحمد بن بيلا وهوارى بومدين والشاذلى بن جديد ومحمد بو ضياف واليامين زروال ثم عبد العزيز بو تفليقة ، وكان من هؤلاء الرؤساء من حدث انقلاب عسكرى ضدهم ومن اغتيلوا علنا أمام أنظار الجميع، وبالطبع كان هناك مستفيدون ومنتفعون من مكاسب الثورة وغنائمها بعد أن حل هؤلاء مكان المستوطنين الفرنسيين، أما الفقراء والبسطاء فإنهم ظلوا على ما هم عليه من فقر وبؤس مع تعاقب أجيالهم جيلا وراء جيل! وحين نعود من التاريخ إلى الواقع الذى نحياه الآن، فإننا نجد أن ما جرى فى الجزائر يكاد يتشابه أو يتكرر فيما يجرى على الأرض العربية التى انطلقت فيها ثورات شبابية وشعبية، ففى تونس ومصر ما يزال من يريدون الاستفادة من مكاسب الثورة يحاولون تحقيق مآربهم الخاصة لكى يحلّوا مكان النظام الذى سقط فى كل من البلدين، وإلى جانب هؤلاء برز آخرون ممن يجيدون مختلف أنواع النفاق السياسى والاجتماعى، فقد كانوا يتظاهرون بأنهم مع النظام الذى تهاوى عندما كان هذا النظام مهيمنا على كل الأوضاع فى مختلف مجالات الحياة، وفجأة قام هؤلاء بالاندفاع بكل مكر ودهاء إلى ميدان التحرير لالتقاط صور لهم ، تثبت أنهم من الثوار أو على الأقل من المناصرين المتعاطفين معهم، وهناك إعلاميون وكتاب مثقفون أو يفترض أنهم مثقفون كانوا يتفننون فى التغنى بمآثر السيد الرئيس، خصوصا حينما كان يتفضل ويتعطف عليهم بلقاء سريع فى معرض القاهرة الدولى للكتاب أو سواه من الفعاليات، وقد تحول كثيرون منهم – بقدرة قادر - إلى ثوار وإلى نشطاء ثوريين بمجرد أن تأكدوا أن الرئيس لم يعد رئيسا بعد أن أعلن تخليه عن منصبه، ومقابل هؤلاء ما يزال الفقراء والبسطاء يقاسون متاعب الحياة اليومية التى أضيف إليها إدراكهم لكارثة غياب أو تغييب الأمن مع إحساسهم الفطرى بفقدان الأمان، فالبلطجة تفصح عن نفسها دون خوف من أحد، أما الاحتجاجات الفئوية والطائفية فإنها فى تزايد مستمر، ومع تزايدها تتقلص بالطبع حركة الإنتاج فى كل مكان تقع فيه مثل تلك الاحتجاجات، وإذا كانت الثورة فى كل من تونس ومصر قد نجحت فى إسقاط النظام بفضل حفاظها على الطابع السلمى لها، فإن الدماء ما تزال تغرق الأرض فى كل من ليبيا واليمن وسوريا، ويبدو المشهد مرعبا حقا حين يسقط شهداء جدد لاحقون أثناء تشييع جنازات شهداء سابقين، بينما تحاول فلول الأنظمة التى تتداعى أن تلعب على أوتار الطائفية والمذهبية وذلك لإيقاظ الفتن والضغائن الكامنة فى كثير من الحالات. لم يعد للحياة أحد من شهداء الجزائر، ولن يعود للحياة أحد من الشهداء الذين سقطوا والذين يتساقطون فى كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وعلى أجساد كل هؤلاء الشهداء يعلو الأقزام وترتفع فى بعض الأحيان أعلام ليست أعلام الأوطان، ولكن هل هناك طريق آخر أمام البسطاء والفقراء الذين أهدرت كرامتهم وتم سلب حقوقهم سوى أن يواصلوا المسيرة الصعبة بعد أن يتأكدوا بأنفسهم ومن خلال تجاربهم الميدانية المباشرة أن هناك من خدعوهم وضللوهم بما تفننوا فيه من الأحاديث المزوقة والملفقة ؟ !