حاجة تُحيّر.. ما الذى يجعل فيلسوفاً.. أستاذا.. موسوعيا.. مفكرا.. بقامة أنيس منصور أن يتمعشق بفن الغناء؟ هل زملاؤه فى المدرسة غرروا به؟ أم أنها وراثة عن خاله وخالته؟! أم لأن الغناء كان هواية الزعماء والسياسيين والكُتاب فى شبابه؟ أم هى رغبة فى التميز خاصة أنه اعتاد أن يتميز فكان أول المدرسة فى جميع المراحل الدراسية وأول قسم الفلسفة بكلية الآداب.. ومن الغريب أنه كان خجولاً، فإذا اضطر أن يغنى كان يغمض عينيه حتى لا يرى أحدا كأنه مازال يغنى فى الحمام لنفسه. أول أغنية سمعها الأستاذ هى:(أنا هويت وانتهيت وليه بقى لوم العزول) لحن وغناء سيد درويش، وكان يستخدمها فى امتحان الأصوات الشابة، وقد سمع كل الأصوات الجديدة فى منزله وهم جميعا كانوا حريصين على الحصول على شهادة الميلاد من الأستاذ، فى كل مرة يجئ شاب ومعه العود لكى يسمعه صوته يجده يبدأ ب (أنا هويت) وفى إحدى المرات سأل الشاب: لماذا هذه الأغنية بالذات؟ فكانوا يقولون: لأن سيادتك بتحبها. ويسأل كيف عرفتم؟ فيكون الجواب: لأن الأستاذ محمد قابيل الناقد الفنى بمجلة أكتوبر - سابقا - هو الذى قال لنا ذلك، هكذا كتب الأستاذ فى كتابه «الكبار يضحكون أيضا» وقد نجح الأستاذ فى إقناع المخرج حسن الإمام فى أن يضمنها أحداث فيلمه «بمبى كشر» عام 1974. «وأنا هويت» ليست أغنية، إنما هى «دور» والفرق كبير، فى بداية المعرفة سألنى: من غنى (أنا هويت)؟، قلت: سيد درويش، ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطى وإبراهيم الحجار وإسماعيل شبانة وفرقة الموسيقى العربية بقيادة عبد الحليم نويرة، فطلب منى تسجيلات لكل هذه الأصوات، ذهبت إلى الخال فهمى عمر - اطال الله عمره - وكان رئيسا للإذاعة وأبلغته طلب الأستاذ، فوافق وسجل لى على كاسيت كل هذه الطبعات المميزة من الدور المميز، وظل الأستاذ يحكى ويتحاكى بهذا الكاسيت ولم يفارق مكتبه طوال حياته. حفظ أنيس منصور القرآن الكريم وهو فى سن صغيرة، وكان يرتله تقليدا للمشايخ المحترفين، وفى المدرسة اكتشف زملاؤه فى الفصل أن صوت أنيس جميل، فكانوا يغلقون باب الفصل ليغنى لهم. كان الغناء هواية الكبار فى مصر، وقد عرف عن الزعيم مكرم عبيد حبه الشديد لأغانى محمد عبد الوهاب، وكان يحفظها من أول مرة يسمعها فيها، ثم يؤديها فى مجتمع الأصدقاء، وكثيرا ما يكون محمد عبد الوهاب حاضرا للمراجعة والمتعة، أما الأستاذ عباس محمود العقاد فكان شاعرا عتويلاً كتب نشيد «رفعنا العلم» وقصائد «كأس على ذكرى.. وغازى قلوب الشعب بالكرم.. ويا ساعة الصفو غبت عنى.. ومولدى يوم شقائى».. كلها لحنها وغناها رياض السنباطى الذى لحن لنا درة أمين قصيدة العقاد «فى الهوى قلبى زورق يجرى» وكتب العقاد أيضا أغانى فيلم «شبح الماضى» وكلمات 40 أغنية باللهجة العامية إلى جانب دواوين العقاد وأشعاره غير المغناه. إذن فالأستاذ أكد حب الغناء عند تلميذه أنيس منصور، وكم من مرة سمع الأستاذ يغنى ربما مطربا وربما محللا كما فعل فى طقطوقة «يا عزيز عينى.. وأنا بدى أروح بلدى». وعميد الأدب العربى كان عاشقا للغناء، وكم حضر تسجيلات محمد عبد الوهاب فى الاستوديو، وكتب أغنية مسرحية لمنيرة المهدية لحنها كامل الخلعى، ثم سجلها بصوته على اسطوانة من إنتاج شركة «فونوغراف» مطلعها (أنا لولاك.. كنت ملاك.. غير مسموح.. أهوى سواك.. سامحنى.. فى العشاق.. أنا مشتاق.. أبكى وأنوح.. بالأشواق.. صدقنى». كان الغناء هواية الكبار، ومنهم الكاتب الراحل الكبير على حمدى الجمال والأستاذ إبراهيم زكى خورشيد عاشق ألحان الشيخ زكريا أحمد وجمال الدين أبو رية، والدكتور عبد الرحمن بدوى أستاذ أنيس منصور الذى كان إذا اجتمع تلاميذه على الغناء شاركهم وحرص أن يكون صوته مسموعا. كان أنيس منصور الطالب الوحيد بالامتياز بقسم الفلسفة، وفى إحدى المحاضرات حاول أستاذه منصور باشا فهمى أن يبين وجهة نظره بالصوت، فغنى لسيد درويش وكان موضوع المحاضرة العلاقة بين الحس والصوت والحس والإحساس وبين الحس والجمال. وكان الرئيس أنور السادات يحب أن يغنى وكان يقول: أنا راجل فنان لا أحب السياسة.. وغنى أمام أنيس منصور لسيد درويش وكان محباً لألحان فريد الأطرش وأفلامه. عشق الغناء إذن كان رغبة الكبار فى السياسة والفكر والكتابة، لذلك جلس أنيس أمام محمد عبد الوهاب ليسمعه صوته، وغنى «يا وابور قلى رايح على فين» و«أمتى الزمان يسمح يا جميل» وكالعادة بارك عبد الوهاب صوت أنيس ورحب به زميلا فى المهنة، لكن أنيس لم يكن يحب محمد عبد الوهاب ويرى أنه رجل بلا مشاعر، لا تنفذ منه المشاعر ذهابا وإيابا، إنما هو رجل من صلب، وكان يقول له: أنت كالعملة الفضية خليط من الفضة والنحاس، وقد ساعده ذلك على الهروب من الفخ الذى كان قد تم نصبه ليكون مطربا مثل محمد الكحلاوى وعبد الغنى السيد وعبد العزيز محمود. لكن محمد عبد الوهاب هو الذى قذف بى إلى صالون الأستاذ، وفتح لى بابه، فقد ذهبت إلى منزله لتسجيل حديث صحفى لمجلة أكتوبر التى تعاملنى كضيف فى صالة التحرير، قبل أن يتكلم معى عبد الوهاب رفع سماعة التليفون واتصل بالأستاذ أنيس وقال له: عندى محرر اسمه فلان يريد حديثا فما رأيك؟ وإذا كانت المجلة قد عاملتنى كضيف غير مرغوب فيه فقد عاملنى الأستاذ كساع، إذ قال لعبد الوهاب «اعطه بعض الصور لك» لكن عبد الوهاب سجل معى الحديث المطلوب.. وتم نشره على 3 صفحات من المجلة.. وتم تعيينى محررا وسرعان ما أصبحت رئيسا لقسم الفن. ولما ظهرت ألحانى فى مسرحية «هالة حبيبتى» كتب فى مواقف الملحن مجتهد ولما لحنت «مين اللى قال إن الزمان مالوش آمان» أوقفنى عن رئاسة القسم، ثم عاد ليقول لى أنت من صغار الملاك فى الألحان وعبد الوهاب من كبار الملاك ولكنه سطا على جمله من لحنك فى أغنية لوردة، وذات مرة سمعنى فى برنامج إذاعى أقول عندى 300 لحن حصيلة السنين، فشتمنى وقال لو عندى 300 كتاب كنت هديت الدنيا، ثم كتب فى مواقف «مادمت قد أعطيته أذنى لصاحب هذا الهذيان، فأرجو أن يعطينى قفاه» وسألته الأستاذة سهير حلمى فى مجلة الشباب عن هذه العبارة القاسية هل تفعل تلك القسوة فى بعض كتاباتك فقال: لا طبعا لكن هذه العبارة الساخرة كتبتها لشخص بعينه وفيما بعد أصبحنا صديقين وهذا يعنى مجازى. وأصبحت صديقا للأستاذ وكعادته مع الجميع مرة يهنينى ومرة يبكينى، فلا يقيم حفلا دون أن أكون موجودا أنا وعودى وقد نجحت بعد محاولات كثيرة أن أسجل للتاريخ صوت أنيس منصور وهو يغنى، ومازال التسجيل المصور فى بيته موجودا يغنى «على حسب وداد قلبى يا بوى».. و«أنا هويت» وفى مرة أخرى «يا خارجة من باب الحمام وكل خد عليه خوخة» بحضور الراحلة تحية كاريوكا صاحبة هذا المونولوج. والفيلسوف أنيس منصور هو صاحب فكرة مسابقة أكتوبر للأصوات، فقد طلب منى أن اكتشف أصواتا أكتب عنها وألحن لها، لكن المسابقة لم تبدأ إلا بعد أن تولى الأستاذ صلاح منتصر رئاسة التحرير، وكما كان الفيلسوف صاحب ضربة البداية فى المسابقة كان صاحب كلمة النهاية لها، فقد كتب فى مواقف عن تحليلى لقصيدة من ألحان رياض السنباطى وقال بدايتها «الله يجازيك يا محمد قابيل طيرت النوم من عينى» وإذا بالنوم يطير من عين ملحن يحتكر التحليل والتلحين، ولم تمر أيام حتى كتب الفيلسوف عن كتابى موسوعة الغناء فى القرن العشرين.. وقال فى مواقف لكن الملحن فلان يستحق من الموسوعة أكثر مما كتب عنه.. فشاط الفلان غضبا واستعان بصديق له إذاعى مسئول وجابوا ضلف برنامج «نادى المواهب الشابة» الذى كان التطور الطبيعى لمسابقة أكتوبر. كان أنيس منصور فيلسوفا وأستاذا ومفكرا وكاتبا فى كل الأوان.. وعشق الطرب والغناء.. لكن الله سلم.