الانشغال بالزمن والأطلال، وفقد الأحباب والأهل واتساع دوائر الاغتراب هو المحور الأساسى الذى عاد به الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى بعد أكثر من عقدين من الصمت. فمن رثاء العقاد وطة حسين إلى بكاء أمه وصلاح عبد الصبور إلى الحنين إلى زمن مضى معه شبابه وصباه ومعظم أحلامه «طلل الوقت» أحدث دواوين الشاعر الكبير عبد المعطى حجازى. بداية يقول الناقد الكبير د. حسن طلب إن هذا الديوان قصائده ليست غريبة علىّ حيث إننى قد قمت بقراءتها من قبل عندما نشرت منفردة على فترات متباعدة وكانت لى انطباعات عليها وعندما قرأتها مجمعة فى ديوان واحد أثارت عندى انطباعات جديدة منها أن قصائد الثورة أو قصائد الرفض ليست جديدة على حجازى، إنما امتداد لرؤية سابقة لديه فقد قال حجازى قبل أربعين عاما أى فى بداية السبعينيات فى أحد قصائده:(قل لا.. هنا لتقولها فى كل مملكة سواها) ومن بعده التقط أمل دنقل طرف الخيط وترددت هذه النزعة الرافضة المتمردة عندما قال:(المجد للشيطان معبود الرياح.. من قال لا.. فى وجه من قالوا نعم)، انطباع آخر آثار انتباهى وهو تطور مفهوم المدينة عند حجازى فعندما صدر له أول ديوان وكان بعنوان «مدينة بلا قلب» أراد وقتها أن يصف المدينة فى بداية الخمسينيات بأنها بلا قلب أو عاطفة حيث يأتى إليها القروى فيتغرب ويشعر بالوحدة وبأنها مدينة تفتقد للعلاقات الإنسانية الحميمة وتفتقر للبساطة الموجودة فى القرية ولكن فى هذا الديوان الجديد يظهر لنا المدينة بصورة أعمق من الصورة الرومانسية القديمة فهى ليست بلا قلب فحسب، إنما أيضا بلا عقل لأنها أى المدينة استسلمت الى خفافيش النظام التى خرجت من الكهوف لتحجب عنها النور وتعيدها الى عصور غابرة وظلامية ومن هنا يحتفى الديوان من خلال قصائد مفردة بالعقاد وفرج فودة وطه حسين باعتبارهم رموز النور ورموز العقل المقابلة لهذه التيارات الظلامية التى طغت على المدينة. أما الناقد د. محمد عبد المطلب فاوضح لنا أنه تناول قراءته النقدية للديوان من خلال ثلاثة مداخل ثقافية أولها خاص بقصيدة «طلل الوقت» والتى تمثل امتدادا للوقوف على الطلل فى الثقافة العربية القديمة وأن الطلل ظل حاضرا فى الشعر العربى إلى يومنا هذا لأنه مرتبط بإحساس الفقد والمدخل الثقافى الثانى أن الديوان يضم عدة قصائد فى الرثاء لفرج فودة وأمين نخلة وطه حسين والعقاد ووالدة الشاعر وأوضح أن الرثاء يعد أيضا بنية ثقافية قديمة ويرى معظم النقاد أنها أصدق قصائد الشعر العربى والملاحظ أن هذا الرثاء لم يكن حاضرا فى دواوين حجازى الاولى فمثلا فى ديوانه مدينة بلا قلب لم يكن فيه إلا قصيدة واحدة فى رثاء والده ونلاحظ هنا أنه مع تقدم العمر يكثر الأموات ومن ثم يظهر الرثاء فى القصائد ولو نظرنا الى الديوانين الأخيرين أشجار الأسمنت وطلل الوقت فسوف نجد أن كل ديوان تضمن ست قصائد فى الرثاء وهذا يتوافق مع الوقوف على الطلل لأن الوقوف على الطلل فقد والرثاء أيضا فقد، أما المدخل الثقافى الثانى الذى أود الإشارة إليه هو انفتاح الديوان على الثقافة العربية من خلال استدعاء النص القرانى وهنا نجد أن هذا الديوان يمثل إضافة الى ما سبق من دواوين لأنه استدعى الخطاب القرآنى اثنتين وعشرين مرة وبالمقارنة بالأول مدينة بلا قلب لم يستدعى فيه الخطاب القرآنى اطلاقا كما انفتح الخطاب الشعرى على التوراة ثم انفتح على الأساطير اليونانية القديمة وانفتح على الخطاب الشعرى القديم لامرى القيس والمتنبى ثم كان انفتاح الشاعر الأخير على نفسه اذ كان يستدعى دواوينه السابقة، وهناك أبنية رئيسية متعددة يجدر الإشارة إليها أولها هى بنية الوقت عند حجازى وكيف أن الشاعر كلما تقدم به العمر غاص فى التصادم مع الزمن من خلال مقولة رئيسية فى الديوان وهى أن ما تبقى من العمر أقل مما مضى وهناك ثلاثة خطوط رئيسية فى الديوان هى خط الرمل الصحراوى الذى كان رمزا أحاط بمقتل المفكر فرج فودة 1992، ثم خط الظلام وهو ما صاحب العدوان على محفوظ عام 1994، ثم خط الهمج والتعصب الذى أفسد مصر وبعد ذلك خط الطغاة بوصفهم رسل الموت والدمار فى المجتمع المصرى ولا بد أن نشير إلى موقف الديوان من الواقع المصرى العام وتحولاته من الزمن الفرعونى الى الزمن الحديث وأخيرا أرى أنه من المهم التطرق إلى الذات الشاعرة لحجازى وكيف أننى أطلقت عليها فى دراسات سابقة المسافر الأبدى ولكن فى هذا الديوان تغير السفر إلى الرحيل وهناك ثمة ملاحظة وتعد إضافة جديدة وهى مفردة العرى التى ترددت كثيرا فى الديوان والتى تعبر عن رؤية حجازى الصوفية الجديدة ونخلص فى النهاية إلى أن الديوان يمثل إضافة مهمة إلى شاعرية حجازى وهى إضافة استمرت أكثر من 20 عاما. ومن جانبه يرى الشاعر والناقد شعبان يوسف أن ديوان حجازى الذى صدر بعد اكثر من عشرين عاما يعد حدث مهم وليس مجرد كتابا عاديا لأنه يصدر من شاعر كبير وبعد فترة انقطاع طويلة ويضيف أن قصائد هذا الديوان لا تعد إضافة كمية، إنما تعد إضافة كيفية ونوعية لما تحمله من توسع فى المعانى التى تنطوى عليها تجربة حجازى الشعرية لذلك كان احتفاء الحضور به كبيرا عندما أقمنا له ندوة نقدية بورشة الزيتون مؤخرا وكانت ندوة فاتنة الى أبعد الحدود وحجازى كان متألقا كعادته وتحدث عن خصوصيات حميمية لأول مرة فى حياته حيث ذكر علاقته بوالدته التى خصها بقصيدة فى هذا الديوان وانبهاره بشخصيتها واعتبرها مرجعه الأساسى فى تكوينه الفنى وذكر أنها كانت الزوجة الرابعة لأبيه وأصيبت بقدر كبير من الحزن لتوالى وفات أخوتها فى الوقت الذى كان حجازى فيه صغيرا حيث كانت تقيم دائما ولائم الحزن لدرجة أنها كانت من كثرة بكائها تبكيه وهو لا يعرف لماذا يبكى وكانت أيضا تنشد بعض الاغانى الحزينة وهذا كان أول رافد جعله ينجذب ويحب الموسيقى. ويؤكد الشاعر شعبان يوسف أن ما لايعرفه الكثيرين أن حجازى يمتلك صوتا ملائكيا جميلا وتستمتع عندما تسمع منه أغانى المطرب عبد المطلب وإذا كانت والدته الركن الأساسى فى تكوينه الفنى كان والده الركن الأساسى فى تكوينه العقلى وفى الديوان قصيدة أثارت إعجاب الكثيرين بحجازى الإنسان قبل الشاعر وتعد نوعا من المراجعة وإهداء وتقدير ورد اعتبار ورثاء للعقاد الذى هجاه حجازى بقصيدة قديمة فى بدايته الشعرية أما «طلل الوقت» وهى القصيدة التى يحمل اسمها الديوان فأشار حجازى بأنه قد استوحاها من أحد مقطوعات الموسيقى المغربية المفتون بها وعلى هامش الندوة قام الناقد الشاب رضا عطية بتقديم قراءة نقدية لبعض القصائد غلب عليها الطابع البلاغى وأشار الى المحسنات البديعية والصور الجمالية من خلال بحث تطبيقى.