عندما أبدع الشاعر ذو الرمة بيتيه الشهيرين: عشية مالي حيلة غير أنني بلقط الحصي والخط في الارض مولع أخط وأمحو الخط ثم أعيده بكفي والغربان في الدار وقع لم يكن ليدور بخلده أن شاعرا كبيرا من شعراء القرنين العشرين والحادي والعشرين هو أحمد عبد المعطي حجازي ستستوقفه صورة الطيور الوقع علي الطلل القديم, بعد أن خلت الدار من الأهل والرفاق والأحباب, منفعلا بهذه التجربة الوجودية المزلزلة في معني الفقد والغربة والتوحد مع الفناء, وهو يقول في القصيدة التي سمي بها ديوانه الجديد طلل الوقت: طلل الوقت., والطيور عليه وقع شجر ليس في المكان وجوه غريقة في المرايا وأصبحت الطيور الوقع علي طلل الوقت, صورة لنزف عميق, ووجوه غارقات في المرايا, وأسيرات يستغثن فلا يغيثهن أحد, وشجر يرحل ووقت تشظي, ولم يبق إلا سراب الغياب.. في قصيدة القصائد في الديوان طلل الوقت تبلغ شاعرية حجازي ذروة صعودها وتألقها معا. كل شئ يلمسه الشاعر أو يتخيله يرحل, والوقت هذه الغصة التي تحول بين الشاعر وارتشاف الحياة يتجلي في سراب ممعن وصور عابرة, ويتجسد من خلاله الحس بجسدية الأشياء وهي موضع الفتنة ومدارها المشتهي وعدمية الموت الذي يشتهيه الشاعر الذي تذبل روحه وتأفل في موكب الرحيل, وقد أصبحت الرحلة الطويلة عدما, والطريق تيها بعد تيه, والحياة في جوهرها أطلال وقت! لقد التفت إبراهيم ناجي قبل حجازي الي مفردة الأطلال, جاعلا منها عنوانا لقصيدة عاطفية دامعة يقول عنها: هذه قصة حب عاثر, التقيا وتحابا, ثم انتهت القصة بأنها هي صارت أطلال جسد, وصار هو أطلال روح. فإذا شغلنا عنوان قصيدته الثانية خارج الوقت وجدنا الشاعر يدلي باعترافات أساسية هي مناراته المضوئة علي مدي رحلته, الوقت ما عاد يسعفنا(وهو وقت من طراز آخر بعيد الصلة بطلل الوقت) وأنا لم أعد أعرف الوقت( وهذا ايضا وقت ثالث قادم من فضاء شعري غير الفضاءين السابقين) وأنا راحل أبدا و(سيبقي راحلا حتي النهاية لأنه لا يتمني الوصول) ولا يريد من الحلم أن يحققه( كيلا يشاركني الوقت فيه) الوقت هنا شريك نهم مخادع يسطو علي كل ما يحصله الإنسان ليقاسمه فيه, والحلم الذي يحط علي جبهته فجأة ويباغته بالهديل( ويرحل في سره خارج الوقت! وهو وقت رابع أو خامس يأخذنا معه مستغرقا في الرحيل), تمنيت أن يكون هناك الباحث الذي يعكف علي ترددات مفردة الوقت في شعر حجازي وفي ديوانه طلل الوقت بالذات إذن لكسبنا ثروة شعرية ودلالية كبيرة تضيء لنا بعض أبهاء عالمه الشعري, وخاصة بعد أن نتوقف عند قوله: وأنا الآن حر, لأن الزمان غريمي وأن الذي لي فيه قليل! اللغة الرصينة المكتنزة بدلالاتها وإيحاءاتها في هذا الديوان, والتقفية المتأثرة في نهايات مقاطع كثير من قصائد, والإيقاع الموسيقي الهادر, الجياش, المتدفق في سهولة تحكمه وتشكيل منضبط وفضاء يتيح لطيور القصيدة أن تنطلق وتحلق في حرية وخفة والشاعر القانص يعرف كيف يريش سهامه, ويطلق ما في جعبته ويختزن عرائس صيده, كلها سمات أصيلة في قصائد هذا الديوان. لذها فهو في قصائده الثلاثة: إرادة الحياة وعودة الروح والطغاة. يصعد من مقام الي مقام ويختبر الوتر حالا بعد حال, ماضيا في تجليات صعوده راقيا بلا توقف, بعد أن أحس بأن الضربات الأولي تشي بنغم جديد وعزف فريد, وأن القيثارة حبلي بما لم يقله غيره فليعزفه علي مسامعنا في تؤدة وثقة, وفي طرب وانفعال. وفي نشوة من أطمأن علي امتلاك مستمعيه, والقدرة علي تحريكهم, وغبطة من جرب وذاق وعرف, مدركا أنه لا يكتفي الآن بملامسة ما كان في السابق, وإنما هو يتجاوزه الآن ويمعن في معراجه الشعري إلي الأقصي والأبعد قدرا وقيمة, وهو يلاحق شفقا علي سور المدينة, ويناطح العقاد في كروانه, ويقتنص صورة طه حسين سارق النار, ويستعيد صباه البعيد في بكائيته البديعة لأمه, ويذكرنا وهو يصور الهجوم الوحشي علي عنق نجيب محفوظ في الساعة الخامسة مساء بقصيدة لوركا شاعر إسبانيا العظيم في رثاء صديقه مصارع الثيران إجنازيو سانشيث الذي كان موته في تمام الخامسة مساء وشاعرنا راكض ابدا لا يبالي, يحتك غباره بقدامي ومحدثين, وأموات وأحياء, ويرتطم فرسه الشعري بوجوه ومدن ورجال وأشباه رجال ونساء واشباه نساء, قد يستوقفونه وقد لا يستوقفونه لكنه في كل أحواله وفي هذا الديوان الجديد بالذات يقدم قصيدته الفارعة المتحدية لشموخ القصيدة العمودية في الموروث العربي لأنها تمتلك عناصرها الفتية المستمرة والباقية, من إحكام وجلال, وزهو, واللعب الحر باللغة التي يجيدها أمتطاء صهوتها وتفجير جدتها وعرض مقتنياتها وكأننا نطالعها لأول مرة, مكتسية بهويتها العربية التي لا يدركها إلا من سلم وجدانهم وذوقهم من رطانة الترجمات وهشاشة الأشكال التي تولد لتوأد وكأنها لم تكن, نعبرها ونحن نقول: أين الثري من الثرايا!! المزيد من مقالات فاروق شوشة