ست عشرة لؤلؤة, نقية صافية, وسبيكة تلمع فيها عروق الذهب الخالص, تلك هي قصائد الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي في مجموعته الشعرية الجديدة طلل الوقت, تتلألأ بفيض الشاعرية المنسكب ظلالا وصورا ومعاني, وجدائل شجر يتفاوح بقدرته علي الإخصاب, وبلابل وكروانات شعرية, يشجيها أن تنعي الوقت حينا, وأن تتغني بالحياة حينا, لكنها في كل الأحيان شواهد أيام وأحداث لم تخل من توقيع الشاعر علي صفحاتها المتعددة الألوان. هذا هو حجازي. أخيرا يحزم أمره ويعلن عن اكتمال فردوسه الشعري, الذي طالما انعقد ثمره وامتلأت حباته وسطعت يواقيته, فاردا ظلال مملكته الشعرية, من جديد, علي أفق اللحظة الشعرية الراهنة, وكأنه- كالعهد به دائما- يدلنا علي الطريق, ويوقفنا في المحجة ويقول لنا هذا هو الشعر, وهذا هو الشاعر, يامن يستنفركم الشتات, وتضللكم فوضي التسميات وتلوكون كلاما أبله لا يملك أن يرقص علي قدمين, ولا أن يغني في زمن شاه فيه الغناء. أجل يجيء طلل الوقت وكأنه وقفة الأعراف لصاحبه, حين أطلق صرخته المنذرة المبشرة معا, في زمن كان يسبقنا ولا نلاحقه, ورؤية كاشفة كان نبي الشعر يهتف بها وقد بح صوته: يا أيها الرمل ارتحل! واذهب لشأنك ياجراد, إرم الجديدة من دم الكتاب تولد,من كلام الشاعر المنفي عنها, يوم عاث بها الفساد وعربدت فيها الطغاة! الآن أصبح للعبارة أن تسير علي الشفاه, فتنحني كل الجباه. وكأن إشارته إلي الطغاة في هذه القصيدة المبكرة كانت إرهاصا بقصيدته عن الطغاة التي جاءت في أوانها, وكشف عنها الزمان الطويل من المعاناة والعري والجوع حقيقة سريانها وفتكها فينا وبنا, وهو يقول: والطغاة نقائصنا, خوفنا جبروت الطغاة, وسكينهم جرحنا! صمتنا صوتهم, وملابسهم عرينا! هكذا حين يكتمل النقص بالنقص, تصبح أمتنا أمتين, وتنشق نصفين, ضدا وضدا, يصبح العبد الطاغية, والذي صار طاغية صار عبدا, يظل يبدل بالقيد قيدا! وصولا إلي صيحة الشاعر المدوية: ولقد آن يامصر, ياغالية آن أن تستعيدي شبابك, أن تولدي مرة ثانية. آن أن يسقط العبد فيك, وأن تسقط الجارية. لكي يسقط الطاغية! لقد أتيح للشاعر, أن يري ويلمس ويعاين معشوقته التي يتجسد فيها وتتجسد فيه: ذات العماد, إرم التي لم يبن بان مثلها, وهي تنفض عنها رداء الموت, وتتكحل عيناها بإشراقه يوم جديد يهل, كما كحل هو عينيه من صباها, ولكن طرفه اليوم لم يعد حسيرا, وهو يعاين إرادة الحياة, وعودة الروح, وسقوط الطغاة, ويمجد سارق النار, ويغني للشعر والشاعر, ويهتف للنور. لقد انتفض طلل الوقت, فلم يعد طللا في المكان أو الزمان, المكان يحتشد ويضج ويتراقص ويغني, والزمان يخضوضر ويعشب, ويضفي نضارته وزهوه علي كل الكائنات. والشاعر الشاعر يعتلي صهوة المدينة, ويلوح في كل اتجاهاتها بأعلام الحرية والانتصار, متم رسالته وبشارته, نافثا من روحه الفنية المتوثبة في روحها, ناسجا من كلماته نشيدها, وهو يغني معها: ولابد للشعب ان يتعلم كيف يغني ويرقص, فالأرض تهتز في وقع أقدامه, ويشب علي ظله, فيطول السماء. وكيف يحب الرجال النساء! ولابد للشعب ان يزرع القمح, فالقمح في رحم الأرض بذرتنا, ودليل قرابتنا, وهو جسم وروح, وخبز وماء, شرايين خضراء يمشي دم الارض فيها, وتمشي دماء البشر! ولابد في الارض من كرمة, نستظل بها في النهار, ونرضع من ثديها في المساء, ونرضع من ثديها في السحر.ولابد للشعب أن ينتصر!. ليست مصادفة أن يظل طلل الوقت حبيسا بين أوراق حجازي حتي تجيء لحظة الحرية, لحظة النصر.لابد ان شاعرنا كان يدرك في عمق أعماقه أن طلل الوقت ليس نهايته البعيدة أو منتهاه. وأن وقتا جديدا قادما سيهيل من فوقه طبقات الزمن الرملية, ليحيله إلي طلل زمان معشب مخضوضر. وهو لم يستخدم مفردة الزمن أو الزمان, لأن مفردة الوقت تشير إلي زمن قصير عابر, لابد أن يكون بالضرورة قصيرا عابرا, ولم نكن ندري أن طلل الوقت سيجثم علي أنفاسنا طيلة هذه السنوات, لكنها في عمر الزمان لحظات, وفي عمر الأمم والشعوب غفوة تعقبها انتباهة, وديوان حجازي يقول لنا بلغة الشعر الحقيقي: انتبهوا, وتأملوا إبداع النضج والخبرة المكتنزة, وجدل الشعر والوعي, وسطوع الفكر الذائب في قنينة الشعر, ودورة الأيام منسكبة ومختمرة في تلافيف القصيدة. والحديث موصول. المزيد من مقالات فاروق شوشة