دخلنا فى متاهة تحتاج إلى معجزة للخروج منها.. لا أتحدث عن الفتنة الطائفية التى ردد كثيرون اسمها مقترنا بأحداث ماسبيرو الدامية.. وإنما أتحدث عن خطر أكبر وأعظم.. الفتنة الطائفية فى الحقيقة مشكلة افتراضية أكثر منها مشكلة واقعية.. أعرف أن التهوين خطأ وأعرف أن هناك أسباباً كثيرة - قديمة وحديثة - وراء غضب المسيحيين أحياناً واحتقان المسلمين أحياناً.. لكن كل ذلك ليس معناه أن هناك فتنة طائفية فى مصر.. لو أن هناك فتنة لكانت مصر كلها قد احترقت يوم الأحد الماضى!.. ثم إن مصر نجت من كل أحداث الحمقى والمهاويس من الجانبين!.. المتاهة التى أقصدها والخطر الذى أتحدث عنه هو العلاقة بين الشعب والجيش التى دخلت مرحلة جديدة بعد أحداث ماسبيرو.. مرحلة ستضع الجيش حتما فى اختبارات صعبة وتضع الشعب كذلك فى اختبارات أصعب.. وتضع مصر كلها على حافة الهاوية.. ليس خافيا أن مصر استطاعت الحفاظ نسبيا على استقرارها خلال الشهور الماضية بفضل الدور الصعب الذى قام به الجيش.. وليس خافياً أن الثقة المتبادلة بين الشعب والجيش كان لها الفضل فى تمكين الجيش من أداء هذا الدور الصعب.. لكن الآن يطرح السؤال نفسه: إلى أين تسير العلاقة بين الجيش والشعب؟!.. وليس هناك خلاف على طبيعة الدور الصعب الذى قام به الجيش على امتداد الشهور الماضية.. الجيش قام فى البداية بحقن دماء المصريين بانحيازه للثورة ووقوفه إلى جانبها والاعتراف بمطالبها المشروعة.. ثم أنه تحمل عبء سد الفراغ الأمنى الذى أحدثه انهيار جهاز الشرطة وغيابه عن الشارع المصرى.. ورغم انتشار وحدات الجيش على امتداد محافظات مصر شمالها وجنوبها وشرقها وغربها بعيداً عن ثكناتها.. وهى بالتأكيد مسألة تقلل إلى حد ما من قدرتها على أداء مهامها.. إلا أن الجيش استطاع أن يجتاز اختبارات صعبة ومعقدة فى كثير من المواقع والأماكن التى تتسم بالحساسية الأمنية كسيناء والصحراء الغربية وغيرهما.. ولم يكن فى مقدور الجيش أن يؤدى كل هذه المهام الأمنية الصعبة.. والتى لم يكن مؤهلاً بطبيعته القتالية للقيام بها لولا التفاف الشعب حوله ودعمه وثقته التى منحها له بلا حدود.. ورغم كل محاولات الوقيعة بين الجيش والشعب وجره إلى صدام مع المتظاهرين والغاضبين والمعتصمين.. فإن إصرار الطرفين - الجيش والشعب - على القفز فوق هذه المحاولات حال دون تغيير طبيعة العلاقة التى تربط بينهما وحافظ إلى حد كبير على استقرار مصر النسبى.. صحيح أن الجيش أو مجلسه العسكرى تحديدا واجه انتقادات كثيرة.. وصحيح أن بعض القوى السياسية حاولت أن تجره إلى صدام بالشعب ومع الشعب.. إلا أن الغالبية العظمى استنكرت كل هذه المحاولات والانتقادات وأعلنت بصراحة وقوفها إلى جانب الجيش لأن البديل يعنى سقوط مصر.. إلى أن وقعت الواقعة!.. *** أظنها المرة الأولى التى يدخل فيها الجيش والشعب فى مواجهة من هذا النوع الدامى.. مطاردة الجيش للبلطجية واللصوص وقُطّاع الطرق وتجّار الأسلحة وغيرهم لا تمثل أى مواجهة بين الشعب والجيش.. فهى عمل مشروع لمصلحة البلاد.. لكن اعتداء بعض المتظاهرين بهذا الشكل على أفراد من القوات المسلحة.. ومقتل عدد من المتظاهرين نتيجة ردود فعل هذه القوات المسلحة.. حدث غريب على مصر والمصريين ويمثل سابقة هى الأولى من نوعها.. لابد أن تكون لها تداعياتها.. ومن هذه التداعيات تأثر الأمن سلبا.. فمن المؤكد أن خوف البلطجية واللصوص من قوات الجيش ساعد إلى حد كبير على ضبط إيقاع الشارع.. لكن هل سيستمر هذا الخوف بعد مشاهد مطاردة المتظاهرين لجنود القوات المسلحة أمام ماسبيرو؟!.. ومن هذه التداعيات أيضاً مشاعر جنود القوات المسلحة وضباطها تجاه الشعب.. وتحديدا تجاه المتظاهرين.. صحيح أن قيادات القوات المسلحة تبذل جهدا كبيرا للسيطرة على مشاعر الجنود والضباط وتفرض عليهم أن يمارسوا أقصى درجات ضبط النفس.. لكن بعد الذى رأوه وشاهدوه وبعد مشاهد الدم والقتل والاعتداء على زملائهم.. سيكون ضبط النفس أصعب إن لم يكن مستحيلا.. ومن الطبيعى أنهم سيكونون أكثر استنفارا واستعدادا للتعامل مع المظاهرات المدنية حتى لو كانت تحمل شعار «سلمية سلمية»!.. فى نفس الوقت فإن مقتل هذا العدد الكبير من المتظاهرين - أكثرهم بالطبع من الأقباط - لابد أنه سيترك فى النفوس آثارا من الصعب تجاهلها وإغفالها.. ورغم أن قيادات الجيش حرصت من خلال المؤتمر الصحفى العالمى على توضيح الحقائق والتأكيد على أن أفراد القوات المسلحة لم يطلقون النيران لأنهم كانوا غير مسلحين.. وأن حوادث الدهس كانت مجرد ردود فعل غير محسوبة.. رغم ذلك كله فإن وقوع ضحايا وشهداء يلقى بالمسئولية على القوات المسلحة التى لم تنجح فى النهاية فى حماية المتظاهرين.. وفى مثل هذه الأجواء يمكن أن تتكرر الأخطاء فتولد الكوارث.. ويكون من السذاجة أن نتصور أن ذلك قد حدث عفويا بدون تدبير وتخطيط.. أو كما يقولون مع سبق الإصرار والترصد!.. *** كلنا يذكر محاولات بعض القوى السياسية الصدام مع الجيش ومحاولة هذه القوى تنظيم مظاهرات أرادت أن تقتحم وزارة الدفاع.. لكن قوات الجيش بالتعاون مع أبناء منطقة العباسية نجحوا فى التصدى لهذه المحاولة.. كلنا يذكر أيضاً أن هذه القوى السياسية حاولت أن تكرر المحاولة مرة ومرتين.. الملاحظة الغريبة ظهور دعوات للهجوم على وحدات عسكرية خلال مناسبة الاحتفال بذكرى انتصار أكتوبر.. ثم هذا النقد اللاذع غير المسبوق للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وقائده لأسباب تبدو مفتعلة تماما.. ثم الواقعة نفسها.. أسلحة ورصاص وحرق للمدرعات.. حرق المدرعات تحديدا مسألة تحتاج إلى خبرة ومعرفة وتدريب ولا يمكن أن تكون مجرد رد فعل للغضب.. ثم ما ذكره شهود العيان عن انطلاق الرصاص من الفندق القريب من ماسبيرو وعن قيام مدنى بقيادة مدرعة عسكرية وسحق المتظاهرين بها.. الأكثر غرابة أن بعض المحافظات وأبرزها الإسكندرية شهدت محاولات من متظاهرين - أقباطاً ومسلمين - للاحتكاك بالجيش والصدام معه فى نفس توقيت أحداث ماسبيرو!.. ورغم المشاهد التى أذاعها الجيش والتى أظهرت بوضوح أبعاد المؤامرة التى استهدفت الإيقاع بين الجيش والشعب فإنه كانت هناك قنوات فضائية محلية تقود هجوما شرسا على الجيش وتحاول إقناع المشاهدين بأنه تعامل بوحشية مع المتظاهرين.. وأكثر من ذلك فقد زعمت هذه القنوات أن الجيش لم يكن له قتلى وأنه يزعم ذلك للتغطية على ممارساته.. الوحشية!.. وعندما كشف المؤتمر الصحفى الحقائق الغائبة تحول هؤلاء من الهجوم على الجيش إلى الهجوم على الإعلام المصرى وتحديدا التليفزيون واتهموه بتحريض المسلمين على الأقباط.. كأن مذيعى التليفزيون هم الذين قتلوا المتظاهرين!.. مع أن ذلك غير صحيح.. وإنما الصحيح أنهم هم الذين حرّضوا الناس على الجيش وحاولوا توسيع دائرة المواجهة معه!.. مؤامرة مع سبق الإصرار والترصد كما ذكرت!.. *** ليست المرة الأولى التى نسمع فيها تصريحات من قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة يتحدثون فيها عن الأيادى الخارجية والداخلية التى تعبث بأمن مصر وتسعى لتحقيق الفوضى.. أول تصريح للدكتور عصام شرف رئيس الوزراء بعد أحداث ماسبيرو قال فيه إنها مؤامرة تستهدف سقوط مصر وليست أحداث فتنة طائفية.. سمعنا نفس الكلام من قبل عند وقوع أحداث امبابة والكشح وغيرهما.. كل الشواهد والمشاهد تقودنا إلى نتيجة واحدة.. المؤامرة!.. لكن لماذا لا يتم الكشف عن أبعاد هذه المؤامرة!؟.. لماذا لم يكشف الجيش عن الأيدى الخارجية والداخلية التى تعبث بأمن مصر واستقرارها؟.. لماذا تمر الأحداث وتتوالى والجناة فى مأمن؟!.. هل يخاف الجيش من ردود فعل الجهات الأجنبية المتآمرة؟.. هل يخاف على مصر من الجهات الداخلية المتعاونة؟!.. لماذا لا يجرب الجيش ويكشف الحقائق؟.. لماذا لا يراهن على الشعب؟!.. لماذا لا يراهن على وقوف الشعب إلى جانبه؟!.. *** قلت إن ما حدث يدخلنا فى متاهة قد يكون من المستحيل الخروج منها.. ومصر لم يعد فى مقدورها بالفعل تحمل تداعيات هذا العبث.. أيها القائمون على مصر وأمن مصر وسلامتها.. أنقذوا مصر وثقوا أن الشعب سينحاز إليكم.. كما انحزتم إليه!..