المتابع لمحاكمات رموز النظام السابق يجد «الأرض» عنصرا يتلازم دوما مع إجرام هؤلاء المتهمين، فأينما تجد الأرض تجد الجريمة، فالواضح جليا أنهم لم يجدوا أيسر ولا أسهل من الاستيلاء على هذا الكنز الذى حبا الله به مصر، فالكل يطمع ويطمح إلى السيطرة على قطعة أرض لكى يجد فيها الثراء السريع، خاصة أن المجتمع بأسره يعانى أزمة فى الإسكان ناجمة عن سيطرة مافيا تجارة العقارات على هذه السوق التى نجحت دوما بدورها منذ عقود طويلة فى تعطيش السوق بشكل دائم لتعظيم مكاسبهم فى غيبة سيادة القانون وقدرته على ردع كل المخالفين. هكذا، أصبحت الأرض مرتعا للفاسدين يتاجرون فيها ليحققوا المليارات، فمجموعة طلعت مصطفى تبيع الوحدة السكنية فى «مدينتى» بالملايين رغم أن أرض المدينة ب «تراب الفلوس»، وعندما اعترض القضاء وقال كلمته تفنن زبانية النظام السابق فى الالتفاف على حكم القضاء، وكذلك فعلت الحكومة مع مجموعة أحمد بهجت الذى حصل على ملايين الأمتار فى أكثر مناطق 6 أكتوبر تميزا بملاليم، ليقيم عليها امبراطورية «دريم لاند» بأموال الغلابة المودعة فى بنوك الدولة، لكنه عندما افتعل التعثر فى السداد لإجبار البنوك على عمل جدولة لديونه، وبدأ بعد ذلك فى الإعلان عن بيع جزء من «أرض الملاليم»، فكانت أشهر مزايدة عالمية، لأن المالك ألغاها رغم تقدم شركات عالمية بعطاءات بالمليارات، هروبا من مطالبات البنوك الباحثة عن حقوق مودعيها. كل ما سبق يعد قليلا جدا مقارنة بما حدث فى برنامج الخصخصة الذى اصطلح عليه كذبا وتدليسا «الإصلاح الاقتصادى»، فإنه على الرغم من يقظة السباقين فى تنفيذ هذا البرنامج المعجزة ودرايتهم بقيمة الأرض فى الشركات التى تنوى الحكومة خصخصتها فإنهم تركوا الأمر بعض الوقت وسارعوا إلي بيع الشركات التى تمتلك مساحات شاسعة من الأراضى التى كانت تقيم فى ذلك الوقت وفقا للقانون بسعر يضاهى سعر المتر فى أقرب منطقة صناعية. وبعد أن افتضح أمر الحكومة وتعالت الأصوات الرافضة لبيع هذه الأرضى بهذا الشكل المخزى، أصدرت المجموعة الوزارية للخصخصة فى 2002 وكان د. عاطف عبيد رئيس الوزراء حينها أصدر قراراً ليضع بعض الضوابط على بيع الأراضى التابعة للشركات العامة المخصخصة، بحيث يترك للمستثمر نسبة من المساحة المقامة عليها الشركة فعليا لتكون متاحة للتوسع فيما بعد على أن يتعهد المشترى برهن هذه المساحة لتكون فرصة للتوسعات، وهذا القرار هو الذى ارتكن اليه القضاء الإدارى فى الحكم بفساد عقد بيع شركة عمر أفندى. وعلى الرغم من صدور هذا القرار لم تتوقف مذبحة الأراضي في برنامج الخصخصة، وتفنن القائمون على هذا البرنامج سواء مختار خطاب أو محمود محي الدين فى التخلص من كل متر أرض تابع للشركات العامة إلى أن بدأ محمود محى الدين فى تنفيذ برنامج اقتصادى ييسر له الاستيلاء على هذه الأراضى وهو برنامج «تسوية الديون التاريخية»، بحيث كان يسمح بمبادلة هذه الأراضى المملوكة للشركات بديون البنوك على أن يتم تقييم سعر هذه الأراضى عن طريق لجنة حكومية بعيدا بدون الالتجاء إلى قانون المناقصات والمزايدات الحكومية، ومن ثم كان هذا البرنامج تطويرا فى آليات الفساد الحكومى وباباً جديداً للنفاذ إلى الرشاوى المليونية التى كثرت خلال السنوات الأخيرة لعهد مبارك ونجليه وشلة المنتفعين. وفى هذا السياق، جاءت وقائع فضائح لا حصر لها فى صفقات بيع الأراضى المملوكة للشركات العامة، فهل يعقل أن تقوم الحكومة ببيع أرض قرية «آمون» الكائنة على شاطئ بحيرة ناصر بثمانين جنيهاً للمتر «لم يُسدد منها سوى 4 جنيهات فقط»، ولماذا لا والمشترى هى شركة مملوكة لوزيرين من وزراء حكومة أحمد نظيف هما أحمد المغربى وزير الإسكان وزهير جرانة وزير السياحة فى وزارة ليمان طرة، فالبائع هو وزارة الاستثمار بصفتها المالكة 47% من شركة مصر - أسوان للسياحة، والمشترى هى شركة وزيرى طرة، وبالتالى فالبيع تم بدون مزادٍ أو خلافه لأرض أقل ما توصف به بالجوهرة بسعر يضاهى سعر متر القماش الشعبى. وهذا بدوره ما دفع بعض رموز المدافعين عن المال العام أمثال المهندس يحيى حسين للقول بأن الأراضى هى كلمة السر فى جميع صفقات الخصخصة، التى اعتادوا على القول بأنها توقفت مع نهاية 2010، بينما الواقع أن عمليات البيع لم تتوقف لحظةً واحدة، لأنه إذا كانت ضربة البداية لوزارة الفكر الجديد فى أعوامها الأولى قد اشتملت على بيوعات أرض «توماس كوك» على النيل، وأرض سيدى عبد الرحمن وأرض إيجوث بميدان التحرير وأرض هضبة المقطم وغيرها من الكنوز. فقد بدأت فى الشهور الأخيرة لحكومة نظيف سابقا - طرة حاليا- مذبحةٌ جديدة لأراضى شركات قطاع الأعمال العام تحت اسمٍ حركى جميل «تسوية الديون التاريخية»، حيث انتُزِع في الفترة من نوفمبر 2009 إلى أبريل 2010 « أى خلال 6 أشهر فقط ما يزيد على 4 ملايين متر مربع مقسمةً على 128 قطعة متميزة من أراضى شركات قطاع الأعمال، التى خصصتها لها الدولة قديماً للتوسع فى النشاط وليس للبيع وكأنها وزارة تقسيم أراضٍ، وتم التنازل عن الأراضى لبعض الدائنين دون مزادٍ أيضاً ووفقاً لتقييم لجان حكومية. وفى ضوء الشفافية المفرطة التى تظلل مصر فى عهد الفكر الجديد، فإن أسعار تقييم نصف القطع تقريباً لا يعلمها إلى الآن إلا الله ثم وزارة الاستثمار وشركاؤها التاريخيون من كبار رجال أعمال الحزب الوطنى طبعا ولا داعى للأمثلة فهى معروفة، لذلك فإن حكومة د. عصام شرف مطالبة بالمسارعة بالإعلان عن أسعار بيع هذه الأراضى للرأى العام للوقوف علي ما تم من فساد فى هذا الملف، وليكون للنيابة العامة دور ملموس للسعى وراء استرداد ما تم بيعه من أراض هى مال عام بأسعار بخس أضاعت على الدولة المليارات فى وقت تحتاج فيه الموازنة العامة لكل جنيه للايفاء باحتياجات المواطنين، الذين ينتظرون المزيد من نسائم ثورة 25 يناير. وحتى يتم الإعلان عن هذه الأسعار، لابد من فضح أمر ما تم بيعه من أراض بأسعار كوميدية معلنة مثل 3500 لأراض في شارع امتداد رمسيس، أو 115 جنيها للمتر فى منطقة المنتزة بالإسكندرية وهذا كله تم بعد عام 2005، ففى القاهرة تم بيع نحو 15 ألف متر مربع مملوكة لشركة «بيع المصنوعات» فى شارع امتداد رمسيس بمدينة نصر مقابل 3500 جنيه للمتر، وفى العباسية وتحديدا فى شارع المنطقة الصناعية تم بيع نحو 12 ألف متر مقابل 3750 جنيها للمتر، وبيعت أيضا قطعة أرض مملوكة لشركة الدلتا للسياحة مساحتها نحو 15 ألف متر بالحى السادس بمدينة نصر مقابل 4000 جنيه للمتر. وفى الإسكندرية، تم بيع 66 ألف متر مربع كانت مملوكة لشركة بورسعيد للأقطان بعزبة أبوسلطان خورشيد بالمنتزة، و825 جنيها للمتر فى منطقة محرم بك ومساحتها نحو 75 ألف متر مربع كانت مملوكة لشركة الأهلية للغزل بشارع ترعة المحمودية، و1200 جنيه للمتر فى منطقة الرمل ومساحتها نحو 22 ألف متر مربع كانت مملوكة لشركة السيوف للغزل بمنطقة العوايد بالرمل، وتم بيع 45 ألف متر مربع مملوكة لشركة النصر لتجفيف الحاصلات بأكثر مناطق محرم بك تميزا مقابل 2000 جنيه للمتر. كما تم بيع أرض سيجورات بحجر النواتية بالإسكندرية أيضا مساحتها نحو 23 ألف متر مربع مقابل 2000 جنيه للمتر، وبيع أيضا أكثر من 10 آلاف متر تابعة لشركة النصر لتجفيف الحاصلات بحجر النواتية مقابل 1500 جنيه للمتر، وتم بيع نحو 83 ألف متر مربع كانت مملوكة لمصنع النسيج والتجهيز بشارع مصطفى كامل بالرأس السوداء بالمنتزة مقابل 950 جنيهاً للمتر. وهل يعقل أن يتم بيع مساحة أرض كائنة فى 473 شارع الهرم بالجيزة مساحتها 7668 متر مربع مقابل 7500 جنيه للمتر فى منطقة لا يباع فيها المتر بأقل من 20 ألف جنيه، ويبدو العجب أيضا فى الجيزة، التى تم فيها بيع نحو 51 ألف متر مربع بساقية مكى مملوكة لمصنع «كولدير» مقابل 4250 جنيها للمتر، وباع أيضا د. محمود محى الدين وزير الاستثمار فى إطار البرنامج العبقرى المسمى «مبادلة الديون التاريخية للقطاع العام» 12 ألف متر مربع كانت مملوكة مصنع الغزل بإمبابة مقابل 4650 جنيها للمتر. وإصرارا على إهدار المال العام، باعت وزارة الاستثمار نحو 50 ألف متر مربع مملوكة لشركة الأخشاب الكائنة فى طريق القاهرةالإسكندرية الزراعى بقليوب مقابل 1200 جنيه للمتر، وباعت أيضا الوزارة 10 آلاف متر بمسطرد كانت مملوكة لشركة «وولتكس»، كما باعت 36 ألف متر ببهتيم كانت مملوكة لشركة «المصرية للغزل» مقابل 850 جنيها للمتر .. إنها حقا كارثة لا يمكن السكوت عنها. وفى صعيد مصر، طالت يد الفساد أيضا أراضى القطاع العام، ففى الفيوم تم بيع 130 ألف متر كانت مملوكة لمصنع الفيوم بقرية منشأة الفيوم مقابل 600 جنيه للمتر، وفى بنى سويف، تم بيع نحو 7 آلاف متر بمنطقة بنى هارون مقابل 1500 جنيه للمتر، وتم بيع نحو 29 ألف متر مربع بمدينة بنى سويف الجديدة مقابل 3000 جنيه للمتر، وتم أيضا بيع نحو 29 ألف متر مربع بعزبة بلبل بمدينة بنى سويف مقابل 2000 جنيها للمتر، وفى المنيا، تم بيع 98 ألف متر مربع كانت مملوكة لشونة ومحلج ملوى مقابل 1200 جنيه للمتر. هكذا، يتضح جليا من مطالعة المعلن من أسعار الأراضى التى قامت وزارة الاستثمار ببيعها فى إطار برنامج «تسوية الديون التاريخية للقطاع العام» أن الفساد فى عمليات البيع كان بجد للركب، وما خفى بالضرورة سيكون أعظم وإلا ما كانت الحكومة مصرة على عدم الإعلان عنه رغم مطالبات الناشطين فى هذا المجال لها بالكشف عن الأسعار التى تم البيع بها.