لقد أدرك الكل، وبلا شك، خطورة المعلومات العلنية، فى عالم تراكمى.. ولقد أثبتت الأيام هذه الخطورة ... ففى مرحلة ما قبل يونيو 1967م، جلس عامل، فى إحدى شركات الأغذية المحفوظة ، يتحدًَّث مع صديق له، على مقهى شعبى بسيط، فى مدينة مجاورة للقاهرة، وشكا له من أن العمل مضاعف هذه الأيام ؛ لإنتاج ضعف المعتاد، من علب الخضروات المحفوظة ...والتقط أحد جواسيس العدو المعلومة، وأبرق بها فوراً، إلى سادته، الذين وضعوا تلك المعلومة ، إلى جوار معلومة أخرى، تقول إن الجندى، فى حالات الحرب، يحصل على ضعف عدد علب الخضروات المحفوظة، الذى يحصل عليه فى الظروف العادية، وتوصلوا من هذا إلى أن (مصر) تستعد جدياً للحرب، فتم توجيه ضربة إليها، قبل أن تكتمل استعداداتها ... وهكذا ، كان حديث بسيط، يتصوًَّر صاحبه أنه بلا معنى، سبباً فى نكسة يونيو 1967م ... ولكن، ولأن عمل المخابرات تراكمى، يفيد من كل خطأ ، فقد أدرك رجال المخابرات، أهمية وخطورة المعلومات العلنية، واستخدموها بنجاح ساحق، فى خطة الخداع الاستراتيجى، قبيل حرب أكتوبر 1973م ، بل طوًَّروا أسلوبها إلى أسلوب لم يستخدم من قبل قط ، ألا وهو الإغراق فى العلنية، إلى حد عدم تصوًَّر العدو أنها متعمًَّدة، وهكذا نشرت الصحف كافة، قبيل حرب أكتوبر، كل أخبار انتشار التيتانوس فى المستشفيات، والاضطرار إلى إخلائها، ونشرت أخبار فساد القمح، وإعدامه ، واستيراد قمح بديل، ولم يدرك العدو، إلا عقب الحرب، أن كل هذا كان خدعة مبتكرة؛ لكى يتم إخلاء المستشفيات؛ لاستقبال جرحى الحرب ومصابيها، واستيراد مخزون احتياطى للقمح، دون أن يدرك العدو ان كل هذا استعداد للحرب .... ونجحت الخدعة ... وتم تسجيلها فى تاريخ المخابرات وفنونه، لكى لا يقع فيها جهاز مخابرات آخر فيما بعد ... وبهذا الأسلوب التراكمى، تتطوًَّر فنون الجاسوسية وتتغيًَّر، مع كل خبرة مكتسبة ، وكل نجاح لجهاز ما، أو فشل لآخر ... وربما يمنح الفشل خبرات أكثر وأسرع؛ لأنه فى عالم المخابرات يظل النجاح فى معظم الأحوال سراً لفترة طويلة، ولكن فضيحة الفشل تنتشر فى سرعة ... والمعلومات فى فن الجاسوسية أشبه بلعبة بازل كبيرة، لكل قطعة منها أهميتها، مهما بلغ صغرها ؛لتكوين الصورة الكاملة، ولكن بعض المعلومات يصعب ، وأحياناً يستحيل التوصًَّل إليها ؛ لذا يستوجب العمل بأساليب سرية وغير تقليدية ؛للحصول عليها ، وهو ما يطلق عليه اسم التجسًَّس ، أى الحصول على المعلومات فى سرية ... والسرية هنا حتمية، إذ إن قيمة الحصول على المعلومة تكمن فى جهل الخصم بحصولك عليها، وإلا فقدت قيمتها الأساسية ، فلو أن العدو يستخدم شفرة ما مثلاً ، وأمكنك الحصول على مفتاحها، فإن قيمة هذا المفتاح تكمن فى جهل العدو حصولك عليه، وإلا فإنه سيقوم بتغيير الشفرة نفسها، أو مفتاحها، فلا تعود للمعلومة أية قيمة ... وفى الحرب العالمية الثانية، ابتكر الألمان جهازاً عبقرياً للشفرة، باسم (انيجما)، أو (اللغز) وهو أشبه بآلة كاتبة ، تستخدم قرصاً دوًَّاراً لطبع الأحرف، يمكن استبداله بمجموعة أخرى من الأقراص، لكل منها ترتيب ورمز مختلفين؛ فعندما تطبع حرف السين مثلاً، فأحد الأقراص يطبعه ميماً، والآخر كافاً ، وهكذا ، وباستخدام الجهاز ، يمكن طبع أوامر مباشرة، تظهر على الورق فى صورة كلمات ليس لها معنى أو مدلول ، وعندما يتسلم الطرف الآخر تلك الأوامر، التى تحوى فى بدايتها رمزاً ، يشير إلى قرص بعينه، فكل ما عليه هو أن يضع ذلك القرص المشار إليه فى جهاز مماثل، ويطبع تلك الكلمات عديمة الدلالة، فتظهر الرسائل على الورق بكلمات واضحة ، تحوى أوامر مباشرة، أو تعليمات صريحة ... ولم تكن المشكلة هنا هى معرفة مفتاح الشفرة، ولكن الحصول على الجهاز نفسه، أو تصميمه، وترتيب الحروف على كل قرص من أقراصه ... وكانت عملية من أقوى عمليات المخابرات البريطانية، فى تلك الفترة الساخنة، نجحت خلالها فى إعادة صنع الجهاز، وفك أعقد شفرات النازية، مما كشف كل رسائل وأوامر العدو السرية، وحقق الانتصار فى الحرب ... ولنجاح هذه العملية، كان من الضرورى استخدام فنون الجاسوسية، إلى أقصى حد ممكن، وبكل أنواعها، من زرع وتجنيد وتنصّت وتقنية، و ... ولهذا حديث آخر.