أثارت الفكرة التى طرحها - على صفحات أكتوبر الأسبوع الماضى - الدكتور محمد الجوادى عن اختيار شخص علمانى ليكون البابا القادم للكنيسة الأرثوذكسية، موجة رفض عارمة فى أوساط الشارع القبطى سواء داخل الكنيسة من قبل رجال الدين وهو أمر متوقع بالطبع، أو حتى داخل جبهة العلمانيين الجدد الذين يمثلون المعارضة الكنسية، وعلى الرغم من اعتراف الجبهة بأن باباوات الكنيسة حتى أوائل القرن الرابع كان يتم اختيارهم من العلمانيين قبل أن يتحول الاختيار ليكون من الرهبان بعد انتشار الرهبنة، إلا أنهم رفضوا الفكرة باعتبار أنها لن تلقى قبولا شعبيا خاصة أن الجميع يرى أن الكرسى الباباوى له قدسية ومهام خاصة تقتضى أن يكون الجالس عليه من رجال الكهنوت. ومع ذلك فقد أثارت الفكرة الجدل مرة أخرى حول لائحة انتخاب البابا التى تطالب جبهة العلمانيين بتعديلها خاصة بند القرعة الهيكلية الذى يطالب البعض بإلغائه باعتبار أن الانتخابات كافية لاختيار المرشح المطلوب كما ينص الإنجيل، فى حين يرى البعض الآخر ومنهم رجال الكهنوت أن القرعة الهيكلية تمثل يد الله فى الاختيار وأنها مذكورة فى الإنجيل فى واقعة اختيار متياس الرسول ليحل محل يهوذا الأسخريوطى. مجمع نيقيه فى البداية أكد القمص صليب متى ساويرس أن سر الكهنوت هو السر السابع من أسرار الكنيسة وهو يشتمل على ثلاث درجات الشموسية والقسيسية والأسقفية وتحت كل درجة من هذه الدرجات هناك رتب معينة فدرجة الأسقفية تشمل الأسقف والمطران ويرأس رجال الكهنوت رئيس الأساقفة وهو البابا. ويرسّم البابا – والكلام مازال على لسان القمص صليب – بوضع اليد، والقديس مارمرقس الرسول عندما أتى إلى مصر ليبشر بالمسيحية كان قد أعطى سلطانا هو وتلاميذ السيد المسيح من خلال الآية « اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس» ويعتبر القديس مرقس هو أول بابا للكنيسة الأرثوذكسية فى مصر وهو من قام برسامة انيانوس الاسكافى أسقفاً على الكنيسة فى الإسكندرية والأخير قام برسامة كهنة وهكذا ظلت الكنيسة جيلا بعد الآخر تقوم برسامة الباباوات والأساقفة بوضع اليد وحلول الروح القدس ومن ثم يجب أن يكون الأسقف أو البطريرك من الرهبان ولم نسمع أبداً فى التاريخ الكنسى - ومنذ نشأة الكنيسة القبطية على يد القديس مرقس وحتى قداسة البابا شنودة الثالث البطريرك ال 117 - أن البابا كان علمانياً. ونفى صليب ما يشيعه البعض من وجود بطاركة علمانيين مشيراً إلى أن هذا لم يحدث أبداً فى التاريخ الكنسى فأنيانوس الاسكافى بعد اعتناقه المسيحية على يد مرقس الرسول نال نعمة الكهنوت المقدس والتى بواسطتها أصبح يحق له رسامة أساقفة وكهنة، أما ما جاء فى رسالة بولس الرسول من أن يكون الأسقف زوج امرأة واحدة فقد كان ذلك فى الكنيسة الأولى فى بداية نشأة وانتشار المسيحية حتى جاء مجمع نيقيه سنة 325 ميلادية والذى قرر أن تكون جميع رتب الكهنوت من الرهبان (وهم البتوليون غير المتزوجين) فيما عدا القساوسة والقمامصة الذين يخدمون فى الكنائس المتصلة بالشعب واعتبر المجمع أن من يأخذ رتبة الأسقفية يكون متزوجاً بكنيسته وليس بامرأة حتى يتفرغ تفرغاً كاملاً للخدمة الكنسية ومن وقتها لم يصبح هناك أسقف أو بطريرك متزوجاً. وبالتالى فإن اختيار بابا علمانى للكنيسة مخالف تماماً لكل القوانين الكنسية ونظامها - كما وضعه السيد المسيح له المجد - ومخالف أيضاً لقرارات المجامع المسكونية. وإذا أراد شخص علمانى أن يصبح بابا فعليه أولاً أن ينخرط فى سلك الرهبنة لفترة طويلة مع العلم بأن اختيار البابا إنما هى دعوة من السماء وليس من البشر ولذلك تجرى القرعة الهيكلية للاختيار بين الثلاثة مرشحين الحاصلين على أعلى الأصوات فى الانتخابات طبقاً للائحة انتخاب البابا وهو ما حدث مع البابا كيرلس السادس والبابا شنودة الثالث فى تاريخنا المعاصر وطبقاً لما جاء بالكتاب المقدس فى سفر أعمال الرسل فى الإصحاح الأول عند اختيار متياس الرسول بدلاً من يهوذا الأسخريوطى الخائن ليكمل الاثنى عشر تلميذا حيث جرت القرعة بين يوسف ومتياس وصلى التلاميذ قائلين «أيها الرب العارف قلوب الجميع عين أنت من هذين الاثنين أيا اخترتهم ليأخذ قرعة هذه الخدمة» ثم ألقوا قرعتهم فوقعت على متياس فحسب مع الاثنى عشر رسولاً وهذا هو الرد على من يطالبون بإلغاء القرعة الهيكلية. القرعة الهيكلية من جهته قال المفكر القبطى جمال أسعد إن اختيار الباباوات فى تاريخ الكنيسة حتى القرن الرابع الميلادى كان يتم من العلمانيين، والعلمانى فى الكنيسة يعنى من غير رجال الدين وعندما كان يرسم العلمانى بابا فى ذلك الوقت كان يتحول من علمانى إلى رجل دين. وأضاف أسعد أنه مع ظهور الرهبنة فى أوائل القرن الرابع وفى عهد أثناسيوس الرسول تمت رسامة أول أسقف من الرهبان ثم بعد ذلك تتابعت الأمور وأصبح عرفاً أن يكون الأساقفة والباباوات من الرهبان حتى أصبح المجمع المقدس - الذى يدير الكنيسة ويُصدر كل قراراتها - من الرهبان - بل لم يعد أى كاهن من غير الرهبان عضواً فى المجمع المقدس على الرغم من أن الكهنة رجال دين أيضاً حتى تحولت الكنيسة إلى مستعمرة رهبانية ولكن هذا العرف أصبح فى سياق الواقع الذى له جذوره والذى أصبح جزءاً من العقيدة حتى ولو لم يكن كذلك فأصبح من الصعب الآن المطالبة برسامة شخص علمانى بابا أو حتى أسقف مع العلم أن آيات الانجيل تقول إن الأسقف يجب أن يكون له أبناء خاضعين له بمعنى أنه يمكن ان يكون متزوجاً ولكن هذا هو الواقع. أما عن الشروط الواجب توافرها لانتخاب البابا والمحددة فى لائحة انتخاب البابا (لائحة 57 ) فهى تشترط فى البابا أن يكون راهباً قضى 15 عاماً فى الرهبنة وألا يقل عمره عن 40 عاماً وأن يتم اختياره بالانتخابات والقرعة الهيكلية، ونحن نقترح تغيير هذه اللائحة كلها لأسباب كثيرة منها أن هذه اللائحة وضعت من أجل وصول أشخاص بعينهم للمنصب فهى ليست لائحة ثابتة بمعنى أنها ليست مستمدة من قوانين الكنيسة حرفياً ولكنها تتغير مع اختلاف واضعيها فمثلاً ما قيمة القرعة الهيكلية فى وجود الانتخابات؟ فالانتخابات حسب النص الإنجيلى - الذى يعطى الشعب الحق فى الاختيار - هى الأساس، فمن يحصل على أعلى الأصوات يكون البابا ولا داعى لإجراء القرعة الهيكلية بين الثلاثة فائزين فى الانتخابات حيث يمكن وقتها أن يكون الشخص حاصلاً على أقل الأصوات بين الثلاثة ويفوز بالقرعة، وما معنى أن يتم وضع 3 ورقات بزعم أن الورقة التى سيتم سحبها هى اختيار السماء؟ فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يضعون ورقة بيضاء؟ باعتبار أن السماء قد لا تريد أى من الثلاثة المرشحين. وأكد أسعد أنه يرفض أن يكون البابا علمانياً لأن هذا يتجاوز الواقع والتاريخ، كما أن هذا الأمر سيكون مرفوضاً من قبل الشعب الذى هو صاحب الاختيار طبقاً للإنجيل.