ماذا يفعل البنك الدولى فى مصر؟.. هذه حكاية يطول شرحها، وعندما نحكيها فسوف نغطى أكثر من نصف قرن من تاريخ المصريين بكل ما تحمله هذه المساحة الزمنية من أفراح وأحزان وخبرات سعيدة ومؤلمة، من الواضح أننا لم نتعلم منها بالقدر الذى يحصَّن أجسادنا ضد غزو الأمراض. هذا عن الحكاية الآجلة، أما الحكاية العاجلة التى يجب أن نحكيها ليس على سبيل قتل الوقت أو كسر حدة الملل والرتابة، ولكن على سبيل لفت الانتباه والاستنفار ومن ثم الوصول إلى قرارات بشأنها وتفعيلها، هذه الحكاية هى حكاية الإعلام المصرى، الكلاسيكى منه والجديد الخاص والقومى، المعارض والمدجن والفاسد، والذى يحتكم إلى أخلاق الضمير المهنى. والساحة المصرية الآن مترعة بكل هذه الأنواع التى تعكس أطيافا مختلفة، تحاصر المتلقى كالوسواس الخناس حين تأتيه عن يمينه وعن يساره ومن أعلاه ومن أسفله فى المنزل والسيارة والمكتب فى حله وترحاله فى صحوه وتكاد تطارده فى نومه وأحلامه، صحافة وفضائيات وإنترنت. - 1 - وعود على بدء أعيد السؤال: ماذا يفعل البنك الدولى فى مصر فى غير الجانب الذى يخص أعماله الاقتصادية أو التنموية كما يدعى القائمون على أمره والسائرون خلفه نياماً؟! تجيب عن جانب من السؤال تلك الدعوة التى وصلتنى فى وقت سابق من معهد البنك الدولى لحضور حلقة نقاش حول «الإعلام فى الفترات الانتقالية» وانعقدت الحلقة منذ حوالى أسبوعين فى القاعة الشرقية للجامعة الأمريكية، وفى غير ترتيب بعد اعتذار عدد من المدعوين غلب على الحضور أنصار الإعلام الحر والخاص تمثل فى عدد من الإعلاميين الليبراليين غير المنتمين لمؤسسات الإعلام القومية، أربعة منهم يحملون الجنسية المصرية ويتوزع الباقون بين جنسيات عربية وأجنبية، أحدهم مدون «بلوجر» أردنى، ولبنانية كانت تدير الجلسة وثالث أمريكى على ما أعتقد. كان المعلن من الدعوة التى وصلتنى أن تنظيم هذه الجلسة يأتى على هامش إطلاق تقرير التنمية الدولى للعام الحالى وموضوعه قضايا «النزاعات والأمن والتنمية» وقريباً من هذا السياق أو حسب رؤية القائمين على البنك أو الجامعة الأمريكية أو المؤسسات التى تقف خلف البنك والجامعة أو رؤية الكائنات التى تقف هناك بعيداً خلف الشاطئ الآخر وترانا من حيث لا نراها (شىء يتول)، هذه الرؤية التى تتلخص فى أن ثورات الشعوب العربية وبالطبع المصرية تدخل فى تصنيف الصراعات أو النزاعات.. ولهذا فالبنك أو الجامعة الأمريكية أو هذه الكائنات التى لم نتفق على تسميتها تريد أن تستطلع آراء الإعلاميين المصريين فى التحول المؤسسى أو كما جاء نصاً بالدعوة: «دور وسائل الإعلام فى تعزيز الانتقال السلس إلى الديمقراطية فى مصر»، هذا هو المعلن على الأقل وهو لا يعنى فى مضمونه إلا أن هناك جهة ما تريد أن تجمع معلومات تساعدها فى دراسة وتحليل الإعلام المصرى بعد ثورة 25يناير ورؤية العاملين فيه للواقع والتغيير المنشود إلى آخره لوضع استراتيجيات تتعلق بعمل هذه المؤسسات الغربية فى بلادنا، يتحركون بهذه الكيفية فى الوقت الذى عجز فيه مسئولينا فى تهدئة العاملين فى مبنى ماسبيرو أو تعيين رئيس لاتحاد الإذاعة والتليفزيون يحظى بالقبول والثقة لدى العاملين فى هذا المبنى الذى يعشش فى جنباته الفساد البيروقراطى. - 2 - تستطيع أن تتحدث كما شئت عن أزمة الإعلام القومى الذى يسخر منه الكارهون لوجوده فيسمونه إعلام النظام، وانطلاقا من هذه التهمة التى تعد الآن من أفعال الخيانة العظمى لا يطالبون فقط بإطلاق رصاصة الرحمة عليه لينسحب من الحياة فى هدوء ولكنهم مصرون على شرشحته وفضحه على رءوس الأشهاد. واحد من الحاضرين فى الحلقة النقاشية سالفة الذكر هدد بأنه سوف يعلن فى القريب عن المبالغ المهولة التى تم صرفها على الإعلام النظامى أو الحكومى فى الفترة السابقة، وقال إن هذه المبالغ تزيد على ما صرف على التعليم والعلاج، على ما أتذكر، وقد يكون محقا فيما قاله لكنه بالتأكيد لا يبغى من هذا الحق إلا الباطل يشهد على ذلك تاريخه فى صناعة الإعلام المسموم الذى لم أرد أن أذّكره به، والذى استوجب فى وقت من الأوقات تدّخل أجهزة الأمن القومى لإيقاف أحد إصداراته، أو دوره كعرّاب صفقات ووسيطاً فاعلاً بين رجال الأعمال وجهات خارجية لاستنساخ تجارب إعلامية انقلابية تكرس للفوضى وتقود إليها تمهيداً للوصول إلى التغيير العولمى المنشود.. لم أشأ أن أواجهه بحقيقته التى أعرفها حتى لا أمنحه فرصة لعب دور الضحية والتوسل برفض حديث التخوين والتكفير ونظرية المؤامرة.. بينما أكاد أصرخ فى نفسى: إذا لم يكن كل هذا الخراب الذى يحدث حولنا هو من صنع المؤامرة.. فماذا عساه أن يكون؟! - 3 - على الإطلاق لا أقصد الدفاع عن الإعلام القومى فى صورته السابقة على ثورة 25يناير، ولا أكتب ما أكتبه من منطلق انتمائى لإحدى مؤسساته لكن من قناعتى بأهمية وجوده ركنا من أركان الأمن القومى فى الحاضر والمستقبل المرعب الذى نستشرف ملامحه منذ عقدين من الزمان تقريباً أو تحديداً منذ تم السماح لإعلام أصحاب المصالح من رجال الأعمال والأيدلوجيين العولميين فى الانطلاق إلى جانب الإعلام القومى ليشكل الجناحان خلال الفترة الماضية منظومة متنافرة مهترئة خربة، أحدهما يرتب للتغيير المنشود عبر التحريض على النظام القائم وإثارة الفتنة بين كل تيارات المجتمع السياسية والدينية وحتى الفئوية بهدف الدفع فى اتجاه محدد، ويسحب الكوادر المهنية من الإعلام القومى تحت إغراء المادة والأخذ بأسباب التقدم التكنولوجى ليصنع نجاحه على أنقاضه، بينما يمارس الإعلام الآخر – الإعلام القومى - فعل الانتحار من الداخل بالتفريط فى كوادره الجيدة ومحاربة من يتمسك منهم بالبقاء فى مؤسسته ناهيك عن تدّخل الأمن فى اختيار رؤساء مجالس الإدارات والتحرير لضمان ولائهم التام، هذا الأمر الذى وصلت ذروة مأساته مع السنوات القليلة الأخيرة قبل سقوط النظام وتدخل الحزب الوطنى السافر والسافل فى اختيار قيادات الإعلام التى أضافت رصيدا سلبياً لمخزون الكراهية الذى كان قد تكون بالفعل عند المصريين تجاه كل ما يأتى من ناحية الحاكم. وبينما كان منحنى الفشل والانهيار يسرع بالإعلام القومى المقروء فى صورة انخفاض أعداد توزيع الصحف والمجلات القومية واحتلال صحافة رجال الأعمال تليها الصحافة الحزبية للمساحات التى تنسحب منها الصحافة القومية، كان انهيارا مماثلاً يحدث فى الإعلام المرئى هذا الكائن الذى تحول إلى ما يشبه الديناصور بجسده الضخم المثقل بأكثر من 43 ألف موظف سدسهم على الأقل يعمل فى قطاع الأمن وهو ما يعكس دلالة المفهوم للوظيفة والمهمة، واقتصر عمل وزير إعلام مصر تقريباعلى تسيير شئون مبنى ماسبيرو والتخديم على الرئيس وأسرته فى مشاريعهما السياسية والتلميع الإعلامى. - 4 - وفى الوقت الذى ضاعت فيه البوصلة والطريق تحت أقدام إعلام ماسبيرو، تحددت المعايير والأهداف والولاءات فى الإعلام الخاص، وفى هذا الصدد يمكن أن نطرح أسئلة من عينة: هل يمكن أن تخرج قناة «أون تى فى» عن توجهات صاحبها نجيب ساويرس؟ أو تتبنى قناة الحياة ما يخالف قناعات السيد البدوى؟ وقس على هذا قنوات السلفية وقنوات الإخوان التى سوف تنطلق أو تلك التى انطلقت بتمويلات مريبة لمناصرة تيار محدد ومرشحين محددين لرئاسة الجمهورية، فكل تيار وكل صاحب مصلحة يعمل من خلال أجندته الخاصة وتوجهاته ويخدّم على مصالحه، وسواء أكانت خطأ أم صوابا، فهى من وجهة نظره لابد أن تسود وأن تنتصر للهدف الذى تأسست من أجله. وتتبقى مصلحة الوطن العليا أو الذى تتفق أغلبية المصريين على أنه مصلحة الوطن، من يتبناها ومن يعبّر عنها؟! وبأى صيغة؟! مع ضمان ألا تنحرف الوسيلة لتعود كما كانت فى الماضى تعبر عن وجهة نظر واحدة أو تمارس الإعلام الشمولى أو التعبوى أو أى من هذه المسميات التى يستخدمها الخبثاء فزاعة لاغتيال إعلام الدولة المصرية لصالح أجنداتهم الخاصة.