فى مثل هذه الأيام.. وعلى مدى عشر سنوات ماضية.. كان المستشار د. جودت الملط رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات.. يقف تحت قبة مجلس الشعب ليحاسب الحكومة على أدائها.. ويقيم نشاطها، ويراجع تنفيذ سياستها الاقتصادية والاجتماعية.. فهو عين السلطة التشريعية طبقاً لما نص عليه الدستور والقانون. ولكن د. الملط كان كأنه يؤذن فى مالطة.. أو ينفخ فى قربة مقطوعة.. فالحكومة والوزراء «ودن من طين والأخرى من عجين».. والرجل يؤكد ويحذر - فى كل مرة - يحضر فيها إلى مجلس الشعب لاستعراض ملاحظاته عن الحسابات الختامية للموازنة العامة للدولة أن سلبيات الحكومة.. تفوق إيجابياتها بنسبة كبيرة جداً! وأذكر أنه وصل به الحال فى بعض السنوات إلى أنه قال بكلمات واضحة تمامًا: إن هناك أزمة ثقة بين المواطنين والحكومة - وكان بالطبع - يقصد حكومة د. أحمد نظيف بسبب كثرة التصريحات الوردية على لسان بعض الوزراء والمحافظين، والتى لم يتحقق منها إلا النذر اليسير. بل أنه قال بالحرف الواحد إن المواطنين لديهم إحساس بتجاهل الحكومة لهموم وأنان المهمشين ومحدودى الدخل! ورغم كل ما كان يردده الملط عن أحوالنا فى بر مصر.. وما يعانيه الناس من مشاكل وأزمات وفقر وغياب التنسيق بين الأجهزة الحكومية والمحليات والقصور والتراخى من قبل بعض الجهات التنفيذية إلا أن هذه الملاحظات التى يشيب لها الولدان.. كانت لا تهز شعرة واحدة فى رءوس وزراء حكومة نظيف.. ومن قبله د. عاطف عبيد.. ولكن كان كل همهم هو التشكيك فيما يقوله.. وأن أرقامه التى يعلنها للشعب وممثلون تحت القبة هى أرقام مضروبة.. حتى لو كانت صادرة من تقارير التنمية البشرية الداخلية والخارجية، أو من وزارة التنمية الاقتصادية، أو من البنك الدولى. *** وأذكر أن المستشار الملط فى إحدى السنوات التى حضر فيها إلى مجلس الشعب استغرقت ملاحظاته على أداء الحكومة حوالى ساعتين إلا الربع.. ولكن وزير المالية السابق د.يوسف بطرس غالى - الهارب حالياً - كان لا يعير أى اهتمام بهذه الملاحظات.. وكان يسلى نفسه باللعب فى تليفونه المحمول.. وكأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد!.. وأن رده على ملاحظات الملط لم يستغرق منه سوى 7 دقائق فقط! بل أنه قال فى إحدى المرات: إن أرقام البنك الدولى التى يستند إليها رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات.. هى أرقام غير حقيقية.. وأنه - يقصد الملط - أصبح ممثلاً للبنك الدولى.. و«جاى يناقشنى فى تقرير البنك الدولى».. وطبعاً كان كلام وزير المالية السابق كلاماً غير مسئول.. لأن الملط كان يقول للحكومة والنواب إن ملاحظاته عن الموازنة وأداء الحكومة.. ليس كلاما مرسلاً.. ولكنه يذكر المصدر فى نهاية كل بند من بنود الجوانب الإيجابية والسلبية.. ويحضر إلى القاعة ومعه حوافظ المستندات التى يعتمد عليها فى ملاحظاته.. وكان يحرص دائماً على أن يوضح للنواب أنه لا يجوز الخلط بين الدولة وبين الحكومة، فالدولة باقية والحكومات متعاقبة.. وأنه لا يجوز أيضاً الخلط بين الحزب وبين الحكومة.. فالحزب يرسم السياسات العامة والحكومة تقوم بالتنفيذ.. وليس بالضرورة أن يكون التنفيذ مطابقاً لسياسات الحزب. وبالطبع كانت هذه الحقائق لا تعجب نواب الأغلبية.. أو بالأحرى أمين التنظيم الأسبق أحمد عز.. وكانوا يعتبرون أن هذه الحقائق «تشكيكاً» فى قدرة حزبهم على إدارة البلاد نحو التقدم.. وأنه لا فرق بين الحكومة والحزب والدولة! فالكل واحد.. وهم أصحاب القول الفصل فى إدارة مصر.. وأن من يقول غير ذلك.. فهو من المشككين، وأنه معارض من أجل المعارضة فقط.. ولا يقدم حلولاً.. إلى آخر هذه الكلمات والشعارات المحفوظة عن المعارضين من نواب الأغلبية! وكان الملط يرد عليهم بأن مهمة الجهاز هى مراقبته أداء الحكومة على أساس معايير الاقتصاد والكفاية والفاعلية. إن مشكلة الملط مع حكومة د. نظيف فى سنواتها الأخيرة أنها كانت لا تعترف بهذه السلبيات التى يرسلها إلى مجلسى الشعب والشورى رغم أنها كانت سلبيات واضحة وضوح الشمس فى عز النهار ولكنهم لا يعترفون بها بسبب عمى بصائر بعضهم!.. وأن عيونهم مركزة على مصالحهم الشخصية أولاً وأخيراً.. وليس فى الإمكان أبدع مما كان!.. وكثيراً ما شاهدت وحضرت صدامًا حادًا بين الملط والحكومة.. مما دعا رئيس مجلس الشعب السابق د. سرور إلى أن قال له فى إحدى المرات: إنه جاء لاستجواب الحكومة..! وكان د. الملط معه كل الحق.. فالحكومة لا تعترف بالسلبيات.. مما دفعه فى يوم من الأيام أن يقول إن الحكومة لا ترد على السلبيات وتقول: «مفيش سلبيات.. وكأن الدنيا لبن وحليب وقشطة»! *** إننى عندما أذكر ما حدث تحت القبة فى الدورات البرلمانية الماضية بين الملط وحكومتى عبيد ونظيف ليس الهدف منه هو الدفاع عن المستشار جودت الملط تجاه بعض الأقلام التى تقول إنه كان لا يتصدى للفساد.. لكننى أقول: إن تقارير الجهاز كان بها آلاف الملاحظات عن أداء الحكومة.. وآلاف التحذيرات من استشراء الفساد فى بعض الوزارات والمصالح والمؤسسات.. ولكن «لا حياة لمن تنادى».. بل إن هذه التقارير فى السنوات الأخيرة كانت لا توزع على المحررين البرلمانيين باعتبارها مادة صحفية دسمة لكشف فساد الحكومة! وكان البعض الآخر منها يحبس فى الأدراج ولا يناقش!.. وسبق أن قلت هذه الملاحظة فى أحد المؤتمرات الصحفية التى عقدها رئيس مجلس الشعب السابق بمناسبة انتهاء إحدى الدورات البرلمانية فى التسعينات! ولا أنسى فى ذلك المؤتمر.. نظرة البرلمانى القدير خالد محيى الدين - رئيس حزب التجمع سابقاً - بارك الله فى عمره، المؤيدة لى فيما قلته.. وكلّف د. سرور اثنين من رؤساء اللجان بالمجلس بالرد علىّ بأن التقارير تناقش حسب الأهمية! *** لقد قدم د. جودت الملط تقاريره الأخيرة - التى كان سيقدمها للبرلمان - إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الوزراء والنائب العام.. وأرجو أن تأخذ حقها من الدراسة والبحث.. حتى لا ننسى ما حدث فى سنوات ما قبل 25 يناير الماضى.. وحتى لا ينفخ الملط فى القربة المقطوعة مرة ثانية!