العالم كله يتابع هذه الأيام ما يفعله معمر القذافى بأبناء شعبه الذين انتفضوا مطالبين بحقوقهم وحريتهم، وهو بدوره لم يضن عليهم بأية وسيلة من وسائل القمع.. يطلق طائراته لكى تزرع الموت دونما تفرقة أو تمييز، ويرسل المرتزقة الأفارقة لذبح شعبه الذى يتوهم أنه يحبه وأنه مستعد للموت فداء له! هو فى داخله يدرك حقيقة أنه حاكم كاذب ومخادع فى نظر الليبيين وأنه صغير وتافه للغاية فى نظر العالم، ومع ذلك، لا يمكنه أن يتخلص من لعب دور الديكتاتور القبائلى المصاب بالبارانويا أو جنون العظمة، فهو الزعيم والقائد لدولة عظمى تحمل اسم (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى)، وهو صاحب النظريات التى تتعلم منها باقى الدول، وهو «ملك ملوك أفريقيا»! ولن أتحدث هنا عن التلون فى المواقف الرسمية للدول والتى تبلورت جميعها فى النهاية فى موقف دولى واحد سواء داخل منظمة الأممالمتحدة أو فى باقى المنظمات الدولية، ولكنى سأتحدث عن تلون شخصيات عامة عربية من سياسيين وصحفيين وكتاب وفنانين باعوا أنفسهم للديكتاتور الليبى مثلما باعوا أنفسهم من قبل لصدام حسين بحجة واهية وهى أنهم ينتمون إلى ما يسمى بالتيار القومى العربى. ذهبوا إليه ليتملقوه ويداهنوه مثلما تملقوا وداهنوا صدام حسين من قبل وعادوا ليتفاخروا وينشروا صورهم وقصصهم مع «ملك الملوك» فى الصحف العربية، ليس هذا فقط، بل تطوع أحدهم - وكله بثمنه طبعاً - ونشر ملحقاً خاصاً يضم الكتاب الأخضر فى الصحيفة التى كان يرأس تحريرها قبل أن يفتح الله عليه ويرأس تحرير صحيفة «أسبوعية» يملكها الآن! ذهبت الوفود تلو الوفود لتعود محملة بهدايا أقلها تليفزيون ماركة (قاريونس) وكتاب أخضر يحمل إهداء وتوقيع «الزعيم والقائد» وما خفى كان أعظم. ولم تقتصر هذه الحالة على بعض السياسيين والصحفيين والكتاب والفنانين المصريين، ولكنها امتدت تحت غطاء «القومية والوحدوية» لتشمل آخرين من دول عربية عدة، بل إنها وصلت إلى سياسيين عرب من داخل إسرائيل. فقد نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية مقالاً لسلمان مصالحه، وهو كاتب ومترجم وشاعر من عرب إسرائيل، جاء فيه إن ممثلين من كل الأحزاب والطوائف والمنظمات العربية ذهبوا ضمن وفد إلى ليبيا منهم أعضاء كنيست مثل محمد بركة وحسنين الزعبى وجمال زحالقه وطلب الصانع وخليط آخر من شخصيات عالية المقام دنيئة النفس، جميعهم مروا أمام الزعيم الليبى وانحنوا له وهم يصافحونه، وهو من ناحيته أخذ يتفحصهم من وراء نظارته الشمسية ثم أجلسهم فى طرف خيمته ليعلمهم نظريته فى علم السكان. ويضيف مصالحه فى مقاله: حتى عضو الكنيست السابق، عزمى بشارة، الذى هرب وبدأ فى الظهور كمحلل سياسى فى إحدى القنوات الفضائية التابعة لديكتاتور صغير آخر، ذهب ليحتمى بخيمة القذافى، لكن ونظراً لأنه هو الآخر مصاب بالبارانويا، لم يكن من اللائق به أن ينضم إلى وفد عرب إسرائيل، ولذلك، أراد أن يقوم بزيارة منفردة يتحدث خلالها مع القذافى الند للند.. مريض بارانويا مقابل مريض بارانويا، وبشارة بذلك لا يختلف عن غالبية المثقفين العرب المتلونين، فهو الخادم المطيع والمخلص للديكتاتور طالما أنه فى الحكم ويحكم قبضته على شعبه. فجأة، وعندما انهار نظام القذافى، تذكر عزمى بشارة أن هناك شعباً اسمه الشعب الليبى، وهو كعادته لم يتفوه بكلمة واحدة عن الممارسات التى يرتكبها النظام الحاكم فى سوريا، وهو النظام الذى يقوم منذ عشرات السنين بقمع المواطنين الطامحين للحرية، الأمر الذى دعا أحدهم وهو مثقف سورى منفى فى باريس يدعى صبحى الحديدى لأن يقول (لماذا لا يحق للشعب السورى الحصول على حقوقه وحريته التى تمتع بها بشارة فى فلسطين بفضل أعدائه الصهاينة؟). الحقيقة - كما يقول مصالحه - أن المثقفين العرب من عينة بشارة يشبهون آكلى الرمم، فهم ينتظرون على الأطراف كقطيع من الضباع، يرقبون إلى أين تهب الرياح فى الغابة السياسية العربية، ويتحينون الفرصة لكى ينقضوا للحصول على نصيبهم من الفريسة. ويضيف مصالحه: إن كل الشخصيات العربية العامة التى سافرت إلى ليبيا كانوا مرتزقة سياسيين فى خدمة الديكتاتور معمر القذافى، وهم مطالبون الآن بالاعتراف بخطئهم وطلب الصفح أولاً من الشعب الليبى، والأجدر بهم أن يطلبوا الصفح أيضاً من المواطنين العرب الذين يتباهون بتمثيلهم. إن مثل هذه الوقفة مع النفس ليست من متطلبات الواقع فقط ولكنها أيضاً ستكون دلالة على تعلمهم للدرس ومحاولتهم للتغيير من أنفسهم، وإن لم يفعلوا، فعلى المواطنين العرب أن يعطوهم ظهورهم وأن يلقوا بهم فى أقرب صندوق قمامة.