شاهدت إحدى المظاهرات القبطية الغاضبة بعد حادث الإسكندرية، وشاهدت الأمن وهو يحمى المتظاهرين.. حرصاً عليهم.. وعلى أمن مصر فى ذات الوقت.. حتى أن جنود الأمن المركزى تعرضوا للضرب والاعتداء ولم يردوا.. بل إن أحدهم سالت دماؤه وحمله زملاؤه.. ولم يبادلوا المتجاوزين ذات الأسلوب المرفوض بكل المقاييس، لقد سجلت هذا المشهد بالفيديو كى يكون قرينة مؤكدة لكيفية تعامل الأمن مع الأخوة الأقباط بكل الحرص والاحترام والتقدير لمشاعرهم إثر الحادث المفجع الذى شهدته الإسكندرية ليلة عيد الميلاد. بداية يجب أن يدرك الجميع - والأخوة المسيحيون فى مقدمتهم - أن هذا الحادث الإجرامى ليس موجهاً ضدهم بالدرجة الأولى.. بل إنه موجه ضد أمن مصر ومكانتها ودورها المشهود والمعروف على مدار التاريخ.. ولكن المعتدين – ومن وراءهم – اختاروا الزمان والمكان والضحية وسيلة لتحقيق هذا الهدف الخبيث: هز استقرار مصر وزعزعة أمنها.. والأخطر من ذلك أنهم يريدون انتزاع تنازلات سياسية فى قضايا أخرى.. ليست لها علاقة بالأخوة المسيحيين.. نعم إنهم هم الضحية.. ولكنهم ليسوا الهدف الأسمى والأهم لمدبرى المخطط الشيطانى. أيضاً فإن ما حدث ليست له علاقة بالإسلام والأديان كافة.. من قريب أو بعيد، فأى دين - خاصة الإسلام - يدعو إلى التسامح والحب والتواصل والتراحم.. ولا يقبل العنف والإرهاب وسفك الدماء.. وقرآننا يقول: «ومن قتل نفساً بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً» صدق الله العظيم، فقتل النفس محرم شرعاً وعرفاً وقانوناً، والنفس هنا تشمل البشرية كلها.. بكل ألوانها وأعراقها ودياناتها.. وليست الإسلام أو المسيحية أو اليهودية فقط. لذا يجب عدم الربط بين الإسلام والإرهاب.. وخاصة هذا الحادث الإجرامى بأى صورة من الصور.. فالإسلام برىء من كل هذه التجاوزات والانتهاكات التى يسعى منفذوها ومدبروها لتحقيق أهداف سياسية أخرى بعيدة عن الدين.. وإن ألبسوها عباءة الدين وشعاراته. بل إننى أكاد أشك أن تنظيم القاعدة يقف وراء هذه الهجمات، وربما حرص مبتكرو هذا التنظيم على إبقائه سرياً وهلامياً ومشاعاً بين مختلف دول العالم.. حتى تستغله أطراف عديدة تتناقض مع القاعدة جذرياً.. أيديولوجياً وسياسياً.. لبلوغ أهدافها من خلال القاعدة، وليس أدل على ذلك من أن هذا التنظيم نشأ فى أحضان المخابرات الغربية ووفرت لقادته ملاذات آمنة.. فى وقت بُح فيه صوت مصر وباءت محاولاتها بالفشل مع العواصمالغربية لمنع التنظيمات الإرهابية من العمل والانتشار، بل إن هذه العلاقة الغربية.. الغريبة والمريبة.. مع تنظيم القاعدة فى بداياته مازالت تثير الشكوك حول ممارساته وعلاقاته واستمراريته حتى الآن. بمعنى آخر.. فإن تنظيم القاعدة يمنح هذه القوى مبررات ومسوغات قوية لاستمرار الحملة ضد الدول الإسلامية والتدخل فى شئونها وغزوها بل احتلال بعضها.. بحجة مكافحة الإرهاب، أى أن وجود بن لادن والظواهرى وأعوانهما يمنح هذه القوى الغربية – وإسرائيل أيضاً – فرصة ذهبية لتحقيق مخططاتها لتمزيق البلاد العربية والإسلامية، وأكبر الأدلة ما حدث فى العراق.. عندما زعمت الولاياتالمتحدة أن صدام كان على علاقة بالقاعدة.. ثم تبين كذب كل هذه الادعاءات.. ولكن بعد فوات الأوان.. وتدمير العراق الذى لن يعود كما كان.. بل ينتظره تمزيق آخر.. قد يبدأ بكردستان.. بعد جنوب السودان!! *** ولكن النقطة المحورية فى هذا التحليل تكمن فى تراجع الوسطية والاعتدال عن مجتمعنا المصرى خاصة.. والمجتمعات العربية والإسلامية عامة.. رغم أن شواهد التاريخ تؤكد – على مدى آلاف السنين – أن المصرى يحظى بشخصية وسطية معتدلة هادئة ومسالمة ومحبة للخير.. بل ومرحبة بكل الضيوف. الإنسان المصرى يرتبط بالنيل.. شريان الحياة.. ومحور الحركة كلها، وهو ينساب بسلاسة وهدوء.. دون أمواج عاتبة كما هو الحال فى البحار والمحيطات أو التضاريس الجبلية الوعرة، وقد انعكس هذا على تركيبة الإنسان المصرى الذى ارتبط بالأرض وبالنيل وعشقهما معاً، بل إن هذا التأثير انعكس على كل من حضر إلى مصر.. زائراً أو غازياً!! الكل تأثر بالشخصية المصرية البسيطة المسالمة الودودة. حتى أولاد البلد.. فى قاهرة المعز.. بعيداً عن قبلى وبحرى.. تأثروا بالنيل وارتبطوا به وظلت شخصيتهم هادئة ومسالمة.. مع اعتزازهم بأصلهم وبكرامتهم وحرصهم على حريتهم، فالكل انصهر فى بوتقة واحدة: أرض الكنانة التى طبعت الجميع بصبغتها وروحها الفريدة. هذه الطبيعة الفريدة تجدها لدى المسلم والمسيحى معاً.. فالكل يعيش فى ذات البيت والحى والمدرسة والعمل.. الكل شارك فى مكافحة الاحتلال وفى صياغة كافة الإنجازات.. وعاش ذات الهموم والمشاكل على أرض مصر. بمعنى آخر.. فإن ما يسعد إخواننا المسيحيين يسعدنا أيضاً.. وما يضرهم يضرنا.. والدليل القاطع أن أحداً من المسلمين لم يتعرض للأخوة الأقباط خلال المظاهرات، بل ذهب الجميع إليهم لمواساتهم والتخفيف عنهم، ونحن ندرك حجم الحادث الخطير ودلالاته الأخطر وآثاره النفسية والاجتماعية.. ولكن يجب على العقلاء من الطرفين أن يضعوا هذا الحادث فى إطاره الصحيح والطبيعى.. دون تجاوز أو شطط. والبداية الصحيحة كانت من الأزهر عندما اقترح فضيلة شيخ الأزهر إنشاء «بيت العائلة المصرية»، وهذه مبادرة جيدة تنتظر التفعيل ووضع آليات دقيقة لتنفيذها.. حتى لا تظل مجرد حبر على ورق.. أو شعار وقتى لامتصاص الغضب وتجاوز الأحزان. نحن نريد فعلاً أن نرى «بيت العائلة المصرية» يجمع الجميع.. مسلمين ومسيحيين.. وأن تعود قيم التسامح والاعتدال والوسطية التى غابت عنا أو كادت. وفى كل الأحوال.. يجب ألا نسمح لأى طرف باستغلال الحادث لتحقيق أهدافه الخفية قبل المعلنة.. يجب أن نثبت لهؤلاء المتآمرين أننا لن نخضع للضغوط أو الابتزاز أو تقديم تنازلات فى أى مجال.. هذا هو المحك والاختبار الحقيقى لنا جميعاً.