هذه المنافسة الحامية غير المسبوقة التى تشهدها الانتخابات التشريعية المقبلة بين المرشحين عن الأحزاب أو المستقلين، بل داخل الحزب الوطنى ذاته، والذى يترقب المتنافسون على الفوز بترشيحه إعلان قوائم مرشحيه اليوم (الأحد) وفى الساعة الأخيرة قبل إغلاق باب الترشيح.. هذه المنافسة تعكس فى واقع الأمر إجماع الشارع السياسى على أن برلمان 2010 سيكون واحدا من أهم المجالس التشريعية إن لم يكن أهمها على الإطلاق فى تاريخ الحياة النيابية فى مصر. يكتسب البرلمان الجديد هذه الأهمية الخاصة لاعتبارات كثيرة.. أولها أن انتخابه يجرى قبيل موعد الانتخابات الرئاسية فى شهر أكتوبر من العام المقبل، وحيث يترقب المصريون جميعا وبالضرورة أحزاب المعارضة ما إذا كان الرئيس مبارك سوف يقرر بصفة نهائية الترشح لدورة رئاسية سادسة أم لا، مع ملاحظة أن تصريح الدكتور علىّ الدين هلال أمين الإعلام بالحزب الوطنى قبل أيام بأن الرئيس هو مرشح الحزب للرئاسة عام 2011 ليس كافيا لحسم الأمر، وذلك بالنظر إلى ما سبقه من تصريحات متكررة لقيادات الحزب بأن الرئيس شخصيا هو الذى سيقرر مسألة ترشحه فى الوقت المناسب. الأمر الآخر هو أن أحزاب المعارضة جميعها وباستثناء حزب واحد، قررت خوض الانتخابات هذه المرة بجدية واضحة بعد غياب غالبيتها العظمى فى الانتخابات السابقة، وذلك سعيا للفوز بتمثيل نيابى يتيح لها الحق فى الترشح فى الانتخابات الرئاسية المقبلة. وفى نفس الوقت، وبينما تشتد المنافسة بين أحزاب المعارضة الثلاثة الكبار (الوفد والتجمع والناصرى) للفوز بأكبر عدد ممكن من مقاعد البرلمان الجديد، وبما يتيح لها زعامة المعارضة البرلمانية، فإن المؤشرات فى المشهد الانتخابى ترّجح أن حزب الوفد سيكون أكثر وأكبر الأحزاب الثلاثة.. تمثيلا نيابيا، ومن ثّم فإنه الحزب الذى سيتولى زعامة المعارضة فى مجلس الشعب الجديد. الأمر الآخر هو أن مشاركة ثلاثة وعشرين حزبا من أصل أربعة وعشرين حزبا فى هذه الانتخابات وبهذه الجدية فى المنافسة، وبهذا الحماس الكبير، إنما ينبئ بتزايد وتعدد وتنوع التمثيل الحزبى فى برلمان 2010 وهو الأمر الذى من شأنه إحداث نقلة نوعية وديمقراطية فى الأداء البرلمانى بقدر ما يعطى دفعة قوية للحياة السياسية والحزبية. ولاشك فى أن تمثيل أكبر عدد ممكن من الأحزاب فى البرلمان القادم، سوف يقلل من أعداد النواب المستقلين سواء المستقلين بالفعل أو المنشقين عن الأحزاب، أو من المنتمين إلى جماعة «الإخوان المسلمون» المحظورة وهو أمر بالغ الأهمية، إذ أن الأصل فى التمثيل النيابى هو الانتماء للأحزاب، باعتبار أن النظام السياسى فى مصر وبنص الدستور يقوم على أساس التعددية الحزبية، وحيث أكدت التجارب السابقة وخاصة فى برلمان 2005 أن زيادة أعداد المستقلين ظاهرة غير صحية.. برلمانيا من شأنها إضعاف الأداء البرلمانى وكذلك إضعاف مبدأ التعددية الحزبية. ولذا فقد كانت مشاركة جميع الأحزاب باستثناء حزب واحد، ورفضها لدعوة المقاطعة.. أمرا بالغ الإيجابية إذ أن الحزب الذى يرفض خوض الانتخابات يفقد مصداقيته السياسية ويفقد صلاحيته للبقاء فى الحياة السياسية.. بل يحكم على نفسه بالموت السياسى. ولعل استشعار أحزاب المعارضة بأن ثمة ضمانات لنزاهة الانتخابات هذه المرة ومن بينها تشكيل اللجنة العليا للانتخابات برئاسة رئيس محكمة الاستئناف لتكون هى الجهة المحايدة والوحيدة المسئولة عن إدارة العملية الانتخابية برمتها.. لعله هو ما شجع الأحزاب على خوض الانتخابات رغم التشكيك فى نزاهتها. وفى هذا السياق يأتى توافق جميع الأحزاب المشاركة فى الانتخابات على رفض الرقابة الدولية من منطلق السيادة الوطنية، وأيضا من منطلق أن مراقبة الإعلام من صحافة حزبية ومستقلة وقنوات تليفزيونية فضائية خاصة، وكذلك مراقبة منظمات المجتمع المدنى.. آليات كافية للرقابة بما يضمن تحقق النزاهة والحيادية، وفى نفس الوقت فإن رفض الرقابة الدولية لا ينفى ولا يلغى بالضرورة المتابعة الدولية، خاصة أن العالم كله فى عصر السماوات المفتوحة صار قرية صغيرة لا يخفى فيها ولا عنها خبر أو حدث فى أرجاء المعمورة. تبقى بعد ذلك عدة ملاحظات على الممارسات فى المشهد الانتخابى، إذ رغم أن المنافسة بين مرشحى الأحزاب إلا أن التصويت مثلما كان فى كل الانتخابات السابقة سيتم على أساس شخصى، بمعنى أن الصوت الانتخابى سيذهب إلى شخص المرشح وليس إلى الحزب الذى يمثله، وهو الأمر الذى ربما فطن إليه الحزب الوطنى.. حزب الأغلبية، إذا يدقق فى اختيار مرشحيه الأكثر شعبية فى دوائرهم. ومع ذلك فلا يزال التصويت للمرشح وليس لبرنامج الحزب.. كاشفا لغيبة الأحزاب فى الشارع، وعن مشكلات المواطنين ومؤكدا أن تجربة التعددية الحزبية لم تنضج بعد. ثمة ملاحظة أخرى متصلة بالسابقة، وهى أن الانتخابات فى مصر خاصة فى الريف كانت وستظل لفترة طويلة محكومة بالعصبيات العائلية والقبلية بصرف النظر عن برامج الأحزاب وصلاحية المرشح لتمثيل الأمة فى البرلمان، ولذا فإن انضاج التعددية الحزبية ومن ثم إصلاح هذا الخلل الانتخابى يتطلب إعادة النظر فى الانتخاب الفردى وإقرار أسلوب القائمة سواء النسبية أو المطلقة وحسبما يحدث فى الدول الديمقراطية. أما أخطر ما فى المشهد الانتخابى بصفة عامة فهو إحجام غالبية الناخبين الذين لهم حق الانتخاب عن انتخاب من يمثلهم فى البرلمان، وهذا الإحجام هو أحد أهم المظاهر السلبية فى الحياة السياسية باعتبار أن من شأنه وصول كثير من النواب إلى قاعة البرلمان بغير استحقاق، وعلى النحو الذى يؤثر سلبا على دوره فى التشريع والرقابة. وليس سرا أن هذه الظاهرة السلبية بالإحجام عن أداء الحق والواجب الانتخابى، إنما ترجع فى حقيقة الأمر إلى السمعة السيئة التاريخية للانتخابات فى مصر، والتى غالبا ما افتقدت الشفافية والحيدة والنزاهة، ولعل تأكيدات النظام والحكومة على ضمانات النزاهة فى الانتخابات المقبلة تشجع الناخبين على المشاركة هذه المرة. ويبقى أخيرا أن ظاهرة العنف والبلطجة وما يرتبط بها من سفه الإنفاق فى الدعاية وشراء الأصوات، هى أخطر ما فى المشهد الانتخابى على الإطلاق، وهى ظاهرة تنامت وبلغت ذروتها فى انتخابات 2005، وهو الأمر الذى يضع على الحكومة ممثلة فى وزارة الداخلية وأجهزة الأمن بل أيضا اللجنة العليا للانتخابات مسئولية التصدى لتلك الظاهرة بكل قوة وحسم، إذ أن وقف تلك الممارسات يعد أحد أهم ضمانات النزاهة حتى يكون برلمان 2010 ممثلا تمثيلا حقيقيا لإرادة الأمة.