رغم أن مدينة فرانكفورت الألمانية ليست من المدن المبهرة أو الجميلة كبقية المدن الأوروبية الشهيرة لكنها مدينة شديدة النظام شأنها شأن بقية المدن الألمانية، وقد استطاعت فرانكفورت أن تحقق شهرتها وتتميز عن غيرها من المدن الأوروبية والعالمية بكونها واحدة من أهم عواصم الاقتصاد فى العالم. فى فرانكفورت.. أكبر البنوك وأضخم الشركات وإحدى أشهر البورصات العالمية وفيها أيضا تقام أهم المعارض فى العالم مما يجعل اسم فرانكفورت يتردد طوال العام كنموذج واضح وناصع للمعارض الحديثة التى تحظى باهتمام فوق العادة من الدولة والمواطنين.المعرض يحتوى على صالات عرض ضخمة ووسائل تنقل داخل المعرض وخارجه، وسلالم متحركة، ومطاعم ومقاه عديدة، ويتسم المعرض بالدقة المتناهية، وخلال فترة إقامته يشكل رواجا للمدينة بأكملها من فنادق وخدمات ووسائل مواصلات. وعلى الرغم من كل المعارض التى تقام طوال العام فى فرانكفورت، فإن معرض الكتاب هو الأهم والأكبر على مستوى العالم حيث يشارك فيه أكبر عدد من جهات العرض والناشرين، وأكبر حركة لصفقات النشر، وأهم الاتفاقات للمشاركة فى المعارض الدولية كما أنه الأكبر والأضخم على مستوى العالم حيث تصل مساحته إلى 172 ألف متر مربع. هذا العام كانت الدورة الثانية والستين لمعرض لفرانكفورت الدولى للكتاب، والذى بدأت دورته الأولى فى عام 1948، وفى كل عام يكون للمعرض ضيف شرف، وكان ضيف الشرف هذا العام دولة الأرجنتين، كممثلة لدول أمريكا اللاتينية. الحضور الأرجنتينى كان بمثابة تظاهرة ضخمة كانت على رأسها كريستينا كيرشنير رئيسة الأرجنتين، التى ألقت كلمة مطولة فى حفل افتتاح المعرض تجاوزت الساعة، استعرضت فيها التاريخ الإنسانى والثقافى للحضارة اللاتينية، وبإنسانية راقية قدمت من خلال كلمتها عددا من المبدعين الأرجنتينيين، خاصة الرواد منهم. الحقيقة أن السيدة كيرشنير كانت تتمتع بحضور قوى، وخفة ظل، استطاعت من خلالهما أن تقدم صورة رائعة لبلدها، فعرف الحضور لماذا اختارها شعبها لتكون أول رئيسة منتخبة لبلدها، بعد زوجها نيستور كيرشنير. شارك أيضا فى الافتتاح وزير الخارجية الألمانى جيدوفيستر فيله، الذى أخذت أتأمله كثيرا لأجده رجلا وقورا أنيقا، يليق بمنصبه، ولم يستطع عقلى أن يتقبل مطلقا كيف لهذا الرجل المحترم أن يعلن زواجه من صديقه، منذ عدة أسابيع، لكن الأكثر دهشة، هو تلك التهنئة الحارة التى تلقاها من المستشارة الألمانية ميركل المصحوبة بتمنياتها الطيبة. وقد كان الحضور الأرجنتينى قويا يليق باختيارها كضيف شرف هذا العام، حيث ترجمت الأرجنتين 200 كتاب من الأسبانية إلى الألمانية، بمناسبة اختيارها ضيف شرف معرض فرانكفورت، وهو أكبر عدد تشارك به دولة من الدول المحتفى بها كضيف شرف، كما شارك 60 كاتبا أرجنتينيا. أما الجناح الأرجنتينى، وأجنحة أمريكا اللاتينية فكانت غاية فى الروعة والأناقة والفخامة أيضا. صالة للأطفال يشارك فى معرض فرانكفورت 7533 جهة عرض من 111 دولة، وتعد انجلترا وأمريكا أكبر دولتين من حيث المشاركة بعد ألمانيا، التى يمثلها 3315 جهة عرض. لهذا فإن الصالة التى تشترك فيها إنجلترا وأمريكا، إضافة إلى عدد من الدول الأوروبية هى أكبر صالات العرض، كما أن مستوى أجنحتها من حيث الديكور والإضاءة والتنظيم هو الأعلى، وهو الأكثر إقبالا، والأكثر كثافة أمنية، لهذا فهو الجناح الوحيد الذى يخضع مرتادوه إلى تفتيش دقيق! خصصت أيضا صالة كاملة لكتب الأطفال، ووسائلهم التعليمية والتثقيفية، أما اليومان الأخيران للمعرض، اللذان تفتح فيهما الأبواب للجمهور وللبيع - لأن معظم أيام المعرض مخصصة للناشرين فقط، عدا اليومين الأخيرين - كانا بمثابة تظاهرة حضارية لكيفية اصطحاب الآباء لأطفالهم، وتعليمهم كيفية اختيار الكتاب، أو السى الدى الذى يحوى قصصا أو معلومات، وكان المشهد المتكرر هو وضع الطفل للسماعات على أذنه، ويضغط بأصبعه الصغير على لوحات صغيرة يختار منها القصة التى يريدها. لم تكتف دور النشر بكل وسائل الجذب تلك، بما فى ذلك الهدايا التى تقدم للأطفال، لكنهم أيضا استضافوا مشاهير المذيعين، ليقرأوا على الأطفال القصص التى تصدرها تلك الدور، بطريقة شائقة. كل هذا يتم فى هدوء ودون ضجيج أو صخب.. وكانت المظاهر كلها تتسم بالوقار، إلا من عدد هائل من الفتيات والفتية يرتدون الملابس التنكرية، ويضعون على وجوههم الماسكات أو يرسمون عليها ما يليق بملابسهم.. مئات من الشباب فى المدارس الثانوية، يفعلون ذلك كمشاركة منهم فى هذا الحدث، الذى أصبح بمثابة المهرجان! أما المظهر الثانى، فهو العدد الكبير من الباعة الذين خصصت لهم أماكن محددة لبيع كل ما يمكن تخيله، وما لا يمكن، من فضة وأحجار وإكسسوارات وملابس وأعمال خشبية، ومنسوجات وحقائب، وأشياء كثيرة إن كانت تبدو غريبة عن الكتاب ومعرضه، فهى ليست شاذة لأن معظمها يأخذ شكلا تراثيا وقورا! حقق معرض فرانكفورت نجاحا ملموسا، على الرغم من توقع إدارة المهرجان انخفاض عدد المشاركين بسبب الأزمة الاقتصادية، لكن الزيادة بلغت 200 جهة عرض عن معرض 2009، كما ارتفعت نسبة البيع ب 0.8% عن العام الماضى . حاز الإعلام الرقمى على اهتمام كبير خلال هذا المعرض، حيث تحتل 1% من حجم مبيعات الكتب، لهذا خصص الموضوع الرئيسى لمناقشة الكتب الرقمية، تحت عنوان فرانكفورت سباركس. كما وزعت إدارة المعرض ملف العام القادم، لتحدد كل جهة حجم مشاركتها، من حيث المساحة والأسعار وغيرها من كل تفاصيل معرض العام القادم 2011 ! مشاركة مصرية من ناحية أخرى، جرت اجتماعات ومفاوضات بين المسئولين عن معرض القاهرة الدولى للكتاب، برئاسة د. صابر عرب رئيس هيئة الكتاب، وبين العديد من الدول وجهات العرض والناشرين، الذين يرغبون فى المشاركة بمعرض القاهرة 2011، والذى سينتقل إلى مكانه الجديد بقاعة المؤتمرات بمدينة نصر ولمدة ثلاث سنوات! من العروض التى تقدمت إلى الجانب المصرى للمشاركة فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، كان عدد من الناشرين الأكراد، الذين أبدوا رغبتهم للمشاركة فى معرض القاهرة، تحت المسمى الكردى، لكن الجانب المصرى أبدى تحفظه، وأبلغ الناشرين الأكراد أن الوسيلة الوحيدة للمشاركة فى معرض القاهرة هو تحت العلم العراقى، لأن القاهرة لن تساهم فى شق الصف العراقى من خلال معرضها، وأنها تقف إلى جوار الوحدة العراقية وليس تقسيم العراق. كان الجناح المصرى ممثلا بوزارة الثقافة المصرية، شاركت فيه هيئة الكتاب، وهيئة الآثار، والمركز القومى للترجمة، والمجلس الأعلى للثقافة، وعدد من دور النشر الخاصة. ورغم أن المشاركة العربية فى المعرض ليست كبيرة لكنها ملموسة، من خلال اتحاد الناشرين العرب، وأجنحة مصر والسعودية وقطر والإمارات خاصة جناح الشارقة، بالإضافة إلى سوريا والعراق والأخيرة ساهمت بخمسين عنوانا بعد غياب لعدة سنوات استمر منذ عام 2003! انتخابات الاتحاد الدولى على هامش المعرض أجريت انتخابات مجلس اتحاد الناشرين الدوليين، والتى تجرى كل عامين، وقد فاز برئاسة الاتحاد الأمريكى الجنسية الكورى الأصل يونج سوك بفارق ثلاثة أصوات، عن المرشح المصرى إبراهيم المعلم، الذى فاز بمنصب نائب رئيس الاتحاد، إلى جانب الفرنسى الين كوخ. أما مدينة فرانكفورت التى يقام عليها هذا المعرض المهم، فقد استطاعت أن تمزج المعمار شديد الحداثة بناطحاته الزجاجية العالية، بمبانيها القديمة التى تتمثل فى دار الأوبرا القديمة، التى شيدت عام 1880، وهى من أجمل دور الأوبرا فى العالم، وقد دمر جزء كبير منها خلال الحرب العالمية الثانية، تم ترميمه فيما بعد، ومنطقة رومربرج القديمة وهى عبارة عن ساحة صغيرة، لكن مبانيها شيدت على طرز باروكية وقوطية حمراء اللون، يتوسطها تمثال برونزى يرمز للعدالة. المنطقة الحديثة تقع فى وسط المدينة حيث ناطحات السحاب العالية، التى تحتلها شركات وبنوك ضخمة، والفنادق والمطاعم ومحطة السكك الحديدية، ويعد برج المركز التجارى الدولى هو الأكثر ارتفاعا حيث يصل إلى 258 مترا، كما ترتفع أيضا أبراج بنوك الدويتشه ودريسدنر والأوروبى، إضافة إلى كبرى شركات التأمين، وبسبب كثرة هذه الأبراج التى تميز مدينة فرانكفورت عن غيرها من المدن الألمانية، فقد أطلق عليها الألمان أنها مانهاتن على الراين – أى مدينة نيويورك لكن على نهر الراين – كما أطلقوا عليها شيكاجو ألمانيا. أما أكثر ما تفخر به فرانكفورت، هو أنها مسقط رأس الشاعر الألمانى العظيم فولجانج فون جوته. كل المدن الألمانية تقريبا تتوسطها مدينة قديمة بمبانيها وآثارها، وفى فرانكفورت فإن منطقة رومر تمثل المدينة القديمة، لذلك فهى مزار لكل من يتردد على فرانكفورت، كما أنها تكتظ بالمطاعم والمقاهى، وتقع على بعد خطوات من مرسى نهر الماين، الذى يقطع المدينة عرضيا ليقسمها فيجعل ربعها الجنوبى بما يشمله من مناطق سكنية وحوالى تسعة متاحف وستاد رياضى، بينما يتمركز فى جانب النهر الشمالى الذى يحتل ثلاثة أرباع المدينة تقريبا المنطقة التاريخية ومحطة القطار الرئيسية والمعرض والأبراج العالية للشركات والبنوك وأيضا منطقة التسوق الرئيسية التى تميز كل المدن الألمانية. فكل من يتردد على الدول الأوروبية يعلم جيدا أن أفضل تسوق هو فى ألمانيا، خاصة الملابس والمصنوعات الجلدية، فى فرنكفورت تمتد منطقة التسوق على مقربة من منطقة رومر، وتقتصر على المشاة فقط، وبها أكبر المحلات الكبرى، وفى الشارع ذاته تقابلك الفرق الموسيقية والحواة، وغيرهم ممن يقدمون فنونهم، وهو المكان الوحيد الذى تستمر فيه الحياة فى فرانكفورت حتى العاشرة مساء، ويمتد هذا الشارع على مسافة محطة مترو كاملة ويطلق عليه «تسايل» ZIEL . لهذا فكل تلك المناطق ترتفع أسعار السكن فيها بشكل جنونى، كما تتميز الوحدات السكنية بمساحات محدودة جدا، غالبا ما تكون شققا، أما من يريد المساحات الأكبر فعليه أن يتجه إلى خارج المدينة! لأن المدن الصغيرة أو القرى التى تحيط بفرانكفورت هى الأجمل والأكثر هدوءا، وهذا ما يفضله معظم الألمان، وحتى الوافدون. يساعدهم على ذلك تلك الشبكة الرائعة للمواصلات التى تتميز بها تلك المدينة الألمانية، من حيث الدقة والكثافة التى تتناسب مع كثافة السكان وكثافة الزائرين. ألمانيا والأتراك على الرغم من أن ألمانيا ليست من الدول المرحبة بالمهاجرين، إلا أن العدد الهائل الذى يقطنها من الأتراك يثير الاستغراب، فهم يحتلون الكثير من الأعمال، وأصبحوا يشكلون رأس مال قويا وتواجداً كبيراً، ويقدر عدد الأتراك فى ألمانيا بأربعة ملايين ونصف يقيمون بشكل قانونى، أما المقيمون بطريقة غير شرعية فيقدرون ب 14 مليونا! وتعد الجالية التركية فى فرانكفورت من أكبر الجاليات من حيث العدد، ومن حيث النشاط السكانى، لهذا من المعتاد أن تشاهد المحجبات، وأن تسمع موسيقى تركية، وتجد الكثير من المطاعم التى تقدم الأكلات التركية بنجاح وإقبال كبيرين، حتى يلتبس عليك الأمر هل أنت فى ألمانيا، أو فى تركيا؟ المهم أن تلك المدينة استطاعت أن تستقبل مئات الآلاف من البشر، على مدى أسبوع تقريبا، لم تكتف خلاله بأن تقدم خدماتها الممتازة، لكنها أيضا استقبلتهم بجو استثنائى تسطع فيه الشمس، تعجب له كل من يتردد على فرانكفورت فى هذا الوقت من العام! لأن برودتها صعبة وشديدة وغير محتملة، مثل باقى المدن الأوروبية.