فى تاريخ الأمم رجال يقفون شموعاً مضيئة تنير الطريق للجموع حولها ، بالإضافة للتنوير الذى تنشره فى روح الأمة و تزهو بهم الإنسانية و تفخر السير الذاتية بمذكرات نضالهم المشرف ضد قوى الظلام و عباقرة الشر. وهنا يقف نيلسون مانديلا كأشد مصادر الضوء التى محت ظلام العنصرية والهمجية من القارة الأفريقية كلها. فحياة الزعيم الأفريقى تعد ملحمة من ملاحم القرن العشرين وهى نموذج حى لقوة الإرادة و التصميم. وترتبط أحداثها بواقع الحياة التى عاشتها بلاده، فهو ابن لزعيم قبيلة واسمه عند الميلاد هو (دوليهلاهلا) ومعناه حرفياً باللغة الأفريقية (نزع فرع الشجرة) أما معناه الدارج هو (المشاغب) ولم يعلم والده زعيم قبيلة ترانسكاى إنه عندما أطلق عليه هذا الاسم سيكون طابعاً مميزاً له. فهو نشأ فى أسرة كبيرة العدد. وتربى على قصص الملاحم والبطولات لأجداده أبطال الكوسا العظام التى كان يرويها له والده فى سنوات عمره الأولى وقد ألهبت هذه الحكايات روح البطولة الرافضة للظلم الذى عانى منه أهل قبيلته على يد الطغاة من البيض، لذلك قرر منذ صغر سنه أن يحمل لواء النضال ويكمل مسيرة والده الذى رفض الإذعان لأوامر الحاكم الإنجليزى وأعلن أنه يلتزم بتقاليد قبيلته وغير ملتزم بقوانين ملك إنجلترا وقد أصدر الحاكم قراراً بحرمان والده من منصبه ومصادرة أراضيه وممتلكاته. درس لا ينسى/U/ ويصف مانديلا مشاعره وهو ابن التاسعة حينذاك «إنه شعر بالغضب والحزن على والده الذى كان من طبقة النبلاء وتعرض للظلم لأنه رفض أن يظلم عشيرته». ويتوفى والده متأثراً بمرض السل نتيجة فقره وعمل مانديلا بالرعى ويحكى عن أول درس تعلمه فى حياته وجعله يحترم مشاعر الآخرين جاء على يد حمار، فهو كان يتسابق على ركوب حمار مع أصحابه وقت الراحه من العمل وقفز فوق ظهر الحمار بعنف فما كان من هذا الحمار إلا أن ألقاه على شجرة شوك وقد سببت له هذه الحادثة حرجاً شديداً أمام أصدقائه وتعلم منها قسوة إهانة المرء لغيره. ويكمل مانديلا حديثه عن مشواره التعليمى فقد أكمل دراسته فى مدارس الإرسالية وهناك اختاروا له اسماً إنجليزياً وهو نيلسون لأن الأساتذه البيض كانوا يجدون صعوبه فى نطق الأسماء الأفريقية و بعدها التحق بالجامعة وتعرض للفصل لرفضه الامتثال لأوامر مدير الجامعة وانضم لزملائه الطلبة الذين احتجوا على نتائج الإنتخابات الطلابية. وينتقل ليكمل تعليمه بجامعة جنوب أفريقيا وعمل حارساً ليلياً مقابل جنيهين فى الأسبوع ليدفع مصاريف سكنه ودراسته وتنقلاته وطعامه وكان يضطرللسير لستة أميال للذهاب والعودة من العمل حتى أنهى دراسته الجامعية وحصل على ليسانس الحقوق عام 1942. وقد تفتحت مدارك مانديلا السياسية عند بداية ظهور قوانين التمييز العنصرى والتى أصدرتها حكومة الأقلية البيضاء التى شكلها حزب الوطنى الأبيض الذى فاز فى الانتخابات التى أجريت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وكان هو المرشح الوحيد لأن أغلبية السكان من الأفارقة و الملونين كانوا محرومين من المشاركة فى الانتخابات. ويقول مانديلا إن هذه الحكومة أصدرت قوانين تعد هى حجر الزاوية للتمييز العنصرى فى بلاده، وكان أهمها قانونا السكان والمناطق الجماعية، وبالنسبه للقانون الأول فقد صنف السكان على أساس عرقى وبطريقة عشوائية نتج عنها أحياناً التفريق بين أعضاء الأسرة الواحدة اعتماداً على لون البشرة وتجاعيد الشعروسمك الشفتين أما قانون المناطق فقد صادرالبيض من خلاله ممتلكات السكان الأصليين من الأفارقة و الملونين لتندلع أول حملة للعصيان المدنى عام 1952 واتهم مانديلا بأنه كان محرضاً على هذه الاحتجاجات وفى نفس العام اشترك نيلسون فى مكتب للمحاماة مع رفيقه فى الكفاح أوليفر تامبو ليعملا معاً للدفاع عن المواطنين الأفارقة أمام جبروت الأقلية البيضاء التى تعتبر كل شىء جريمة تستحق العقاب فالسير على شاطىء مخصص للبيض جريمة والمرور يحتاج لتصريح والتواجد فى الشارع بعد الخامسة مساء جريمة تستوجب القتل رمياً بالرصاص. كما انضم مانديلا إلى حزب المجلس الوطنى الأفريقى المعارض للتمييز العنصرى وتنقل بين أرجاء البلاد محرضاً الأهالى على الرفض وقام بتشكيل مجموعات للمقاومة السرية بعد أن صدر ضده حكم بالسجن مع إيقاف التنفيذ. تسامح وحزم/U/ ويقول نيلسون عن هذه الفترة من حياته إنه تأثر كثيراً بأسلوب غاندى الداعى لعدم استخدام العنف وإتباع الأسلوب السلمى فى المقاومة ولكن بعد أحداث مذبحة (شاريفيل) عام 1960 وفيها أطلق رجال الشرطة النار على المتظاهرين ليسقط المئات من القتلى والجرحى فبدأ بشن هجمات مسلحة ضد أهداف عسكرية واقتصادية للبيض واستمر هذا الكفاح المسلح لمدة 35 عاماً ويتخذ مانديلا قراراً شجاعاً بإيقاف المقاومة المسلحة ويقول «لقد حاربنا حكم الأقلية البيضاء وأزهقت أرواح كثيرة من الطرفين ولم يعد من الحكمة أن يستمر الطرفان فى فقدان المزيد من الضحايا واتخذ قراره المصيرى بالحوارمع العدو متجاهلاً الاتهامات التى وجهت إليه من عائلته وأصدقائه لأنه يعتقد أنه إتخذ القرار المناسب لشعبه. وهذه المرونة والشجاعة التى تميز بها مانديلا جعلته يتحمل سنوات السجن التى استمرت لأكثر من 10 آلاف يوم بإرادة لاتلين. فهو أدرك منذ القبض عليه واتهامه بالخيانه العظمى والحكم عليه بالسجن مدى الحياة أن معركته مع عدوه هى معركة إنسانية وأخلاقية وهنا يقول مانديلا: أثناء محاكمتى دخلت قاعة المحكمة بملابس الكوسا المصنوعة من جلد النمر وقد اخترت هذا الزى لأبرز المعنى الرمزى لكونى رجلاً إفريقياً يحاكم فى محكمة للرجل الأبيض وكنت أحمل على كتفى تاريخ قومى وثقافاتهم وكنت على يقين أن ظهورى بذلك الزى سيخيف السلطه من ثقافة افريقيا وحضارتها بهذه الكلمات أكد مانديلا أنه يستحق أن تكون حياته مصدر إلهام للمظلومين فى سائر الأرض واستحق أن يصفه الأمين العام للأمم المتحدة (بان كى مون) فى الاحتفالية السنوية التى تقام فى يوم ميلاده من كل عام «إنه شخصية شامخة وشجاعة فقد ظل لسنوات يحارب من اضطهدوه وبعد ذلك غفر لهم وأننى اعتبر أن حياته مصدر إلهام للملايين فهو رجل عادى لايملك المال والسلطة ولكنه حقق أشياء غير عادية» وهنا يقول مانديلا بعد خروجه من السجن واختياره كأول رئيس أسود لجنوب أفريقيا «لقد حاربت ضد سيطرة البيض واستسلام السود وإننى أسعى دائماً لمجتمع ديمقراطى حر يعيش الجميع فيه بانسجام وفرص متكافئه» وقد حصل مانديلا على جائزة نوبل للسلام عام 1993 وتم تشييد تمثال له فى ميدان البرلمان فى لندن.