تُعد عملية رسم شخصيات أى عمل أدبى من العناصر المهمة التى قد ترفع من قيمته، أو تهوى به إلى حد الفشل. ولربما تنطق الشخصيات بلسان الكاتب نفسه لتعكس أفكاره وآراءه، وقد تكون صورة مجتزأة أوضبابية لنفس الكاتب، لأنها كما ذهب «تشارلز ماى»:الشخصيات هى أقنعة اجتماعية فى قص واقعى، وتجليات رمزية فى قص رومانسى، وتتحول فى عملية السرد إلى «مجاز». وتأتى «الراقصة» بقصصها العشر كمثال اهتم فيها كاتبها «شوقى فهيم» برسم شخصياته؛ النسائية منها على وجه الخصوص، لتتجلى فيها المرأة كأسطورة ورمز، فهى ايزيس، أوعشتار القادرة على منح الخصب والحياة، و هى المرأة الوطن بكل تناقضاته، وهى الملهمة التى ينبثق منها فيض النور والتنوير فى لحظات التجلى، أى أنها: «الظاهرة التى تجمع بين الأسطورة والدين». ولربما جاء تماس المرأة مع «الدين» فى المجموعة سببا لتحولها إلى أسطورة كنتيجة لصراع ليس لها فيه حيلة. تعكس «الراقصة» احتفاء شوقى فهيم بالمرأة، وايمانه بدورها الفاعل فى الحياة، ولذلك جعل الشخصيات المحورية والرئيسية أنثوية بيدها قوة المنطق؛ تماما مثلما جعلها تتمتع بسحر الجمال الجسدى أيضا. ففى القصة الأولى تسيطر «جنفياف» على الأحداث من خلال تداعى الأحداث على لسان الحفيد الذى يُظهرها جميلة قوية، متعلمة، تدفع العشور من عمل يدها لضيقها من بخل زوجها الذى»: يساوم الرب فى مقدار العشور» وهى وحدها القادرة على الفعل الإيجابى ومجابهة أصعب المواقف خاصة تلك المتعلقة بالشرف ومحاولة الأخ التخلص من شقيقته، وهى أيضا التى تحافظ على حقوق الجيران عندما مات «الحاج عبد الكريم» لتؤجل حفل زواج ابنها. وفى المقابل تظهر الشخصيات الذكورية ضعيفة، هشة، شرهة، تقودها الحاجات البيولوجية على النقيض تماما من «جنفياف» التى تتصرف عن وعى وحكمة وحسن تدبير. و«مارى» الجميلة تحولت إلى أسطورة فى قصة «شارعنا 1954»، والتى تحتوى أيضا على أكثر من خمس عشرة شخصية نسائية، تتصدرهن الحاجة «المقدسة» مريم . تزوجت «مارى» عنينا زواجا أبديا، وحين استجابت لنداء جسدها الفائر، كان لزاما أن تموت لتتحول إلى أسطورة تجسد الظلم والقهر باسم الشرف والدين، فما هى إلا أنموذج لأى فتاة تقع ضحية عادات وأعراف تمنع عنها الشكوى، وتعتبر شكواها خروجاً على التقاليد وانحرافاً يستوجب الحبس فى بيت الأب الذى لا يحركه سوى مشاعر الذكورة المتسلطة فى ابنته ومثيلاتها اللواتى لا خلاص لهن ولا فرار من حالة يرفضنها . و«عائشة» التى عبرت عن شكرها وامتنانها لشفاء ابنتها العقيم، بصوم عابر للأديان، فتصوم صيام النصارى والمسلمين. وفى المقابل تأتى الشخصيات الذكورية قليلة العدد والأهمية ماعدا «موريس» الذى يمثل روح الشباب الثائر على الوضع المقلوب بعد قيام الثورة. يمضى الكاتب ليقدم فى مجموعته نماذج بشرية عادية فى سياقات حياتية غير مفتعلة وطبيعة إلى أقصى درجة، لا تختلف بين أصحاب ديانة وأخرى حتى وهو يصف طقوس الاحتفال بليلة الغطاس وما خالطها من تورط مكرم مع ابنة خالته اعتماد كأى شاب وفتاة فى فورة الشباب، وفى ظروف احتفالية تغمر فيها السعادة القلوب، مثلما تختلط الأجساد بالمياه فتبرز مفاتن الفتيات وهن منتشيات برائحة الشواء وأعواد القصب التى يوفرها «محمود الخزاعى» لهم كعادة قديمة لعائلة الخزاعى. ويستكمل الكاتب رسم شخصياته النسائية المميزة مثل «سلوى» البسيطة التعليم، ولكنه يضع على لسانها حكمة يؤسطر بها علاقتها مع ربها، فهى جميلة المظهر والجوهر تخجل من الحديث عن مشاكلها مع أى أحد مفضلة اللجوء إلى الله: « أنا لا أخجل حين اتكلم مع الله» . وفى «الراقصة» التى تحمل المجموعة اسمها تظهر «مديحة» كمثال للجمال والشباب يتخلص منها عمها بعدما سمع أنها حامل، فى الوقت الذى يتمتع هو نفسه بعلاقة مع امرأة ما. مديحة تمضى مثل مارى ضحايا العفة والشرف. إذن لا يهم الاسم؛ فمارى مثل مديحة أو صفية؛ كلهن فى الهم إناث، مفعولا بهن، وإن فعلن، فلا مفر من يد الشقيق الذى يهب لغسل العار مثلما فعل «بشرى، باخته «اعتماد». ومن الملاحظ أيضا تركيز «شوقى فهيم» على العقاب أو الجزاء الذى ينال المرأة دون الرجل، ليصور إرثا من الظلم يرى أن العقاب من نصيب المرأة، والنجاة من نصيب الرجل مهما فعل، وكأن الخطيئة أحادية القطب متعلقة بتلك المرأة الحية التى أخرجت أبانا من الجنة. حتى فى أكثر قصص المجموعة عبثية وفانتازيا «مدام كارل « تكون كارل المسيطرة والتى تُسخر الجميع لخدمة «صافى» القطة، وكذلك «أحلام المالكى» الجميلة بعينيها السوداوين، تخترع حكايا فيصدقها رفيقها، متتبعا كلماتها كأسفار مقدسة، حتى بعد أن علم بقصة اختلاقها لكل ما تقول، فعندما يعمل القلب بقوة يتوقف العقل عن العمل حتى لو ظهرت حقيقة الخداع جلية واضحة، فما وقر فى القلب يظل مسيطرا على كل رؤى العقل. تحدث الكاتب عن العلاقات الحقيقية دون أن يذكر كلمة واحدة من الكلمات الممجوجة والمستهلكة عن ديانة جنييفياف مثلا، وارتباطها الوثيق بعائلة محمود الخزاعى، فهو يعبر عما يريد بالمواقف، لا الكلمات الخطابية. وهذا ليس بغريب على شوقى فهيم، فهو ليس مجرد اعلامى ارتبط اسمه بالبرنامج الثانى، وليس مجرد مترجم قدم إلينا أشهر أعمال كتاب أمريكا اللاتينية، وبعض أعمال كفافيس «فى انتظار البرابرة» وغيرها، ولكنه أيضا قاص يحمل فكرا تنويرا لا يعترف بالفواصل الاجتماعية ولا الجغرافية، أو حتى تلك الفواصل التى خلفتها عادات وتقاليد لا علاقة لها بالأديان أو المذاهب، لا هم لها إلا أن تضيق على الناس حيواتهم .