بين رياح العولمة العاتية، وفتنة الحياة التي تجتذب الإنسان من مهده إلى لحده، وآلة الزمن التي تختزل حياة البشرية إلى أرقام وتواريخ، ومعادلات يتصارع فيها العلم مع التاريخ على ذات الإنسان المحمل بالآمال، والآلام، والطموحات.. تقع رواية "إسكندرية 2050" للروائي الأردني صبحي فحماوي، محمَّلة بتلك المشاعر التي تنتاب النفس البشرية، من خلال لحظات برزخية تفصل بين الحياة والموت، ويتمثل فيها تاريخ الإنسان متقاطعًا مع حاضره، ومستقبله في إشكاليات يطرحها النص على نحو من هذا التشابك الملحمي، متفقا مع الرؤية الاستشرافية أو التنبؤية التي تخترق الزمن، ولتقف - انتهاءً - على لحظة فاصلة ينمو منها الحدث الآني/ البرزخي، الشاهد على حياة بأكملها، بصورها وتداعياتها، ومن خلال منحنى صعودها وهبوطها الدالين بحيث يتلاقى الماضي الحقيقي مع المستقبل المفترض/ المتوقع من خلال هذه المفارقة الزمانية العجيبة، ليطرح الرؤية العامة للرواية التي ترتحل من الحاضر/ الآني إلى المستقبل، ثم العودة عبر دروب الماضي مشتبكة به إلى حد التلاحم والانصهار، من خلال سيرة شخصية الرواية الرئيسية التي تنشطر على مدار الرواية لتعطينا الصوت وصداه، أو ذلك الرجع الذي تحمله هذه الشريحة الرقمية الراصدة التي يطرحها النص كمعادل للعصر العولمي الذي يحاول التهام المستقبل/ الغيب التهامًا.. حيث تلج الرواية عالم المستقبل بعلومه وتطلعاته وأبحاثه من خلال التعامل مع إحداثيات العولمة التي تعمل على تجريد الإنسان القديم/ الحالي من أسلحة بقائه؛ لتنشأ مع تطلعها شطحات علمية تسابق بها الزمن، وتجتاز حواجزه قفزاً واعتلاءً، سعيًا نحو أنماط جديدة من البشرية التي يتصارع عليها الخير والشر في علاقتهما الأزلية، حيث يصير الإنسان في كلا الحالتين سلعة بيد العلم ومنجزاته التي لا يريد بها وجه الحق، بجشع الاتجار به، وذلك من خلال استخدام الكاتب لتقنية علمية تكون مدخلًا دالًا على روح العصر/ المستقبل المستمد من تلك التسابقات العلمية الرهيبة، بحيث تمثل الشريحة الالكترونية كل شيء في هذا العالم الممسوخ، وحيث يسبق زمن السرد، زمن الكتابة بما يقرب من نصف قرن، بما يشي بهذه النظرة الاستشرافية أو التنبؤية التي تقوم على قيمة العمل بوصفه مبشرًا أو داعيًا أو كاشفًا أو محذرًا، وحيث تقع أحداث السرد في إسكندرية المستقبل المتخيلة بمقاييس منتصف القرن الواحد والعشرين (!!) الإسكندرية تلك التي تمثل فتنة الحكي وفتنة النفس/ الحياة لدى الراوي الذي يعبر عنها بقوله: "تنقلت بين كل هذه العجائب وغيرها، فما وجدت مثلك يا إسكندرية في البلاد! وأرجو أن لا تؤاخذيني، فأنا ابن المائة سنة من العمر، قد بدأت أخرف. هل هذا هو عمر الخرف؟ لا أعتقد ذلك" كما ترصد الرواية مدى التطور المحتمل والذي تحمله رؤيتها للإسكندرية التي كانت حاضرة العالم القديم البائد بمنارتها ومكتبتها وعلمائها، وعادت في المستقبل لتستقر عاصمة لعالم المستقبل، مع تلك الحالة التاريخية/ الإنسانية الجديدة التي عاصرها بطل النص المنشطر، فما بين تلك المناظر الجديدة/ الآنية بالنسبة له في مستقبله، وما بين الماضي رباط وثيق من الذكريات والحكايات التي لا تنتهي، سواء من أرض منشئه/ فلسطين، وما يحمله ذاك الرمز من معانٍ ودلالات الاستلاب والفقد، على مستوى الفرد ومستوى المجتمع، ومستوى القضية القومية المزمنة، والتي تتقابل مع تقنية أكثر من حديثة وهي التعامل مع الجنس الثالث/ الجنس الأخضر في شخصية الحفيد الذي تم استنساخه من خلايا نباتية، ليصير رمزًا للزمن القادم وزمنًا للثورة على كل المفاهيم والقواعد الطبيعية الراسخة التي تتقاتل في نفسه مع تلك النزعة/ التوجه العالمي نحو خلق إنسان جديد وتحقيق ماهية ما تصبو إليه العولمة التي جلبت هوس العلم والابتكار نحو الإنسان ذاته، باستنساخه وتعديله وإخراجه من طور خلقه الأمثل. ولعل ما يشد الانتباه في هذه الرواية هو تلك النزعة الاستشرافية التي تعصف بكل الثوابت والأعراف، والتواريخ، والأصالة الفطرية التي جُبل عليها الخلق، وجعلت من الإبداع الفطري خلقًا موازيًا، لتتجه نحو تعريف جديد لإنسان المستقبل الذي تستهوي صانعيه، النزعة إلى الكمال والتمرد على الخلق الأول ذهابًا إلى حل مشاكل جمة تعترض تلك التطلعات، ليكون رمز الإنسان الأخضر الذي تتبنى العولمة أمر نشوئه وارتقائه للاستعاضة به عن إنسان هذا الزمن، دالًا على تلك المساعي المبذولة بتخطيط عميق لتغيير مسار البشر من خلال سيادة الفكر العولمي المتمرد الذي يقرن كل شيء بالمنفعة الفردية والخلود المزعوم!! .... كاتب وناقد مصري