عيار 21 الآن وأسعار الذهب اليوم ببداية تعاملات الاثنين 27 أكتوبر 2025    استقرار نسبي في أسعار الأسمنت اليوم الإثنين 27أكتوبر 2025 فى محافظة المنيا    وزارة الخارجية تستقبل وفدا من رؤساء المجالس التنفيذية لبرامج الأمم المتحدة (صور)    ذكرى إلغاء اتفاقية 1899، لحظة استرداد السيادة المصرية على وادي النيل    الاتحاد السكندري يسعى لعبور وادي دجلة للابتعاد عن صراع المراكز الأخيرة    سيراميكا كليوباترا: نسعى للاستمرار على قمة الدوري.. وهدفنا المشاركة القارية الموسم القادم    رضا عبد العال: خوان بيزيرا " الحسنة الوحيدة" في تجربة جون إدوارد مع الزمالك.. ومجلس الإدارة "ملوش دور"    النيابة العامة تباشر التحقيق مع متهمين استغلا مشاجرة بالمنيا للتحريض الطائفي    حالة الطقس اليوم الإثنين.. أجواء خريفية على كافة الأنحاء    مصرع شاب بطلقات نارية على يد شقيقه فى قنا    بالأسماء.. 27 مصابًا في حادث تصادم أتوبيس مع سيارة نقل بطريق «الزعفرانة - رأس غارب»    اليوم.. نظر محاكمة 4 متهمين بقضية خلية حدائق القبة    اتحاد المبدعين العرب: المتحف الكبير يجسد عبقرية المصري القديم وريادة مصر الحديثة    فريدة سيف النصر تعلن تفاصيل عزاء شقيقها اليوم    بطولة محمد سلام.. التفاصيل الكاملة لمسلسل «كارثة طبيعية» قبل عرضه الأربعاء    يعرض قريبا، كل ما تريد معرفته عن مسلسل سنجل ماذر فاذر    مواقيت الصلاه اليوم الإثنين 27اكتوبر 2025 فى المنيا    وجبات عشاء خفيفة لا تسبب زيادة في الوزن    ترامب: أغادر ماليزيا بعد توقيع اتفاقيات تجارية وصفقات للمعادن النادرة    التنظيم والإدارة ينتهي من عقد الامتحانات الإلكترونية للمتقدمين لوظيفة مدير عام بمصلحة الضرائب    شعبة السيارات: الوكلاء يدفعون ثمن المبالغة في الأسعار.. والانخفاضات وصلت إلى 350 ألف جنيه    بسبب خناقه مخدرات.. تحقيق عاجل مع سيدة قتلت نجلها ببولاق الدكرور    مستند رسمي.. عضو اتحاد الكرة السابق ينشر خطاب إيقاف دونجا في السوبر (صورة)    أول أيام الصيام فلكيًا.. متى يبدأ شهر رمضان 2026؟    قوات الدعم السريع السودانية تعلن سيطرتها الكاملة على مدينة الفاشر    عاد إليها بعد إصابتها بالسرطان.. الفنان ياسر فرج يروي تفاصيل ابتعاده 5 سنوات لرعاية زوجته الراحلة    مباريات اليوم الإثنين بمجموعتي الصعيد بدوري القسم الثاني «ب»    دبابة إسرائيلية تطلق النار على قوات اليونيفيل جنوب لبنان    فنزويلا: اعتقال مرتزقة مرتبطين بالاستخبارات الأمريكية فى ترينيداد وتوباغو    بسملة علوان ابنة القليوبية تحصد المركز الثاني ببطولة الجمهورية للكاراتيه    «الموسيقى العربية» يسدل الستار على دورته ال 33    مصرع شخص سقط من الطابق الرابع بمنطقة التجمع    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الاثنين 27 أكتوبر    "ديلي تلجراف": لندن تبحث إقامة شراكة نووية مع ألمانيا تحسبًا لتراجع الدعم الأمني الأمريكي    «الداخلية» تضبط «دجال» بتهمة النصب على المواطنين في الإسكندرية    وصفة «الميني دوناتس» المثالية لأطفالك في المدرسة    عبد الحفيظ: لا أميل لضم لاعب من الزمالك أو بيراميدز إلا إذا..!    أمين عام حزب الله يتحدث عن إمكانية اندلاع حرب جديدة مع إسرائيل    التوقيت الشتوي،.. نظام يساعد الأطباء على تحسين جودة الخدمة الطبية وتوازن الحياة العملية    لاتسيو يقهر يوفنتوس.. وتعادل مثير بين فيورنتينا وبولونيا في الدوري الإيطالي    الداخلية تضبط شخصين استغلا مشاجرة بين عائلتين بالمنيا لإثارة الفتنة    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 27 أكتوبر 2025 في القاهرة والمحافظات    «عائلات تحت القبة».. مقاعد برلمانية ب«الوراثة»    عمرو أديب: موقع مصر كان وبالا عليها على مدى التاريخ.. اليونان عندها عمودين وبتجذب 35 مليون سائح    أكاديمية الفنون تُكرّم اسم الفنان السيد بدير بإعادة عرض «عائلة سعيدة جدًا»    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة في الأسواق اليوم الاثنين 27 أكتوبر 2025    أنظمة الدفاع الروسية تتصدى لهجمات بطائرات مسيرة استهدفت موسكو    مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 27-10-2025 في الشرقية    سعر الدولار اليوم الاثنين 27102025 بمحافظة الشرقية    "البلتاجي "على كرسي متحرك بمعتقل بدر 3 ..سر عداء السفاح السيسى لأيقونة يناير وفارس " رابعة"؟    بهدف قاتل ومباغت.. التأمين الإثيوبي يفرض التعادل على بيراميدز بالدور التمهيدي من دوري الأبطال    نمط حياة صحي يقلل خطر سرطان الغدة الدرقية    الزبادي اليوناني.. سر العافية في وجبة يومية    حماية المستهلك: ضبطنا مؤخرا أكثر من 3200 قضية متنوعة بمجال الغش التجاري    شيخ الأزهر: لا سلام في الشرق الأوسط دون إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس    الجمع بين المرتب والمعاش.. التعليم تكشف ضوابط استمرار المعلمين بعد التقاعد    من هو صاحب الذهب المشتراه من مصروف البيت ملك الزوجة ام الزوج؟.. أمين الفتوى يجيب    كنز من كنوز الجنة.. خالد الجندي يفسر جملة "حول ولا قوة إلا بالله"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندما يتحوّل بطل الرواية إلى شاهد آنيّ
نشر في نقطة ضوء يوم 06 - 05 - 2017

إذا أردنا أن نوجز رواية «الجنيد ألم المعرفة»، قلنا إن السارد يعود بنا إلى سنوات القرن الثالث الهجري في دار السلام بغداد، وينقل لنا أطوارا كثيفة ودالة من حياة هذا الصوفي وأساتيذه وأصحابه من أهل الاستبصار وسط محن وفتن وقلاقل لم تهدأ طوال هذا القرن، تُوجّهه رؤية روحية وحضارية من مسائل التوحيد والمعرفة والسلطة والاختلاف لم يعزه الدليل الشرعي في الدفاع عنها عبر دروس حلقته الكاشفة.
لا يخفي هذا السرد الموجز غنى مادّته التاريخية وجاذبيتها عند أيّما مؤلف قصة طالت أو قصرت تبعا لطبيعة مقولات الجنس الروائي المفترض استيعابه أو استجابته لمثل هذا النوع من المواد ومعالجتها (الرواية التاريخية، الرواية الأطروحة، الرواية السيرذاتية..)، إلا أن الإشكالات التي يمكن أن تترتّب على هذا السرد وطبيعة اشتغاله تفرّق بين هذه الرواية أو تلك؛ وهذا هو عمل التخييل السردي.
في هذا السياق، أطرح مثل هذه الأسئلة: ما هو التخييل بعامة، والتخييل المعرفي على وجه الخصوص؟ كيف يتمظهر التخييل في الرواية المعرفية عامة، ورواية (الجنيد ألم المعرفة) بخاصة، ومن ثمّ كيف يؤثر في مكوناتها وخواصّها البانية ويبني هويّتها السردية؟
1-التخييل المعرفي… أي معنى؟
التخييل هو أيما تاريخ يُبنى على وقائع متخيلة أكثر منه على وقائع حقيقية. والشخصيات التي تكون فيه هي بمثابة «شخصيات خيالية». ويمكن أن يكون عمل التخييلUne œuvre de fiction شفاهيّا أو مكتوبا، وفي مجال الأدب أو السينما أو المسرح، أو في المجال السمعي البصري. بيد أن الوقائع الممثَّلة في التخييل ليست كلُّها بالضرورة متخيلة، وذلك مثلما في حالة الرواية التاريخية التي تتأسس على وقائع تاريخية مؤكدة، بل التي تستفيد من فراغات التاريخ من أجل أن تُدخل فيه شخصيات وأحداثا مستوحاة من خيال المؤلف. وإذا كانت الأحداث أو الشخصيات متخيّلة، فلا ينبغي بالقدر ذاته أن تكون غير حقيقيةirréels : لكي يشتغل التخييل، يبدو ضروريّا أن ينخرط ناجز التخييل في ما يصفه، أن يصير جزءا من نسيجه وسداه.
وإذن، فالتخييل يجب أن يخلق انطباع الواقعي: الفرد الذي يتوجه إليه التخييل عليه أن يعتقد، لفترة محدودة من زمن الحكي، أن هذه الوقائع ممكنة.
في المجال العربي، كثيرةٌ هي الروايات الحديثة التي استثمرت التخييل في عرض مادّتها الحكائية، إن لم نقل إن التخييل صار مُهَيْمنا فيها، وتعدّدت أنواعه حسب طبيعة النوع الروائي وطرق اشتغاله النصي. ويكفي أن نشير إلى ثلاثة منها: التخييل التاريخي، والتخييل العجائبي والتخييل الذاتي.
لكن ماذا عن التخييل الآخر، التخييل المعرفي؟
تُجْمع معاجم اللغة على أن دالّ العرفان مشتقٌّ من «عَرَفَ»، ويعنى به المعرفة. لكن إذا قصرنا على أحدها، وهو (مقاييس اللغة)، نجد أن: العين والراء والفاء صحيحة، يدلُّ أحدها على تتابع الشيء مُتّصلا بعضه ببعض، والآخر على السكون والطمأنينة. وهذا التحديد يُذكّرنا بمعنى السرد نفسه في اللغة؛ إذ هو: تَقْدمة شيء إلى شيء تأتي به مُتَّسقا بعضُه في أَثر بعض متتابعا. هل يعني أن ثمة علاقة بين السرد كخطاب والعرفان كتجربة؟ نعم، ثمة علاقة، لكنها لا تشتغل، أصلا وتجوُّزا في آن، إلا حسب آليّة التخييل الذي يعيد بناء هذه التجربة النوعية ويقوم بتسريدها ضمن نصٍّ تعاقُبيٍّ تحكمه حبكة روائية متصلة تتخللها وقفات «السكون والطمأنينة» التي تفترضها التجربة نفسها، ليس باعتباره تجربة ماضية تمّت وانقطعت في التاريخ، بل دائمة التدفق وفق مقولة «الشهادة بالحضور»، التي هي عماد الرواية العرفانية.
إن على فاعل هذا الضرب من التخييل أن ينخرط في تسريد التجربة حاضرا فيها وشاهدا عليها؛ فهو ليس المؤرخ الذي يدّعي أن لا علاقةَ له بأحداث الماضي ويضرب حولها سياجا من «الموضوعية»، بل الذي يجعل هذا الماضي مستمرّا في الحاضر ومنفتحا على الآتي داخل ما ينتجه الفضاء العرفاني للرواية من إمكانات معرفية وتقنيات كتابية، لغوية وأليغورية، تستثير أسئلة الحاضر وهمومه. ومثل ذلك القارئ، فعليه بدوره أن يعتقد أن وقائع الحدث الروائي ممكنة حتى يتحقق المعنى عنده منها، وإن كانت هذه الوقائع في معظمها من صميم التجربة العرفانية المفارقة لمعيشه وفكره، إلا أنها تمثل في كل الأحوال ملامحَ من تاريخه الثقافي والحضاري، وتخاطب لاشعوره الجمعي.
لا يتأتّى هذا التخييل لأيّ كان، لأنه ليس شكليّا أكثر منه معرفيا وروحيا، إلا لسارد ذاتي متورط في التجربة مع ما فيها من أفانين سرّية وأدلة شرعية وتمثيلات كنائية، وعارف بمضايقها، ينقلها ويخبر بها للقارئ على النحو الذي يسمح له بفهمها وتذوّقها؛ ثُمّ هو يؤوّلها في حاضره بلا تعسُّف أو خلط.
إن التخييل ليس مجرد عنصر من عناصر تسريد التجربة، ولا هو مستوى أو مقولة تبرز وتخفت تبعا لطبيعة المحكيّ ونموّه في صلب العمل الروائي، بل هو «الدالّ الأكبر» الذي يؤثر بشكل حاسم في دائرة أفعال الرواية العرفانية مبنى ومتنا.
انطلاقا من هذا التصور، يمكن لنا أن نبرز عمل التخييل في علاقاته البلّورية بكلّ من المادة الحكائية، وشخص السرد ولغة الكتابة بالحال وبلاغتها الخاصة.
2. بين المرجعي والتخييلي
داخل نظرية السرد يجري التمييز بين القصة والخطاب؛ بين المادة الخامّ التي تحتوي على سلسلة من الأحداث والأفعال والوقائع، عدا عمّا يمكن تسميته بالموجودات (الشخصيات، عناصر المكان والزمان)، وبين طريقة تنظيم هذه المادة وصياغتها وَفْق وسائل تعبيرية يتمّ نقل الرواية بمقتضاها. ومن هنا، فإن الرواية لا تتحدد طبيعتها وبنيتها النوعية إلا بالقياس إلى آليات اشتغال خطابها الداخلي. وبالتالي، لا يهمّ ماذا تحكي الرواية، ولكن كيف تحكيه بشكلٍ يصنع اختلافها ويعرض رؤيتها للعالم.
يشكل التاريخ العام من جهة، ثم التاريخ الثقافي أو حقل معرفة الرجال مجالا خصبا يعود إليه مؤلف الرواية العرفانية، ويدخل معه في حوار مثمر ومفتوح، بَلْه يشتغل عليه بدأب وقصدية كما هو ظاهرٌ في مجموع أعماله. ابتداء من عنوان الرواية (الجنيد ألم المعرفة)، يظهر أنّ هناك تفصيلا حروفيّا للفاتحة النورانية المخصصة لهذا العمل الروائي وهي «ألم»، على نحو يحدد طبيعة الرواية المعرفية التي تستمدُّ قوتها من الفواتح النورانية المقطعة في بعض فواتح السور القرآنية، وتعمل على استدعاء دلالاتها الوجودية في سياق التخييل العرفاني طوال فصول العمل المقسمة بعدد الحروف، ولا يتم استشفافها إلا في الفصل الثالث؛ في حضرة الجنيد بين خاصة أصحابه وهو يتكلم معهم في مقامات التوحيد والمعرفة بلسان الإشارة، وبعد أن يكون القارئ قد أَنِس إلى لغته وأخذ على نفسه تذوُّق أحوال بلاغتها. في رحلة الحجّ عبر الصحراء، يخبر الجنيد أصحابه دون بقيّة الحجاج، بقوله:
«لقد سِرْنا بأحرف فاتحة «ألم»، فهي ثلاثة أحرف، ألف القدم، وميم الحدوث، ولام العارف الذي هو مجمع البحرين» (ص243).
يسعى الكاتب عبر الرواية إلى أن يرسم صورة روائية لأبي القاسم الجنيد البغدادي تملأ كثيرا من البياضات والفجوات بقدر ما تُقرّبه من القراء، بحيث إن أغلب من ترجموا له يتركون جزءا كبيرا من حياته غُفْلا، ولا يذكرون عنه إلا مناقب محددة وأقوالا مأثورة وإشارات ومواقف متناثرة بين كتب الأخبار والتراجم وأصحاب الطبقات، فلا نجد مثلا أي تفاصيل عن طفولته، وحياته الشخصية، وعلاقته بزوجته فاطمة، وابنيه، وخاله السري السطقي الذي تولّاه بعد موت أبيه، وأساتيذه مثل الحارث المحاسبي وأبي ثور الكلبي، وحلقته النورانية التي تولّاها بقلبه الحييّ وضميره الحيّ منذ أن رأى النبي (ص) في منامه يقوله له: «تكلّمْ على الناس»، ومحيطه الاجتماعي الذي احتكّ به بسبب عمله في الدكان الذي تركه له أبوه لبيع الخَزّ في سوق المنسوجات ببغداد.
والطريف أن الروائي الذي يتلبس صوته السردي، يقدّم الجنيدَ إلى القارئ بلا هالة قدسية؛ فهو التاجر الذي يعرف بأنواع الألبسة والمطارف والعمائم وبوظائفها، ويطلع على نوايا مرتادي السوق، وهو الشفّاف الذي تأخذه حال الطرب وتهزّ شُغاف قلبه أبيات العرفان، والعاشق الذي تسحره فاطمة وينغمر بعطرها الخاص وجسدها الملتاع، وهو الأب الذي يحوط ابنه محمد وأخته بشتى أنواع الرعايات، وهو التلميذ الذي يصحب أساتيذه بأدب وحرص، وهو المعلّم الذي يعامل أصحابه بتواضع جمّ وخلق سمح، وهو الإنسان الذي يرقّ لحال جارية في القيود وشابّ من الدراويش التصق جلده بعظمه في الصحراء، ويحقّق مسعاهما في الخلاص:
«كنت أقضي وقتي بين البيت والجامع والسوق، أخصّص لكل فضاء وقتا معيَّنا (…) كان الناس في بغداد يُعظِّمونني، حتى كنتُ أتحاشى أن أَخْطُر في دروبها وأزقّتها، لأنّهم كانوا يقومون لي صفوفا للتحية، فخشيتُ على نفسي من الكِبْر..» (ص266)
في موازاة مع ذلك، يعود الروائي إلى فترة تاريخية تستغرق نحو قرنٍ من الزمان، من 198 هجرية؛ سنة مقتل الأمين وتولّي أخيه المأمون الخلافة في بغداد، إلى 297 هجرية؛ سنة موت الجنيد. ومعها يعود إلى ما عرفته هذه الحقبة العصيبة من أحداث وقلاقل وفتن ومحن صبغت وجه ذلك العصر سياسيّا وفكريّا وحضاريّا، بل امتدّت أصداؤها في العصور جميعا إلى عصرنا الحالي. ويعود إلى علوم العصور، وطوائفه، وأجناسه، وطعامه، ولباسه، وموسيقاه، ونُذُره وغير ذلك. وأكثر من ذلك، يقدم مسحا طوبوغرافيّا لأحياء بغداد وأبوابها وأزقتها، ولطريق الرحلة إلى الحجّ، بشكل يمنح المتواليات السردية زخما واقعيّا وعاطفيّا جنبا إلى جنب مدارج السلوك العرفاني الذي يعبرها وينفذ إليها في الذهاب والإياب، فيشكّل عبرها تصوّراته للعوالم الممكنة التي ترقى إليها شواهد الحال.
لقد اتّبع الروائي في سرد مادّته عن الجنيد استراتيجية من ثلاثة وجوه متراكبة ومتطوّرة أوّلا بأول:
وجه أول مرجعي- بيوغرافي حدث في الماضي، وقد ظلّت آثاره ضمن التداول الثقافي العام، مثل القول بخلق القرآن، ومحنة أحمد بن حنبل، وترجمة العلوم العقلية، والصراع بين العلويين وأهل السنة والجماعة، ثورة الزنج، حركة القرامطة، نفوذ الأتراك في حكم العباسيّين.
وجه ثانٍ نصي- تخييلي يعيد كتابة المرجع البيوغرافي داخل حبكة سردية تنتظم المجموع وتؤلف بين عناصره مع ما يقتضيه الأمر من ملء وتحويل وشطب.
وجه ثالث عرفاني يصبغ وجه العمل بأحواله وإشاراته ضمن مفهوم الكتابة بالحال الذي يسافر من عالم الواقع إلى عالم الخيال، ابتداء من حال السري السقطي (ص46-47)، قبل أن يتعلق بشخصية الجنيد الذي تدفّق بمواقفه وأقواله وإشاراته وتأملاته في المخلوقات والطبيعة ومواجيده في المعرفة والمحبة والوصل ضفافٌ من دقائق المعاني ولطائف الأسرار، سواء داخل دكانه، أو من خلال حلقته، أو في رحلته إلى الحج.
لا يتوقف مرجع الكتابة عند الماضي ، أو يبقى أسير أحداث من التاريخ الجمعي والشخصي التي يحيل عليها، وإنما هو مرجعٌ لا زمنيٌّ ممتدٌّ يستوعب في ديمومته الماضي والمستقبل، فلا يستحضر الحكاية التاريخية ويُشيِّد مادّتها البيوغرافية بغرض استعادة الماضي واستهلاكه نفسيّا وجماليّا من طرف القارئ، وإنّما يُحيّنها لموقف آني وشرط حاضر. فإلى جانب واجب التعريف بسيرة الجنيد وردّ الاعتبار لشخصه وفكره الذي قام على تقعيد الاصطلاح بناء على التوحيد الذي يرتدّ إلى مصادر القرآن والسنة والوجود، ولأصحابه من أهل الاستبصار (النوري، سمنون، الشبلي، الجريري)، الذين واجهوا تهم أعدائهم من مترسّمي فقهاء الفروع، والتنبيه إلى الآثار المدمرة لغياب شروط التداول السلمي للسلطة، وفضح المذاهب والأيديولوجيات التي تستغلّ الدين للوصول إلى السلطة (الباهلي، غلام الخليل)، أو التي تتخبط في أوحال التوحيد، تطرح الرواية قضية المعرفة ضمن واجب احترام الرأي والرأي الآخر في ظل تنامي «عصر التطرُّفات»، والحكمة من تعدد المذاهب واختلاف أصحابها في تأويل مساحة الظنّي وفهمه ليس في مسائل الفقه وحسب، بل في الفكر الإنساني المعاصر على تشعب أوعيته وكثرة إشكالاته.
وهكذا يظهر لنا أنّ استراتيجية الرواية تقوم على استدعاء التاريخ وإعادة بنائه نصّيا على النحو الذي لا يصادم حقيقته على وجه الإمكان والاحتمال، ويجعل ذاكرة الحدث ضرورة من أجل الحاضر والمستقبل، ويجعل الجنيد بمثابة «الشاهد الآني» الذي لا تنقطع شهادته في ديمومة الوجود، مهما تلبّدت السماء الآن واكتنفتها الحجب والأدخنة.
3. الأنا السيري وهويته العرفانية:
تقع شخصية الجنيد بوصفه بطل الرواية، بين شرطها الإنساني العادي وسجلّها العرفاني الذي يميزها ويرتفع بها إلى عالم رمزي لكونها حاملة لقيم نوعية ومالكة لأسرار معرفية تساعدها على السلوك والسفر في مقامات الوجود؛ أي أنها تحضر بدلالتها العَلَمية، ثم بدلالتها الرمزية تشعّ من «ألم» المعرفة وهي تتمرأى في أعيان الموجودات، أو تتعلق بالمطلق. وفي هذا الموقف البرزخي تحقق شخصية الجنيد مرتبتها الوجودية في التخييل العرفاني.
وباعتبار ذلك شرطا في الكتابة العرفانية، وتحقيقا لمفهوم «الكتابة بالحال»، يُماهي الروائي بين صوته وصوت الجنيد، بين السارد وشخص السرد؛ إذ لا يمكن أن يكتب عنه حتى يصبح هو نفسه، ويصبح واحدا من أصحابه في حلقته، ويتلبّس أحواله ويسافر معه في مقامات التجلي والشهود.
ومن هنا، لا يضع أنا السارد بينه وبين الشخصية التي يحكي عنها مسافة ما، إنّه يبطل مثل هذه المسافة، فيحلّ فيها، ويكتب سيرته كأنّه سيرته هو ممتدّة فيه وماثلة أمامه في عين الوقت. إنّ الماضي حين يُسْدل الستار عليه تبقى آثارها التي تستعاد لاحقا ويتمّ تطويرها بشكل يعطيها «هيولى» مستمرة، وهذا هو شغل الروائي الحالّ الذي ما إن يكتب عن هذه الشخصية العرفانية حتى ينغمر بفيض أحوالها، فتتحول الكتابة عنده إلى «مماهاة» بينهما على ميدان التجربة الإنسانية. لكن ليس بمعنى التطابق؛ أي ليس إلى حدّ أن تخلق هذه المماهاة التباسا بين صوتين، وتاريخين وهويّتين على النحو الذي يعطل «خاصّوية الذاكرة» بتعبير بول ريكور.
وإذا جاز لنا القول فإن بين السارد وشخص السرد علاقة قد تحوّلت، في غمار المواجيد والأحوال والأشعار والمواقف التي جرى تسريدها، بَلْه استشفافها، إلى ما يشبه «تناسخ أرواح»؛ ليس لأنّ الجنيد أو من على شاكلته قد مات، بل لأنّ النتائج التي توصل إليها يجب أن تستمرّ وتنتقل، عبر وسيط الرواية، إلى آخرين لفهمها وتطويرها من أجل قيم مشتركة تقوم على المحبة والمعرفة والإيثار.
وأعتقد أنّ أنا السارد قد التبس بأنا السيرة، ليس بسبب رهافة دواخله، وثقافته الواسعة وحسب، بل كذلك بسببٍ من فهم المهمّة التي من أجلها يكتب؛ وهي أن يجعل مفهوم الإنسان العارف واضحا أمام الجميع، ليس بمعنى أن يأكل ويشرب ويتزوج وما إلى ذلك، بل بوصفه كأداة رائعة لتطوير الكون.
وإذن، فإن الهوية العرفانية للشخصية التي تتوتر بين الأنا والآخر، بين الشخصي واللاشخصي، ثُمّ لنصّ الرواية ككلّ، إنما هي تجري – بتعبير عبد الإله بن عرفة- في سياق بحث سبل «الوصول إلى المعروف الحاضر الغائب في الإنسان؛ أي الوجود الذي به قيام كل موجود. ولا قيام للوجود المستفاد من دون قَيُّومية الوجودِ الحقّ».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.