صُدمَ العالم بالإرهابي الأبيض المتشدد الذي قام بإطلاق النار على جموع المصلين في مسجد في نيوزيلندا، مجزرة لمدّة سبع عشرة دقيقة، بُثّت مباشرة عبر منصات التواصل الاجتماعيّ، لتكون واحدة من أبرز تجليات العصر الحالي. فالقاتل يحدق بضحاياه بينما نشاهد من شاشاتنا، آمنين، مكتوفي الأيدي، كيف “يصطاد” ضحاياه واحدا تلو الآخر. نرى بعينيه، أدواته وألعابه وأسلحته جعلته مولّدا لصور حقيقيّة، مألوفة، نراها عادة بصورة لا جديّة في ألعاب الفيديو أو فيديوهات البروباغاندا الحربيّة، لكن هنا، نحن أمام إرهاب بدقّة عالية، أتاحت تكنولوجيا العصر بأن يكون شديد الواقعية. وفي ذات الوقت، يبدو كأنه غير قابل للتصديق. والأهم، أنّ ما نراه، فيه “ربح” و”خسارة”، و”رصيد عال” يسعى “اللاعب” لتحقيقه، وفضاء يتحرك ضمنه ويتفاعل معه، لكن بعكس لعبة فيديو تقليديّة، من يموت، يبقى ميتا، لا يبعث لأجل “جولة” جديدة. لا نحاول أبدا ربط أي عمل إرهابيّ أو ممارسة عنيفة بألعاب الفيديو التقليديّة أو الحديثة، ولا دعم أي علاقة بينهما، لكننا نحاول قراءة الوضعيّة البشريّة المعاصرة التي تتبنى قواعد اللعب وتقنيات ألعاب الفيديو، وعمليات الGamification، أو اللوعبة. وتدفعنا لاختبارها سواء شئنا أم أبينا. فالمساحات الرأسماليّة قائمة على الرقابة الكليّة، تلك التي “تحصد” معلوماتنا وبياناتنا الشخصيّة. وتفترض أن كل ما نقوم به ذو هدف، ويتضمن ربحا أو خسارة، وكأنه عمل من نوع ما، يستهلكنا أثناء ممارسة حياتنا التي تحولت إلى شكل من أشكال اللعب الرقميّ، سواء كنّا مشاهدين أو لاعبين. العالم كمختبر للمراقبة يحتاج اللعب الفيديويّ عادة إلى زمن وفضاء مستقلين عن الحياة اليوميّة، ومجموعة قواعد وأدوات نتفق عليها، ومحركات للعب سواء كانت أجسادنا أو أدوات نتحكم بها وندفع إثرها اللعبة، لكن، مع هيمنة وسائل المراقبة ووسائل التواصل الاجتماعيّ، اختلط فضاء اللعب مع الفضاء الجدي إن صح التعبير، وأصبحت تقنيات التسلية والألعاب واحدة من تقنيات المراقبة. فنحن نلعب أمام الشاشة دون أن نقصد ذلك، خصوصا أن شكل العالم الرأسمالي أشبه بديزني لاند، كل ما فيه مصمم ومرسوم للعب والتسليّة لخدمة أنظمة المراقبة، والتي تتجلى مثلا بالصور التي نلتقطها لأنفسنا في المساحات العامة ونشاركها وننتظر التقييمات عليها. نحن نخلق فضاء اللعب بمجرد رفعنا العدسة للتصوير، أو حتى التواجد في المكان الذي يُرسل مباشرة إلى أجهزتنا طلبا بالتقييم. هذه المقاربة نراها بصورة سوداويّة في عمل التجهيز “الرغبة بالكودات” لليابانية سيكو ميكامي، الذي يقودنا داخل عمل تجهيز ضخم. نرى فيه على الشاشات صورا من كاميرات مراقبة حول العالم، وصورا لنا أثناء دخول المعرض، والتي تتغير بحسب كل زائر وكيفية حركته ووقوفه أمام الكاميرات ضمن عمل التجهيز. هذا اللعب ليس إجباريّا، بل مُقنع وغاويا. يحاكي رغبتنا بنيل الاعتراف والحضور ضمن العالم. فعادة هناك دائرة سحريّة تقوم على القبول بالقواعد وممارستها كي يستمر اللعب بالصورة، لكن الآن، نحن نتورط في اللعبة على الشاشات وأمام الكاميرات. لنجد أنفسنا دون وعي نؤدي أمامها، أما رفض ذلك جذريا، فقد يعني نفينا من العالم وحرماننا من بعض “مميزاته”. لم يعد اللعب حصريا على اتفاق ضمنيّ بيننا نحن البشر وبين الآلة التي لا تمتلك عواطف، ذات التصميم والهدف المبرمج مسبقا. رفضنا لها، لا يعني توقفها، إذ أصبحت وسيطا أيضا، نحن نلعب بين بعضنا البعض، كون تطبيق الهاتف لا يدرك دوافع اللعب بل يسهلها لخدمة مُبرمجه، ويوظف أنظمة المكافآت، ويخلق التحدّيات، التي لا بد من إنجازها، ويضبطها مدى تورط الآخرين، الذين بمشاركتهم نكسب فيها نقاطا/مالا، كما في شيفرات الولاء التي بإرسالها لآخرين نكسب نقاطا أكثر، نورطهم باللعب كي نكسب نحن المزيد من التسلية أو المال أو الاعتراف. هذه الديناميكيّة يلتقطها مسلسل “بلاك ميرور” في حلقة بان تيب، والتي تشابه ديستوبيا تهيمن فيها الصور ووسائل التواصل الاجتماعيّ وألعابها على حياة الأفراد. في حال الفشل بتحقق المطلوب أو مخالفة اللعبة، النهاية تكون مأساويّة، إذ تتلاشى الذات أمام “الشخصيّة” التي نلعبها. اللوعبة الرقميّة التي تحكم الحياة اليوميّة، تعني القبول بالتغيرات التي تحصل على اللعبة وتؤثر بأسلوب حياتنا. ولنأخذ كمثال فيسبوك، الذي يقوم على أساس قاعدة بسيطة: أعطنا بياناتك لنوفر خدمتنا مجانا. هذه الخدمة هي التواصل مع الآخرين. الخطر، أن فيسبوك يحوّر مفاهيم اللعب التقليديّة. فنحن لا نعرف كل القواعد، وكتّاب الخوارزميات والأرقام والعلاقات بينها لا يكشفون لنا المنافع الخفيّة التي ينالونها، والتي نكتشفها مع كل فضيحة. لكن الأهم، أن فيسبوك يغير هذه القواعد دون علمنا، ويستفيد مما قمنا به سابقا. إذ تتغير قواعد الخصوصية وتفعّل القواعد الجديدة بأثر رجعي، خطواتنا وحركاتنا، ونشاطنا السابق لا نعلم ما سيكون مصيره، وكيف سيستخدم ولمن سيباع، خصوصا أنه لا يوجد شكل واضح للربح أو الخسارة، ولا توجد صيغة مثالية كما في لعبة فيديو تقليدية، نقتل الوحش فيها فنفوز، أو نسيطر على كل الأماكن فنكسب اللعبة وتنتهي. القواعد تتغير على مستويين، كلما استمررنا باللعب وكلما قرر المبرمجون تغييرها، كمتاهة باك مان التي صممت عام 2014، باسم Infinite Maze، والتي تتغير كلما استمررنا في اللعب وتجميع النقاط، لا يمكن الفوز بها ولا التوقف عن لعبها ولا التنبؤ بمسارها. أوهام المجد الرقميّ يرتبط الربح والخسارة بالمجد الذي يحققه المُنتصر. فكلنا نريد أن نكون الأفضل والأشهر والأسرع. وهنا يظهر نظام الحوافز، ذاك الذي يورطنا في اللعب من أجل المجد، كما يفعل يوتيوب مثلا، الذي يجعلنا “مشاهير”، ثم يعطينا النقود حين نصل إلى عدد مشاهدات مُحدد. إثر ذلك، ظهرت فئة من المبتذلين والحمقى ومدمني الحضور على الشاشة. أولئك الذين يدفعون بأنفسهم إلى حد المخاطرة بحياتهم من أجل “المجد”. وهنا، وبسبب سياسات الظهور هذه، أصبح العالم مليئا بمنافسين مُحتملين. الكل يشكل تهديدا، ما يعني السعي نحو عدد مشاهدات أكثر مهما كان الثمن. الأهم أن الأعداء المحتملين أصبحوا أكثر، كلما ظهروا وتزايدت صورهم، ازدادت الكراهية ضدهم. لعبة الظهور هذه تحولت إلى “عمل”. وأصبحت جزءا من الثقافة الشعبيّة. وغدا بعض ممارسيها أيقونات شهيرة فقط لأنهم مُسلون ومضحكون و”يتابعهم” الكثيرون، سواء كان الواحد منهم برتقالة بفم بشري تُزعج باقي الفواكه، أو جوش أوستروفسكي سيد الحماقات والابتذال. يتطلب اللعب عادة مهارة من نوع ما. تلك التي نكتسبها بالتمرين أو الخبرة، ونستفيد منها في الحياة اليوميّة كما في الألعاب الرياضيّة التي يحافظ فيها الرياضي على بنيانه الجسديّ. وهناك أيضا ألعاب تقوم على الحظ والاحتمالات. لكن، مع أشكال اللعب المدمجة بالمراقبة، هناك سيناريو مدروس لكل شيء. الحظ يتحول إلى احتمالات نتائجها معروفة لا نستطيع إدراكها. الأهم أن المهارة والحظ ليسا من العوامل التي تحرك اللعبة، كونها تستمر حتى لو لم نتقنها. هي تعرّفنا على نفسها وقواعدها وتغوينا، بل إن بعض هذه الألعاب تُعاملنا كفائزين ما إن نبدأ بالمشاركة، كالدولارات العشرة التي يضعها البنك في حسابنا حينما نحصل على بطاقة ائتمان. وبما أن هذه البطاقة تتحكم بحياتنا، يظهر إثرها نظام النقاط، كلما اشترينا/أنفقنا أكثر، كلما تراكمت نقاط أكثر وازداد معدل الربح الشخصيّ، والربح هنا مرتبط بالتأمين الصحي وقرض السكن ومقومات الحياة نفسها التي يجب ألا ترتبط بمدى ولائنا للاستهلاك، فقواعد اللعب لم تعد مميزة عن قواعد الحياة الجديّة، هي متداخلة وعميقة في حياتنا، وكأننا نؤدي ضمن لعبة لا نعرف كل قواعدها، ولا نعلم متى أو كيف نفوز، لكن نعلم بدقة كيف نخسر. لا ننفي أهميّة تقنيات اللعب في زيادة الإنتاجيّة والتعليم وتخطي العقبات، لكن، هذا التداخل بين الجديّ والمسلّي جعل أنظمة اللعب تتطابق مع الكثير من جوانب الحياة بل وتضبط إيقاعها. إذ لم يعد اللعب تمرينا لا جديا على ما يمكن أن نواجهه في الواقع أو محاكاة لصعوبات مهنيّة يمكن تفاديها لاحقا، كما في أنظمة محاكاة الطيران أو القيادة، بل استخداما للحياة نفسها، دون القدرة على التراجع عن الخطأ أو اكتساب الخبرة لتفاديه. الأهم، أن الخطأ نفسه إن حدث أصبح جزءا من اللعبة التي تتكيف معه وتتبناه، كالبشر الناجين في فيلم ماتريكس الشهير، الذي نكتشف فيه أن نيو أو “الواحد”، ليس سوى خطأ متكرر، وجزء من اللعبة، المحكوم بخسارتها هو والبشر الناجون، كل ما اكتسبه من مهارات ليس سوى استعداد للخسارة المحتومة. ضد اللعب تحول اللعب إلى صيغة من صيغ الهيمنة والتحكم بالإرادة والوعي، فلا بد من تحريره، لارتباط ذلك بانعتاقنا الشخصي كبشر، لا فقط عبر خلق فضاءات مختلفة عن اليومي والجديّ بل أيضا تخريب اللعبة نفسها وقواعدها، كونها تحضر في حياتنا ومن حولنا. التخريب أو خلق العيوب والإشارة إليها، يكشف قواعد اللعبة الخفيّة، والمسؤولين عن ضبطها واستمرارها. فنحن لن نرفض اللعب، بل سنهدد قواعده وتماسكه. كما نرى مثلا في الأزياء المضادة للمراقبة، التي أنتجها آدام هيرفاي والتي تمنع ظهور الصور وتشوّشها. تبدو هذه الأزياء مضحكة، لكنها تسخر من كاميرات المراقبة في الشوارع والدرونز في السماء. فصعوبة التحرر كليا من سطوة اللعب الذي توظفه القطاعات السياسيّة والاقتصاديّة، حوّلت مواجهته إلى نوع من اللعب المضاد، السلبيّ، ذاك الذي يخالف المعتاد، كأن نتحرك جميعا كأننا نلعب الباركور، مهدين نظام التدفق البشري في الشوارع وقنوات الانتقال الرسميّة (الشوارع-الأرصفة)، أو أن نقوم بتغيير إعدادات الهواتف وتخريب الأدوات المستخدمة لتحديد أماكننا وتوليد مُعطيات وهميّة لا قيمة لها، لكنها منطقيّة، تدفع اللعبة نفسها للتشكيك بجدواها.