ارتفاع أسعار الذهب الفورية اليوم الخميس 31-7-2025    نمو مبيعات التجزئة في اليابان بنسبة 2% خلال الشهر الماضي    فورد تتوقع خسائر بقيمة ملياري دولار هذا العام نتيجة رسوم ترامب    هاريس ستدلي بشهادتها في الكونجرس بشأن الحالة العقلية لبايدن والعفو عن 2500 شخص    ترامب يهدد كندا حال الاعتراف بدولة فلسطين: لن نعقد اتفاقا تجاريا    20 شاحنة مساعدات إماراتية تستعد للدخول إلى قطاع غزة    إصابة 4 أشخاص في حادث انقلاب سيارة بشمال سيناء    ملعب الإسكندرية يتحول إلى منصة فنية ضمن فعاليات "صيف الأوبرا 2025"    سعر الدولار اليوم الخميس 31-7-2025 بعد تسجيله أعلى مستوياته خلال 60 يومًا    معتقل من ذوي الهمم يقود "الإخوان".. داخلية السيسي تقتل فريد شلبي المعلم بالأزهر بمقر أمني بكفر الشيخ    "ابن العبري".. راهب عبر العصور وخلّد اسمه في اللاهوت والفلسفة والطب    قناة السويس حكاية وطنl القناة الجديدة.. 10 سنوات من التحدى والإنجاز    الرئيس الفلسطيني يرحب ب"الموقف التاريخي والشجاع" لكندا    لليوم الرابع، ارتفاع أسعار النفط وسط مخاوف من تأثر الإمدادات بتهديدات ترامب الجمركية    دعمًا لمرشح «الجبهة الوطنية».. مؤتمر حاشد للسيدات بالقليوبية    المهرجان القومي للمسرح يكرم روح الناقدين أحمد هاشم ويوسف مسلم    قناة السويس حكاية وطن l حُفرت بأيادٍ مصرية وسُرقت ب«امتياز فرنسى»    الطب الشرعى يحل لغز وفاة أب وابنائه الستة فى المنيا.. تفاصيل    سلاح النفط العربي    حرمه منها كلوب وسلوت ينصفه، ليفربول يستعد لتحقيق حلم محمد صلاح    نحن ضحايا «عك»    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    طريقة عمل سلطة الفتوش على الطريقة الأصلية    المهرجان القومي للمسرح يحتفي بالفائزين في مسابقة التأليف المسرحي    بمحيط مديرية التربية والتعليم.. مدير أمن سوهاج يقود حملة مرورية    بينهم طفل.. إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق فايد بالإسماعيلية (أسماء)    بعد الزلزال.. الحيتان تجنح ل شواطئ اليابان قبل وصول التسونامي (فيديو)    الدفاع الروسية: اعتراض 13 مسيرة أوكرانية فوق مقاطعتي روستوف وبيلجورود    اتحاد الدواجن يكشف سبب انخفاض الأسعار خلال الساعات الأخيرة    "بعد يومين من انضمامه".. لاعب الزمالك الجديد يتعرض للإصابة خلال مران الفريق    رامي رضوان ودنيا سمير غانم وابنتهما كايلا يتألقون بالعرض الخاص ل «روكي الغلابة»    نقيب السينمائيين: لطفي لبيب أحد رموز العمل الفني والوطني.. ورحيله خسارة كبيرة    السيارات الكهربائية.. والعاصمة الإنجليزية!    424 مرشحًا يتنافسون على 200 مقعد.. صراع «الشيوخ» يدخل مرحلة الحسم    الحقيقة متعددة الروايات    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    الحد الأدني للقبول في الصف الأول الثانوي 2025 المرحلة الثانية في 7 محافظات .. رابط التقديم    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 31 يوليو 2025    اصطدام قطار برصيف محطة "السنطة" في الغربية.. وخروج عربة من على القضبان    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    التوأم يشترط وديات من العيار الثقيل لمنتخب مصر قبل مواجهتي إثيوبيا وبوركينا فاسو    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    في حفل زفاف بقنا.. طلق ناري يصيب طالبة    هل يعاني الجفالي من إصابة مزمنة؟.. طبيب الزمالك السابق يجيب    "تلقى عرضين".. أحمد شوبير يكشف الموقف النهائي للاعب مع الفريق    مدير تعليم القاهرة تتفقد أعمال الإنشاء والصيانة بمدارس المقطم وتؤكد الالتزام بالجدول الزمني    القبض على 3 شباب بتهمة الاعتداء على آخر وهتك عرضه بالفيوم    حياة كريمة.. الكشف على 817 مواطنا بقافلة طبية بالتل الكبير بالإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل صارت حياة البشر لعبة فيديو مغشوشة ؟
نشر في صوت البلد يوم 21 - 05 - 2019

صُدمَ العالم بالإرهابي الأبيض المتشدد الذي قام بإطلاق النار على جموع المصلين في مسجد في نيوزيلندا، مجزرة لمدّة سبع عشرة دقيقة، بُثّت مباشرة عبر منصات التواصل الاجتماعيّ، لتكون واحدة من أبرز تجليات العصر الحالي. فالقاتل يحدق بضحاياه بينما نشاهد من شاشاتنا، آمنين، مكتوفي الأيدي، كيف “يصطاد” ضحاياه واحدا تلو الآخر.
نرى بعينيه، أدواته وألعابه وأسلحته جعلته مولّدا لصور حقيقيّة، مألوفة، نراها عادة بصورة لا جديّة في ألعاب الفيديو أو فيديوهات البروباغاندا الحربيّة، لكن هنا، نحن أمام إرهاب بدقّة عالية، أتاحت تكنولوجيا العصر بأن يكون شديد الواقعية. وفي ذات الوقت، يبدو كأنه غير قابل للتصديق. والأهم، أنّ ما نراه، فيه “ربح” و”خسارة”، و”رصيد عال” يسعى “اللاعب” لتحقيقه، وفضاء يتحرك ضمنه ويتفاعل معه، لكن بعكس لعبة فيديو تقليديّة، من يموت، يبقى ميتا، لا يبعث لأجل “جولة” جديدة.
لا نحاول أبدا ربط أي عمل إرهابيّ أو ممارسة عنيفة بألعاب الفيديو التقليديّة أو الحديثة، ولا دعم أي علاقة بينهما، لكننا نحاول قراءة الوضعيّة البشريّة المعاصرة التي تتبنى قواعد اللعب وتقنيات ألعاب الفيديو، وعمليات الGamification، أو اللوعبة. وتدفعنا لاختبارها سواء شئنا أم أبينا. فالمساحات الرأسماليّة قائمة على الرقابة الكليّة، تلك التي “تحصد” معلوماتنا وبياناتنا الشخصيّة. وتفترض أن كل ما نقوم به ذو هدف، ويتضمن ربحا أو خسارة، وكأنه عمل من نوع ما، يستهلكنا أثناء ممارسة حياتنا التي تحولت إلى شكل من أشكال اللعب الرقميّ، سواء كنّا مشاهدين أو لاعبين.
العالم كمختبر للمراقبة
يحتاج اللعب الفيديويّ عادة إلى زمن وفضاء مستقلين عن الحياة اليوميّة، ومجموعة قواعد وأدوات نتفق عليها، ومحركات للعب سواء كانت أجسادنا أو أدوات نتحكم بها وندفع إثرها اللعبة، لكن، مع هيمنة وسائل المراقبة ووسائل التواصل الاجتماعيّ، اختلط فضاء اللعب مع الفضاء الجدي إن صح التعبير، وأصبحت تقنيات التسلية والألعاب واحدة من تقنيات المراقبة. فنحن نلعب أمام الشاشة دون أن نقصد ذلك، خصوصا أن شكل العالم الرأسمالي أشبه بديزني لاند، كل ما فيه مصمم ومرسوم للعب والتسليّة لخدمة أنظمة المراقبة، والتي تتجلى مثلا بالصور التي نلتقطها لأنفسنا في المساحات العامة ونشاركها وننتظر التقييمات عليها. نحن نخلق فضاء اللعب بمجرد رفعنا العدسة للتصوير، أو حتى التواجد في المكان الذي يُرسل مباشرة إلى أجهزتنا طلبا بالتقييم.
هذه المقاربة نراها بصورة سوداويّة في عمل التجهيز “الرغبة بالكودات” لليابانية سيكو ميكامي، الذي يقودنا داخل عمل تجهيز ضخم. نرى فيه على الشاشات صورا من كاميرات مراقبة حول العالم، وصورا لنا أثناء دخول المعرض، والتي تتغير بحسب كل زائر وكيفية حركته ووقوفه أمام الكاميرات ضمن عمل التجهيز.
هذا اللعب ليس إجباريّا، بل مُقنع وغاويا. يحاكي رغبتنا بنيل الاعتراف والحضور ضمن العالم. فعادة هناك دائرة سحريّة تقوم على القبول بالقواعد وممارستها كي يستمر اللعب بالصورة، لكن الآن، نحن نتورط في اللعبة على الشاشات وأمام الكاميرات. لنجد أنفسنا دون وعي نؤدي أمامها، أما رفض ذلك جذريا، فقد يعني نفينا من العالم وحرماننا من بعض “مميزاته”.
لم يعد اللعب حصريا على اتفاق ضمنيّ بيننا نحن البشر وبين الآلة التي لا تمتلك عواطف، ذات التصميم والهدف المبرمج مسبقا. رفضنا لها، لا يعني توقفها، إذ أصبحت وسيطا أيضا، نحن نلعب بين بعضنا البعض، كون تطبيق الهاتف لا يدرك دوافع اللعب بل يسهلها لخدمة مُبرمجه، ويوظف أنظمة المكافآت، ويخلق التحدّيات، التي لا بد من إنجازها، ويضبطها مدى تورط الآخرين، الذين بمشاركتهم نكسب فيها نقاطا/مالا، كما في شيفرات الولاء التي بإرسالها لآخرين نكسب نقاطا أكثر، نورطهم باللعب كي نكسب نحن المزيد من التسلية أو المال أو الاعتراف.
هذه الديناميكيّة يلتقطها مسلسل “بلاك ميرور” في حلقة بان تيب، والتي تشابه ديستوبيا تهيمن فيها الصور ووسائل التواصل الاجتماعيّ وألعابها على حياة الأفراد. في حال الفشل بتحقق المطلوب أو مخالفة اللعبة، النهاية تكون مأساويّة، إذ تتلاشى الذات أمام “الشخصيّة” التي نلعبها.
اللوعبة الرقميّة التي تحكم الحياة اليوميّة، تعني القبول بالتغيرات التي تحصل على اللعبة وتؤثر بأسلوب حياتنا. ولنأخذ كمثال فيسبوك، الذي يقوم على أساس قاعدة بسيطة: أعطنا بياناتك لنوفر خدمتنا مجانا. هذه الخدمة هي التواصل مع الآخرين. الخطر، أن فيسبوك يحوّر مفاهيم اللعب التقليديّة. فنحن لا نعرف كل القواعد، وكتّاب الخوارزميات والأرقام والعلاقات بينها لا يكشفون لنا المنافع الخفيّة التي ينالونها، والتي نكتشفها مع كل فضيحة.
لكن الأهم، أن فيسبوك يغير هذه القواعد دون علمنا، ويستفيد مما قمنا به سابقا. إذ تتغير قواعد الخصوصية وتفعّل القواعد الجديدة بأثر رجعي، خطواتنا وحركاتنا، ونشاطنا السابق لا نعلم ما سيكون مصيره، وكيف سيستخدم ولمن سيباع، خصوصا أنه لا يوجد شكل واضح للربح أو الخسارة، ولا توجد صيغة مثالية كما في لعبة فيديو تقليدية، نقتل الوحش فيها فنفوز، أو نسيطر على كل الأماكن فنكسب اللعبة وتنتهي.
القواعد تتغير على مستويين، كلما استمررنا باللعب وكلما قرر المبرمجون تغييرها، كمتاهة باك مان التي صممت عام 2014، باسم Infinite Maze، والتي تتغير كلما استمررنا في اللعب وتجميع النقاط، لا يمكن الفوز بها ولا التوقف عن لعبها ولا التنبؤ بمسارها.
أوهام المجد الرقميّ
يرتبط الربح والخسارة بالمجد الذي يحققه المُنتصر. فكلنا نريد أن نكون الأفضل والأشهر والأسرع. وهنا يظهر نظام الحوافز، ذاك الذي يورطنا في اللعب من أجل المجد، كما يفعل يوتيوب مثلا، الذي يجعلنا “مشاهير”، ثم يعطينا النقود حين نصل إلى عدد مشاهدات مُحدد.
إثر ذلك، ظهرت فئة من المبتذلين والحمقى ومدمني الحضور على الشاشة. أولئك الذين يدفعون بأنفسهم إلى حد المخاطرة بحياتهم من أجل “المجد”. وهنا، وبسبب سياسات الظهور هذه، أصبح العالم مليئا بمنافسين مُحتملين. الكل يشكل تهديدا، ما يعني السعي نحو عدد مشاهدات أكثر مهما كان الثمن. الأهم أن الأعداء المحتملين أصبحوا أكثر، كلما ظهروا وتزايدت صورهم، ازدادت الكراهية ضدهم.
لعبة الظهور هذه تحولت إلى “عمل”. وأصبحت جزءا من الثقافة الشعبيّة. وغدا بعض ممارسيها أيقونات شهيرة فقط لأنهم مُسلون ومضحكون و”يتابعهم” الكثيرون، سواء كان الواحد منهم برتقالة بفم بشري تُزعج باقي الفواكه، أو جوش أوستروفسكي سيد الحماقات والابتذال.
يتطلب اللعب عادة مهارة من نوع ما. تلك التي نكتسبها بالتمرين أو الخبرة، ونستفيد منها في الحياة اليوميّة كما في الألعاب الرياضيّة التي يحافظ فيها الرياضي على بنيانه الجسديّ. وهناك أيضا ألعاب تقوم على الحظ والاحتمالات.
لكن، مع أشكال اللعب المدمجة بالمراقبة، هناك سيناريو مدروس لكل شيء. الحظ يتحول إلى احتمالات نتائجها معروفة لا نستطيع إدراكها. الأهم أن المهارة والحظ ليسا من العوامل التي تحرك اللعبة، كونها تستمر حتى لو لم نتقنها. هي تعرّفنا على نفسها وقواعدها وتغوينا، بل إن بعض هذه الألعاب تُعاملنا كفائزين ما إن نبدأ بالمشاركة، كالدولارات العشرة التي يضعها البنك في حسابنا حينما نحصل على بطاقة ائتمان. وبما أن هذه البطاقة تتحكم بحياتنا، يظهر إثرها نظام النقاط، كلما اشترينا/أنفقنا أكثر، كلما تراكمت نقاط أكثر وازداد معدل الربح الشخصيّ، والربح هنا مرتبط بالتأمين الصحي وقرض السكن ومقومات الحياة نفسها التي يجب ألا ترتبط بمدى ولائنا للاستهلاك، فقواعد اللعب لم تعد مميزة عن قواعد الحياة الجديّة، هي متداخلة وعميقة في حياتنا، وكأننا نؤدي ضمن لعبة لا نعرف كل قواعدها، ولا نعلم متى أو كيف نفوز، لكن نعلم بدقة كيف نخسر.
لا ننفي أهميّة تقنيات اللعب في زيادة الإنتاجيّة والتعليم وتخطي العقبات، لكن، هذا التداخل بين الجديّ والمسلّي جعل أنظمة اللعب تتطابق مع الكثير من جوانب الحياة بل وتضبط إيقاعها. إذ لم يعد اللعب تمرينا لا جديا على ما يمكن أن نواجهه في الواقع أو محاكاة لصعوبات مهنيّة يمكن تفاديها لاحقا، كما في أنظمة محاكاة الطيران أو القيادة، بل استخداما للحياة نفسها، دون القدرة على التراجع عن الخطأ أو اكتساب الخبرة لتفاديه.
الأهم، أن الخطأ نفسه إن حدث أصبح جزءا من اللعبة التي تتكيف معه وتتبناه، كالبشر الناجين في فيلم ماتريكس الشهير، الذي نكتشف فيه أن نيو أو “الواحد”، ليس سوى خطأ متكرر، وجزء من اللعبة، المحكوم بخسارتها هو والبشر الناجون، كل ما اكتسبه من مهارات ليس سوى استعداد للخسارة المحتومة.
ضد اللعب
تحول اللعب إلى صيغة من صيغ الهيمنة والتحكم بالإرادة والوعي، فلا بد من تحريره، لارتباط ذلك بانعتاقنا الشخصي كبشر، لا فقط عبر خلق فضاءات مختلفة عن اليومي والجديّ بل أيضا تخريب اللعبة نفسها وقواعدها، كونها تحضر في حياتنا ومن حولنا.
التخريب أو خلق العيوب والإشارة إليها، يكشف قواعد اللعبة الخفيّة، والمسؤولين عن ضبطها واستمرارها. فنحن لن نرفض اللعب، بل سنهدد قواعده وتماسكه. كما نرى مثلا في الأزياء المضادة للمراقبة، التي أنتجها آدام هيرفاي والتي تمنع ظهور الصور وتشوّشها.
تبدو هذه الأزياء مضحكة، لكنها تسخر من كاميرات المراقبة في الشوارع والدرونز في السماء. فصعوبة التحرر كليا من سطوة اللعب الذي توظفه القطاعات السياسيّة والاقتصاديّة، حوّلت مواجهته إلى نوع من اللعب المضاد، السلبيّ، ذاك الذي يخالف المعتاد، كأن نتحرك جميعا كأننا نلعب الباركور، مهدين نظام التدفق البشري في الشوارع وقنوات الانتقال الرسميّة (الشوارع-الأرصفة)، أو أن نقوم بتغيير إعدادات الهواتف وتخريب الأدوات المستخدمة لتحديد أماكننا وتوليد مُعطيات وهميّة لا قيمة لها، لكنها منطقيّة، تدفع اللعبة نفسها للتشكيك بجدواها.
صُدمَ العالم بالإرهابي الأبيض المتشدد الذي قام بإطلاق النار على جموع المصلين في مسجد في نيوزيلندا، مجزرة لمدّة سبع عشرة دقيقة، بُثّت مباشرة عبر منصات التواصل الاجتماعيّ، لتكون واحدة من أبرز تجليات العصر الحالي. فالقاتل يحدق بضحاياه بينما نشاهد من شاشاتنا، آمنين، مكتوفي الأيدي، كيف “يصطاد” ضحاياه واحدا تلو الآخر.
نرى بعينيه، أدواته وألعابه وأسلحته جعلته مولّدا لصور حقيقيّة، مألوفة، نراها عادة بصورة لا جديّة في ألعاب الفيديو أو فيديوهات البروباغاندا الحربيّة، لكن هنا، نحن أمام إرهاب بدقّة عالية، أتاحت تكنولوجيا العصر بأن يكون شديد الواقعية. وفي ذات الوقت، يبدو كأنه غير قابل للتصديق. والأهم، أنّ ما نراه، فيه “ربح” و”خسارة”، و”رصيد عال” يسعى “اللاعب” لتحقيقه، وفضاء يتحرك ضمنه ويتفاعل معه، لكن بعكس لعبة فيديو تقليديّة، من يموت، يبقى ميتا، لا يبعث لأجل “جولة” جديدة.
لا نحاول أبدا ربط أي عمل إرهابيّ أو ممارسة عنيفة بألعاب الفيديو التقليديّة أو الحديثة، ولا دعم أي علاقة بينهما، لكننا نحاول قراءة الوضعيّة البشريّة المعاصرة التي تتبنى قواعد اللعب وتقنيات ألعاب الفيديو، وعمليات الGamification، أو اللوعبة. وتدفعنا لاختبارها سواء شئنا أم أبينا. فالمساحات الرأسماليّة قائمة على الرقابة الكليّة، تلك التي “تحصد” معلوماتنا وبياناتنا الشخصيّة. وتفترض أن كل ما نقوم به ذو هدف، ويتضمن ربحا أو خسارة، وكأنه عمل من نوع ما، يستهلكنا أثناء ممارسة حياتنا التي تحولت إلى شكل من أشكال اللعب الرقميّ، سواء كنّا مشاهدين أو لاعبين.
العالم كمختبر للمراقبة
يحتاج اللعب الفيديويّ عادة إلى زمن وفضاء مستقلين عن الحياة اليوميّة، ومجموعة قواعد وأدوات نتفق عليها، ومحركات للعب سواء كانت أجسادنا أو أدوات نتحكم بها وندفع إثرها اللعبة، لكن، مع هيمنة وسائل المراقبة ووسائل التواصل الاجتماعيّ، اختلط فضاء اللعب مع الفضاء الجدي إن صح التعبير، وأصبحت تقنيات التسلية والألعاب واحدة من تقنيات المراقبة. فنحن نلعب أمام الشاشة دون أن نقصد ذلك، خصوصا أن شكل العالم الرأسمالي أشبه بديزني لاند، كل ما فيه مصمم ومرسوم للعب والتسليّة لخدمة أنظمة المراقبة، والتي تتجلى مثلا بالصور التي نلتقطها لأنفسنا في المساحات العامة ونشاركها وننتظر التقييمات عليها. نحن نخلق فضاء اللعب بمجرد رفعنا العدسة للتصوير، أو حتى التواجد في المكان الذي يُرسل مباشرة إلى أجهزتنا طلبا بالتقييم.
هذه المقاربة نراها بصورة سوداويّة في عمل التجهيز “الرغبة بالكودات” لليابانية سيكو ميكامي، الذي يقودنا داخل عمل تجهيز ضخم. نرى فيه على الشاشات صورا من كاميرات مراقبة حول العالم، وصورا لنا أثناء دخول المعرض، والتي تتغير بحسب كل زائر وكيفية حركته ووقوفه أمام الكاميرات ضمن عمل التجهيز.
هذا اللعب ليس إجباريّا، بل مُقنع وغاويا. يحاكي رغبتنا بنيل الاعتراف والحضور ضمن العالم. فعادة هناك دائرة سحريّة تقوم على القبول بالقواعد وممارستها كي يستمر اللعب بالصورة، لكن الآن، نحن نتورط في اللعبة على الشاشات وأمام الكاميرات. لنجد أنفسنا دون وعي نؤدي أمامها، أما رفض ذلك جذريا، فقد يعني نفينا من العالم وحرماننا من بعض “مميزاته”.
لم يعد اللعب حصريا على اتفاق ضمنيّ بيننا نحن البشر وبين الآلة التي لا تمتلك عواطف، ذات التصميم والهدف المبرمج مسبقا. رفضنا لها، لا يعني توقفها، إذ أصبحت وسيطا أيضا، نحن نلعب بين بعضنا البعض، كون تطبيق الهاتف لا يدرك دوافع اللعب بل يسهلها لخدمة مُبرمجه، ويوظف أنظمة المكافآت، ويخلق التحدّيات، التي لا بد من إنجازها، ويضبطها مدى تورط الآخرين، الذين بمشاركتهم نكسب فيها نقاطا/مالا، كما في شيفرات الولاء التي بإرسالها لآخرين نكسب نقاطا أكثر، نورطهم باللعب كي نكسب نحن المزيد من التسلية أو المال أو الاعتراف.
هذه الديناميكيّة يلتقطها مسلسل “بلاك ميرور” في حلقة بان تيب، والتي تشابه ديستوبيا تهيمن فيها الصور ووسائل التواصل الاجتماعيّ وألعابها على حياة الأفراد. في حال الفشل بتحقق المطلوب أو مخالفة اللعبة، النهاية تكون مأساويّة، إذ تتلاشى الذات أمام “الشخصيّة” التي نلعبها.
اللوعبة الرقميّة التي تحكم الحياة اليوميّة، تعني القبول بالتغيرات التي تحصل على اللعبة وتؤثر بأسلوب حياتنا. ولنأخذ كمثال فيسبوك، الذي يقوم على أساس قاعدة بسيطة: أعطنا بياناتك لنوفر خدمتنا مجانا. هذه الخدمة هي التواصل مع الآخرين. الخطر، أن فيسبوك يحوّر مفاهيم اللعب التقليديّة. فنحن لا نعرف كل القواعد، وكتّاب الخوارزميات والأرقام والعلاقات بينها لا يكشفون لنا المنافع الخفيّة التي ينالونها، والتي نكتشفها مع كل فضيحة.
لكن الأهم، أن فيسبوك يغير هذه القواعد دون علمنا، ويستفيد مما قمنا به سابقا. إذ تتغير قواعد الخصوصية وتفعّل القواعد الجديدة بأثر رجعي، خطواتنا وحركاتنا، ونشاطنا السابق لا نعلم ما سيكون مصيره، وكيف سيستخدم ولمن سيباع، خصوصا أنه لا يوجد شكل واضح للربح أو الخسارة، ولا توجد صيغة مثالية كما في لعبة فيديو تقليدية، نقتل الوحش فيها فنفوز، أو نسيطر على كل الأماكن فنكسب اللعبة وتنتهي.
القواعد تتغير على مستويين، كلما استمررنا باللعب وكلما قرر المبرمجون تغييرها، كمتاهة باك مان التي صممت عام 2014، باسم Infinite Maze، والتي تتغير كلما استمررنا في اللعب وتجميع النقاط، لا يمكن الفوز بها ولا التوقف عن لعبها ولا التنبؤ بمسارها.
أوهام المجد الرقميّ
يرتبط الربح والخسارة بالمجد الذي يحققه المُنتصر. فكلنا نريد أن نكون الأفضل والأشهر والأسرع. وهنا يظهر نظام الحوافز، ذاك الذي يورطنا في اللعب من أجل المجد، كما يفعل يوتيوب مثلا، الذي يجعلنا “مشاهير”، ثم يعطينا النقود حين نصل إلى عدد مشاهدات مُحدد.
إثر ذلك، ظهرت فئة من المبتذلين والحمقى ومدمني الحضور على الشاشة. أولئك الذين يدفعون بأنفسهم إلى حد المخاطرة بحياتهم من أجل “المجد”. وهنا، وبسبب سياسات الظهور هذه، أصبح العالم مليئا بمنافسين مُحتملين. الكل يشكل تهديدا، ما يعني السعي نحو عدد مشاهدات أكثر مهما كان الثمن. الأهم أن الأعداء المحتملين أصبحوا أكثر، كلما ظهروا وتزايدت صورهم، ازدادت الكراهية ضدهم.
لعبة الظهور هذه تحولت إلى “عمل”. وأصبحت جزءا من الثقافة الشعبيّة. وغدا بعض ممارسيها أيقونات شهيرة فقط لأنهم مُسلون ومضحكون و”يتابعهم” الكثيرون، سواء كان الواحد منهم برتقالة بفم بشري تُزعج باقي الفواكه، أو جوش أوستروفسكي سيد الحماقات والابتذال.
يتطلب اللعب عادة مهارة من نوع ما. تلك التي نكتسبها بالتمرين أو الخبرة، ونستفيد منها في الحياة اليوميّة كما في الألعاب الرياضيّة التي يحافظ فيها الرياضي على بنيانه الجسديّ. وهناك أيضا ألعاب تقوم على الحظ والاحتمالات.
لكن، مع أشكال اللعب المدمجة بالمراقبة، هناك سيناريو مدروس لكل شيء. الحظ يتحول إلى احتمالات نتائجها معروفة لا نستطيع إدراكها. الأهم أن المهارة والحظ ليسا من العوامل التي تحرك اللعبة، كونها تستمر حتى لو لم نتقنها. هي تعرّفنا على نفسها وقواعدها وتغوينا، بل إن بعض هذه الألعاب تُعاملنا كفائزين ما إن نبدأ بالمشاركة، كالدولارات العشرة التي يضعها البنك في حسابنا حينما نحصل على بطاقة ائتمان. وبما أن هذه البطاقة تتحكم بحياتنا، يظهر إثرها نظام النقاط، كلما اشترينا/أنفقنا أكثر، كلما تراكمت نقاط أكثر وازداد معدل الربح الشخصيّ، والربح هنا مرتبط بالتأمين الصحي وقرض السكن ومقومات الحياة نفسها التي يجب ألا ترتبط بمدى ولائنا للاستهلاك، فقواعد اللعب لم تعد مميزة عن قواعد الحياة الجديّة، هي متداخلة وعميقة في حياتنا، وكأننا نؤدي ضمن لعبة لا نعرف كل قواعدها، ولا نعلم متى أو كيف نفوز، لكن نعلم بدقة كيف نخسر.
لا ننفي أهميّة تقنيات اللعب في زيادة الإنتاجيّة والتعليم وتخطي العقبات، لكن، هذا التداخل بين الجديّ والمسلّي جعل أنظمة اللعب تتطابق مع الكثير من جوانب الحياة بل وتضبط إيقاعها. إذ لم يعد اللعب تمرينا لا جديا على ما يمكن أن نواجهه في الواقع أو محاكاة لصعوبات مهنيّة يمكن تفاديها لاحقا، كما في أنظمة محاكاة الطيران أو القيادة، بل استخداما للحياة نفسها، دون القدرة على التراجع عن الخطأ أو اكتساب الخبرة لتفاديه.
الأهم، أن الخطأ نفسه إن حدث أصبح جزءا من اللعبة التي تتكيف معه وتتبناه، كالبشر الناجين في فيلم ماتريكس الشهير، الذي نكتشف فيه أن نيو أو “الواحد”، ليس سوى خطأ متكرر، وجزء من اللعبة، المحكوم بخسارتها هو والبشر الناجون، كل ما اكتسبه من مهارات ليس سوى استعداد للخسارة المحتومة.
ضد اللعب
تحول اللعب إلى صيغة من صيغ الهيمنة والتحكم بالإرادة والوعي، فلا بد من تحريره، لارتباط ذلك بانعتاقنا الشخصي كبشر، لا فقط عبر خلق فضاءات مختلفة عن اليومي والجديّ بل أيضا تخريب اللعبة نفسها وقواعدها، كونها تحضر في حياتنا ومن حولنا.
التخريب أو خلق العيوب والإشارة إليها، يكشف قواعد اللعبة الخفيّة، والمسؤولين عن ضبطها واستمرارها. فنحن لن نرفض اللعب، بل سنهدد قواعده وتماسكه. كما نرى مثلا في الأزياء المضادة للمراقبة، التي أنتجها آدام هيرفاي والتي تمنع ظهور الصور وتشوّشها.
تبدو هذه الأزياء مضحكة، لكنها تسخر من كاميرات المراقبة في الشوارع والدرونز في السماء. فصعوبة التحرر كليا من سطوة اللعب الذي توظفه القطاعات السياسيّة والاقتصاديّة، حوّلت مواجهته إلى نوع من اللعب المضاد، السلبيّ، ذاك الذي يخالف المعتاد، كأن نتحرك جميعا كأننا نلعب الباركور، مهدين نظام التدفق البشري في الشوارع وقنوات الانتقال الرسميّة (الشوارع-الأرصفة)، أو أن نقوم بتغيير إعدادات الهواتف وتخريب الأدوات المستخدمة لتحديد أماكننا وتوليد مُعطيات وهميّة لا قيمة لها، لكنها منطقيّة، تدفع اللعبة نفسها للتشكيك بجدواها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.