الحكومة: مصر تستقبل أول استثمار قطري لإنشاء مصنع وقود الطائرات المستدام باستثمارات 200 مليون دولار    بحضور جماهيري كبير.. يسري نصر الله من القاهرة للفيلم القصير: السينما حكاية تروى بصدق لا أرقام تحسب    محاولة فاشلة لشراء الأصوات.. ضبط متهم بتوزيع أموال على ناخبين بالخانكة    نتنياهو يعلن رسميًا المصادقة على اتفاق الغاز مع مصر بمبلغ فلكي    الرقابة المالية توافق على التأسيس والترخيص ل 6 شركات بأنشطة صندوق الاستثمار العقاري    «إسكان اجتماعي أخضر الدولة» تنفذ 68 ألف وحدة صديقة للبيئة بأسعار ملائمة    إقرار مشروع قانون أمريكي يتضمن إلغاء عقوبات «قيصر» المفروضة على سوريا    حكومة نتنياهو تجتمع غدا لمناقشة المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار بغزة    تشكيل مانشستر سيتي أمام برينتفورد في كأس الرابطة الإنجليزية    أحمد عبد الرؤوف يجهز بدائل الزمالك لتعويض الغيابات أمام حرس الحدود    جنرال التعليق مدحت شلبي في مهمة نهائي كأس العرب بين الأردن والمغرب    ضبط شخص يوزع أموالا على الناخبين ببركة السبع    النصب باسم الرحلات الدينية| الداخلية تحمى البسطاء من شركات السياحة الوهمية    مصرع مسن في حادث دراجة نارية بالوادي الجديد    إصابة 3 طلاب بكفر شكر ألقي عليهم ماء نار أثناء استقلالهم توك توك    وكيل تعليم القاهرة في جولة ميدانية بمدرسة الشهيد طيار محمد جمال الدين    صدور رواية «ظل الإمام» للكاتبة نهلة النمر.. تشارك بمعرض الكتاب المقبل    رسالة مفاجئة من ياسر جلال لمصطفى أبو سريع بعد انفصاله عن زوجته    نجوم الفن فى عزاء إيمان إمام شقيقة الزعيم أرملة مصطفى متولى    رئيس إذاعه القرآن الكريم السابق: القرآن بأصوات المصريين هبة باقية ليوم الدين    ما حكم حلاقة القزع ولماذا ينهى عنها الشرع؟.. أمين الفتوى يجيب بقناة الناس    محافظ الجيزة يفتتح مبنى علاج الغسيل الكلوي الجديد بمستشفى أبوالنمرس المركزي    الحكومة تستهدف استراتيجية عمل متكامل لبناء الوعى    إصابة شخصين في حادث تصادم 3 سيارات أعلى الطريق الأوسطي    "جبران" يلتقي وزيرة العمل الإيطالية لتعزيز التعاون المشترك    في قبضة أمن الإسماعيلية.. كلاكيت تاني مرة شراء أصوات بالقصاصين والقنطرة شرق وغرب ( صور )    خالد الجندي: من الشِرْك أن ترى نفسك ولا ترى ربك    إسرائيل تفرج عن 12 أسيرا من سكان قطاع غزة    بوتين: روسيا ستسعى لتوسيع مكاسبها في أوكرانيا حال فشل محادثات السلام    الداخلية تكشف حقيقة إجبار سيدة على ترك مسكنها بالبحر الأحمر    السيسي يرحب بتوقيع اتفاق الدوحة للسلام الشامل بين حكومة وتحالف نهر الكونغو الديمقراطية    محمود كارم: خطاب الكراهية أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات المعاصرة    جلسة صعود وهبوط: 6 قطاعات فى مكسب و10 قطاعات تتراجع    البنك الزراعي المصري يسهم في القضاء على قوائم الانتظار في عمليات زراعة القرنية    مستشار رئيس الجمهورية: مصر تمتلك كفاءات علمية وبحثية قادرة على قيادة البحث الطبى    أرفع أوسمة «الفاو» للرئيس السيسى    جامعة الدول العربية تطلق المنتدى العربي الأول للإنذار المبكر والاستعداد للكوارث    محافظ القاهرة يتفقد عددًا من اللجان الانتخابية للاطمئنان على سير العملية الانتخابية    التموين تنتهي من صرف مقررات ديسمبر بنسبة 73%    الصحة: إجراء جراحة ميكروسكوبية دقيقة لطفل 3 سنوات بمستشفى زايد التخصصى    جوائز مالية ضخمة للمنتخبات المشاركة في كأس العالم 2026    تأييد حبس الفنان محمد رمضان عامين بسبب أغنية رقم واحد يا أنصاص    18 فبراير 2026 أول أيام شهر رمضان فلكيًا    مكتبة الإسكندرية تشارك في افتتاح الدورة العاشرة لملتقى القاهرة الدولي لفن الخط العربي    محافظ القليوبية يكرم البطلة جنة صليح لحصولها على برونزية قذف القرص بدورة الألعاب الأفريقية    مفتي الجمهورية يلتقي نظيره الكازاخستاني على هامش الندوة الدولية الثانية للإفتاء    أسوان تكرم 41 سيدة من حافظات القرآن الكريم ضمن حلقات الشيخ شعيب أبو سلامة    اليونيفيل: التنسيق مع الجيش اللبناني مستمر للحفاظ على الاستقرار على طول الخط الأزرق    المحمدي: ظُلمت في الزمالك.. ومباريات الدوري سنلعبها كالكؤوس    أوكرانيا تعلن استهداف مصفاة نفطية روسية ومنصة بحر القزوين    اتجاه في الزمالك لتسويق أحمد حمدي في يناير    المصرف المتحد يرعى المسابقة العالمية للقرآن الكريم في نسختها الثانية والثلاثين    إقبال على التصويت بجولة الإعادة في انتخابات مجلس النواب بالسويس    محافظ قنا يوجه بحملات مرورية مكثفة للحد من حوادث الطرق    متحدث وزارة الصحة يقدم نصائح إرشادية للوقاية من الإنفلونزا الموسمية داخل المدارس    أجواء شتوية وفرص لسقوط أمطار.. الأمطار تكشف تفاصيل حالة الطقس    النائب أيمن محسب: الخروقات الإسرائيلية تهدد الانتقال للمرحلة الثانية من وقف إطلاق النار    مصطفى عثمان حكما لمباراة البنك الأهلي ومودرن سبورت في كأس عاصمة مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يمارس الشعراء تجربة التصوف في قصائدهم؟
نشر في نقطة ضوء يوم 08 - 01 - 2018

إذا استأنسنا بقولة الإمام أبي حامد الغزالي عن التصوف في حد ذاته بأنه «أمر باطن لا يُطلع عليه، ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته»، يمكن أن نستوعب وعورة الحد واستشكاله، فكيف يكون الأمر عند انتقاله إلى فضاء آخر هو من الكثافة والخصوصية مثل فضاء الشعر، بحيث إنه يُضاف إلى التضايف المتوتر بينهما أصلًا تعقيدٌ من طبيعة خاصة، جمالي وموضوعاتي في آن.
لقد كان بين الشعر والتصوف علاقة قديمة توجد تحققاتها النصية في أشعار الحلاج وابن الفارض ورابعة العدوية والشريف الرضي وابن عربي وسواهم، قبل أن تتخذ في الشعر العربي الحديث طورًا آخر جديدًا من الصوغ والبناء في الممارسة والنظرية، كما عند شعراء مؤسسين من أمثال: عبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس، ومحمد عفيفي مطر. وفي الشعر المعاصر، كثر الحديث عن التصوف في الشعر أو الشعر الصوفي؛ فالأول يُنظر إليه باعتباره مكونًا بنائيا يتجلى في العبارة الشعرية بإشاراتها وومضاتها الإشراقية، والثاني باعتباره تجربةً باطنية تتصل بجميع الرؤى والاتجاهات المنحازة إلى المطلق واكتشاف المجهول واللامرئي. من هنا، فقد أخذ الخطاب الصوفي يشغل حيزًا في شعرنا اليوم ويمثل رافدًا رئيسًا من إمكانات قوله، يغتني بثراء البعد الروحي الذي فيه وبالاستعمال الخاص للغة للتعبير عنه بكثافة وتشوف. غير أن هذا الخطاب لم يسلم من تهافت كثيرين حملوا العبارة على ما ليس فيها وجنحوا بالتصوف إلى دعاوى الموضة.
في الشعر المغربي، أخذ الاهتمام يزداد بالبعد الصوفي يزداد نظرًا وممارسة، وثمة تجارب تستحق أن نقف عندها لشعراء مؤثرين جعلوا من التصوف أحد المصادر الشعرية الأساسية في شعرهم بلا ادعاء، لأنهم عاشوه بصدق ومعاناة أو مالوا إليه عن شوق واقتناع داخلي، وهم: محمد السرغيني وعبد الكريم الطبال وأحمد بلحاج آية وارهام.
محمد السرغيني: أن تدمج نفسك في الغير
في مجموع أعماله الشعرية، مثل «ويكون إحراق أسمائه الآتية» (1987) و»بحار جبل قاف» (1991) و»تحت الأنقاض فوق الأنقاض» (2012)، ظل محمد السرغيني يغرف من معين الصوفية ويفتحه على حقائق جديدة.
يقول الشاعر محمد السرغيني عن العلاقة بين الشعر والتصوف: «وجد الشعر في الصوفية مرتعًا خصبًا لا أول له ولا آخر: المجازات بكثرة وذات البعد البعيد، ثم القدرة على تصوير ما هو حاضر بما يمكن أن يحضر في ما بعد، أي ما يمكن أن نسميه ب(الاستشفاف). الصوفية في ما مضى أعطت الشاعر الرقة فوق المادية، وجعلته يكتشف كثيرًا من المُعميات القديمة التي سقط فيها الذين يبحثون في الأديان ولم يستطيعوا أن يصلوا فيها إلى حد أو إلى نتيجة. فهذه مزيةٌ عظمى أفادها الشعر من التصوف القديم والحديث، من خلال اعتبار الإنسان أسمى مادة تعيش في الكون ويعيش الكون بها».
وبهذا الفهم، لا يحصر الشاعر الصوفية في معناها الديني، بل إنه يأخذها إلى ضفاف عرفانية أخرى ويجعل الغيرية روح انطلاقها. يقول: «الصوفية أنواعٌ. وإذا أردت أن تنظر إليها، فيجب ألا تنظر إليها على كونها أساسًا من أسس التاريخ الفكري عند العرب، فالشعوب البدائية الأولى مارست نوعًا من التصوف لا حدود لجمالياته. الآن، نستطيع أن نتبين ذلك. فالهنود القدامى لهم إحساس رائع جدا، ناتج عن اعتناقهم للتصوف، بخلود الإنسان؛ ليس لأنه ميت، بل خلود الإنسان هو استمرار النتائج التي توصل إليها وانتقالها إلى آخرين لتطويرها (التناسخ).
من سوء الحظ أن الذين يكتبون عن تاريخ التصوف الإسلامي خاصة، ولا حتى التصوف اليهودي أو المسيحي، يربطونه ربطًا أساسيا بالفلسفة اليونانية، وهذه الفلسفة مادية في منطقها. إذا كان الأمر كذلك، وهو ما تنتج عنه رؤية غير تامة، فهل نستطيع أن نرى نتائج التصوف فيك وفيّ أنا، وفي سلوكنا؟ أحيانًا، نرى بعضها، وقد لا نراها في أحيان كثيرة.
لا يكون التصوف مفيدًا إلا حيث تكون كتابته الأولى أساسها إدماج نفسك في الغير وإدماج الغير فيك. لا يمكن أن يكون هذا الإدماج حقيقيا إلا حيث تكون مزودًا بنوع من الحماسة الكبيرة جدا، وقول ما تريد قوله أحب من أحب وكَرِهَ من كره».
وبخصوص الأسباب التي قادته إلى التصوف: «بعد أن أنهيْتُ علاقتي مع شعراء المهجر، بدأت أرى أنه من الواجب توسيع المعرفة لفهم الوقائع التي حولي. وأخذ يستأثر باهتمامي أن الإنسان خُلِق ليفهم الكون، وإذا تحقق له فهم الكون بكل ما فيه، فإن أمامه مسعى آخر هو محاولة وضع أورغانون لدفع هذا العالم إلى التطور اللانهائي.
وقادني ذلك إلى التصوف الذي أفاد الشعر إفادةً كبرى، ولاسيما إدخال العالم اللامرئي إلى حيز المرئي». وقد عمل الشعر في سياق انفتاحه على المرجع الصوفي، على ما يسمية «عقلنة الشعر ووجدنة الفلسفة»، وذلك من طريقتين: عقلانية الممارسة التي تتطلب لغة متسعة، كما تتطلب القدرة على التصرف فيها بقدر ما هي تخلق قوانينها بنفسها. يقول: «إن عقلانية الشعر هو أن تجعله طريقتك الخاصة لفهم العالم. ولكي تفهم العالم يجب أن تمنح فيه ما يستحق المنح، وأن تُثْني عليه بصوتك وكلامك كله، وأن تعمل كل ما في وسعك على إضاءة ما تشعر بجماليته. وفي هذا المجال، لا يبقى الشعر لغةً فقط، يبقى تشكيلًا وتصرفًا فاعلًا ودقيقًا في اللغة التي تكتب بها. إذا قال الأقدمون كذا وذكروا كذا، قُلْ أنت: تنبأ وأوحى أو أي شيء من هذا القبيل. فهذه أشياء لا يستطيع الإنسان أن يدركها إلا بالممارسة المستمرة، وإلا بالحب الرائع لكتابة الشعر».
عبد الكريم الطبال: التصوف بوصفة حالة عروج دائمة
جاء عبد الكريم الطبال إلى ينبوع الصوفية من طريق آخر، فهو فتح عينيه على طبيعة أخاذة ومحيط صوفي يأتلف من جوامع وزوايا، فانجذب إلى سحر الطبيعة وارتاد مجالس الذكر والسماع. يقول: «شخصيا، فيما أذكر، بدأت منذ الطفولة أميل وجدانيا إلى المحتد الصوفي، فالبيت الذي عشت فيه طفولتي كان يؤهلني للاغتراف من نبع التصوف، أو على وجه الدقة الانتباه إلى الأفق الروحاني. فالأم كانت شيختي وكنت مريدها في البيت الذي كان الزاوية، ثم بعدها ومعها كان الكُتاب الذي سأتخذه وَليي منه أتلقى كلام الله حِفْظًا وترتيلًا، ثم جاءت معهما وبعدهما مجموعة (دليل الخيرات) التي انتسبْتُ إليها بميلٍ طوعي حقق لي رغبات شعورية بدون أن أدرك بواعثها أو مقاصدها. وبعد ذلك في فترة لاحقة من زمن جامعة القرويين، سألتقي هناك في مكتبتها العامرة بأولئك الذين قدموا من المهجر وفي مقدمتهم جبران خليل جبران الذي قرأ عليّ (المواكب) فتبعت مواكبه، ثم آخرون وآخرون. لذلك رُبما كنت إلى الآن تحت سطوة هؤلاء، وإن انفردْتُ وحدي في صومعتي الصغيرة. ومع كل هذه التلمذة، ليس شعري شعرًا صُوفيا في ما أظن، وإنما شعر إنسان يعيش في الأرض.. ينظر إلى روح السماء.
وأضيف إنني بعد الزوايا الثلاث: البيت، الكتاب والأدب المهجري، ستُضاف إلى ذلك زاوية أخرى هي: المعرفة الصوفية أو الثقافة الصوفية التي تلقيتها من منابع الصوفية من الأعلام الأقدمين عبر النصوص في كتبهم، وفي مقدمتها نصوص ابن عربي والحلاج والبسطامي وآخرين. فمن خلالهم انتقل وعيي إلى إدراك ما كان غامضًا عليّ من قبل، وإنْ بقدر يسير لا يستوعب كل الغوامض التي لا تحصى. وما زلت إلى الآن في زاوية هؤلاء أتعلم الحروف الأولى، في الزاوية التي أساتذتها كثر وفيهم الجهابذة والأحبار وذوو الحدس العالي.
إلا أن حدثًا بارزًا هو الذي حسم إلى غير رجعة في خياره الكتابي الذي فتح على المرجع الصوفي. يقول: «في عام 1959، وبعد الانشقاق الذي وقع في حزب الاستقلال وظهور اليسار المغربي، لست أدري ماذا حدث لي، وأنا وقتذاك داخل الزمرة الرومانسية. لقد حدث انشقاقٌ عندي في داخلي، ومن ثمة تغير في مفهومي للكتابة. فتحت عيني أكثر على الواقع وخارج الذات، ثم سرعان ما أخذت أمزج أكثر بين الذات والواقع. فقد كنت أتوقع كأي مواطن أن يكون المغرب بعد الاستقلال أجمل.
ولكن، مع الأسف، كان مُخيبًا للآمال. فالانشقاق الذي وقع في حزب الاستقلال إذن، هو الذي أوحى إليّ بهذا. قال لي: اِفتحْ عينيك، ليس هذا هو الاستقلال، وليس هذا هو الذي كان يدعو إليه عبد الكريم الخطابي. هذا مغرب آخر! هكذا انبثقت جراح الذات، فانفصلت الذات إلى ذاتين: ذات في الماضي وذات في الحاضر، واستمرتا في ذلك الاحتكاك إلى أن وقعت النكبة الفلسطينية وما تلاها من الانهيارات الكبرى في العالم العربي، فقلت في نفسي: كفى، سأعود إلى بيتي الأول، إلى الذات. في الذات رأيتُ، وسمعتُ، وتكلمتُ، وما أزال. وفي الذات وجدْتُني بمعيتي آخرون كثيرون: ابن عربي، والسهروردي، وجلال الدين الرومي، وفريد الدين العطار، وشمس الدين التبريزي. قالوا لي: «اِنْزِلْ ضَيْفًا علينا»، ونزلت ضيفًا عليهم. أستمع إليهم، وقد يستمعون إليّ. وما أزال في هذا المحراب إلى الآن».
ويشعر قارئ قصيدة عبد الكريم الطبال بانحيازها إلى الذات في ما تنشده من تأكيد الميثاق بالعروج والغوص على قدر القدرة. يقول: «من المؤكد أنني منذ أن كتبت القصيدة الأولى عقدت مع الشعر ميثاقًا يشبه ميثاق القيثارة مع النوح أو ميثاق الفراشة مع النار، إن انجرحتُ انجرح، وإن انتشت انتشى، فأناي أناه وسواي سواه.
ومع كل كتابةٍ لاحقةٍ كنت أنشدُ دائمًا تأكيد هذا الميثاق بشبق الغواية وجنون الجذب، فأعرج مرةً وأنا في حضرة الكتابة إلى سماء بعيدة علني أنصعق ذات دهشة بومضٍ يشع من شبح يشبه جسده القمر الغامض السابح هناك. وقد أغوص في بحر قصي علني أرى في الأعماق صورة تشبه روحه النورانية الشفيفة فأثمل حتى الجنون. وكنت في كل العروج والغوص أرحل أو أسافر من تراب الزمان إلى هواء السرمد، فكأنني ما هُيئت إلا لهما معا. وهكذا هم أهل الشوق والمكابدة لا إقامة لهم، فهم دَوْمًا في سفر مستمر إلا لأخذ النفس بين نهاية وبداية».
وعن العلاقة بين الشاعر وبين التصوف، يقول: «أظن أنني شاعر صوفي، أو أن شعري من شعر التصوف. فالقضية وما فيها كما يقال هي أنني أكتب عن ذاتي وحدها، وهي ذات امتزج فيها ما أعرف وما لا أعرف، والذي لا أعرف أكثر مما أعرف. فكل إنسانٍ عالم كما قال ابن عربي، وكل إنسان مؤمن وإن أنكر ذلك. وحسب تصوري، فالثقافة الصوفية أو المعرفة الصوفية أفادت الشعر العربي لُغةً ورُؤْيا، بحيث إن أثر النفري والبسطامي وابن عربي والحلاج بادٍ للعيان. فأدونيس هو الذي رُبما بدأ شعرًا مع الثقافة الصوفية بعد مرحلة مهيار الدمشقي، وكان تأثره بالنفري في رحلته الشعرية الثانية واضحًا وضوح الشمس، حتى إن المجلة التي أصدرها باسمه الخاص سماها ب»مواقف» إيحاءً من كتاب «المواقف والمخاطبات» المعروف للنفري. أما التلاميذ الكثر الذين اتبعوه هنا وهناك، فكان التأثر بادٍ حتى للقارئ العادي غير المُلم».
أحمد بلحاج آية وارهام: في طريق التحبب إلى الكون
من خلال أعماله الشعرية، مثل: «عبور من تحت إبط الموت» (1994)، و»طائر من أرض السمسمة» (1995)، و»الخروج من ليل الجسد» (2006)، و»لأفلاكه رشاقة الرغبة» (2013)، تشعر بأن أحمد بلحاج آية وارهام لم يجعل من التصوف مسألة تأثير وتأثر، بل تربية متأصلة تعيش زمنها باستمرار على حواف الشوق والتشوف من عالم الأعيان إلى فيوض الشهود. يقول عن قصته مع الصوفية والتصوف: «لم آت إلى الصوفية من فراغ روحي أو معرفي، أو طلبًا للجوء من غبش سياسي. فجذوري ممتدة عميقًا في هذا الحقل، بحكم نشأتي في محيط تسوده المحافظة والتدين. فقد كان والدي مشربا بالصوفية حتى النخاع، ولكنها صوفية معاصرة تجمع الأرض والسماء في بُردة المحبة، وتبث أنوارها في الناس داخل الزاوية وخارجها.
وجدت في الصوفية من الاحترام والإجلال ما يتجاوز الإنسان إلى العالم كله، حيث تدعو إلى احترامه وتقديره، وتحذرُ من الاستهانة به وتحقيره، الأمر الذي لا نظير له عند حماة البيئة الآن، لأنه أرحب مجالا وأوسع آفاقا، فكل جزء في العالم، بل كل شيء فيه مستند في وجوده إلى نفَسِ رحماني، فمن حقره أو استهان به فإنما حقر ذلك النفَس. ومن ثمة صرت لا أخجل من الاعتذار إلى حجر إذا عثرت فيه».
ومن هذا المنظور يرى أن الصوفية إنما هي «تتيح للإنسان عامة، وللمحترق بالشعر خاصة الاطلاعَ على الخفي في الوجود، وعلى الغائب المجهول منه، وعلى الحب الذي هو علة وجود العالم، وعلى الجمال الذي هو الصورة التي ظهر عليها الكون بعد أن كان ثابتا في العدم، إذ لولا الحب ما وجد شيء في هذا الكون، أما الكره فهو عَرَضٌ، والعَرَضُ مصيره الزوال. وبما أن الخلق متجدد على الدوام أجسادا ومعاني وأشكالا وصورا، وليس فعلا وقع في الماضي وانتهى، وإنما يحدث في كل آن، فإن حب المطلق متجدد كذلك مع الأنفاس، فهو خَلق والَخلق حب. فلحظة خلق شيء شكل، صورة، معنى ما هي إلا لحظة حب متجددة، وذلك لأن الحب هو مبدأ الوجود، وأصل كل موجود بعينه، والأساس الوحيد لمعرفة الله والإنسان والكون، والأصل الجامع لكل الاعتقادات والعبادات».
وعن أهم ما تفيد به الصوفية الشعر، يقول: «إنها تخرجه من لغة العبارة التي لا تنتج شعرا موصولا بأحاسيس الكون، لأنها لغة عقل مقيد ومحدود، وتدخله في لغة الإشارة التي تنتج شعرا بكل جزئيات الكون لكونها أصيلة وبليغة. فحينما اهتديت إلى هذه اللغة استطعت أن أنفذ إلى ما وراء حدود العقل وحدود الظواهر المادية، فاللغة الإشارية هي لغة الوجود التي وسعت آفاقي توسيعا كاملا وروضت خيالي على اقتحام اللانهائي ، فهي قد غيرت مداركي، وحولت ولونت المعارف التي اكتسبتها من قبل، ونقلتني من الشعور بالذات إلى الشعور بالآخر الكوني، أي الشعور بالانتماء إلى الوجود انتماء عضويا نورانيا، ورفعت القيم الأخلاقية عندي إلى درجة جمالية ، أجد فيها من الاستمتاع والاستلذاذ ما لم أجده على مستوى القيم الأخلاقية المؤطرَةِ بالعقل، بحيث غدوت أرى الأشياء من حولي، وكأنها تحمل أسرارا روحانية يصعب تجسيدها باللفظ، فأصواتها هي بمثابة تسبيح، وحركاتها بمثابة خشوع، تتغشاني وكأني في عالم أشبه ببيت من بيوت الله في ملكوته. فالتجربة الصوفية كما خضتها هي طريق التحبب إلى الكون وإقامة علاقة تودد وتقرب إلى الأشياء، لا طريق تسلط وتصرف فيها وفق الشهوات والأهواء».
عبر هذه التجارب يكون للخطاب الصوفي معنى في تنوع روافده ومستوياته النصية. وهو عدا أنه خطاب لازمني، فهو معرفة لائبة في الشعر وعبره تسعى إلى الإمساك باللانهائي وكشف المحجوب والنفاذ إلى الأغوار البعيدة. فكيف يُعقل إذن ممن لم يخرق العبارة، بله الإشارة، أن يُنتج خطابا صوفيا؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.