مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية يحيي ذكرى وفاة العالم الكبير الشيخ مصطفى المراغي    سعر الدولار اليوم السبت 23-8-2025 في البنوك    قفزة في سعر الذهب اليوم.. وعيار 21 يقفز 40 جنيهًا ويسجل 4580 للجرام    وزير الزراعة يترأس اجتماع مجلس إدارة الهيئة العامة للإصلاح الزراعى    القاهرة الإخبارية: طيران الاحتلال يقصف المناطق الشرقية لمدينة غزة    "يونيسيف" تطالب إسرائيل بالسماح بدخول المساعدات بالكميات اللازمة لغزة    مواعيد مباريات اليوم.. مان سيتي أمام توتنهام وليفانتي مع برشلونة    مستشفى الأهلى.. 6 لاعبين خارج الخدمة فى مباراة غزل المحلة بسبب الإصابة    فتح باب التسجيل فى الجمعية العمومية العادية للإسماعيلى    الطقس اليوم.. ارتفاع طفيف ومؤقت فى درجات الحرارة والعظمى بالقاهرة 38 درجة    طلاب الثانوية العامة للدور الثاني يؤدون امتحان الأحياء والاحصاء والرياضيات    أحمد جمال وفتحى سلامة ومحمود التهامى يختتمون حفلات مهرجان القلعة اليوم    ثلاثة أفلام جديدة فى الطريق.. سلمى أبو ضيف تنتعش سينمائيا    ما أسباب استجابة الدعاء؟.. واعظة بالأزهر تجيب    جامعة القاهرة تطلق قافلة تنموية شاملة بالحوامدية بالتعاون مع التحالف الوطنى    بالأسماء.. إصابة 5 أشخاص في تصادم سيارتين بصحراوي قنا    السجن المشدد 15 سنة لسباك قتل جاره في الجمالية    حبس سائق بتهمة الاستيلاء على سيارة محملة بحقائب وأموال بالسلام    طلقات تحذيرية على الحدود بين الكوريتين ترفع حدة التوتر    استئناف مباريات الجولة الأولى بدوري المحترفين    شيرين عبد الوهاب تكشف حقيقة عودتها لحسام حبيب    تحقيق استقصائى يكتبه حافظ الشاعر عن : بين "الحصة" والبطالة.. تخبط وزارة التعليم المصرية في ملف تعيين المعلمين    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : إلى أين!?    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    حملة «100 يوم صحة» تقدّم 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يومًا    لحماية صحتك.. شروط يجب اتباعها عند شراء منتجات الألبان    3 وفيات ومصاب في حادث تصادم مروّع على طريق أسيوط الزراعي    أسعار الفراخ اليوم السبت 23-8-2025 فى أسواق محافظة المنوفية    الطماطم ب7 جنيهات والليمون ب15.. أسعار الخضراوات والفواكه بكفر الشيخ اليوم    أسعار المأكولات البحرية والجمبري اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    استشهاد 19 فلسطينيا إثر قصف إسرائيل خيام النازحين بخان يونس ومخيم المغازي    الأمم المتحدة: نصف مليون شخص بغزة محاصرون فى مجاعة    «الإفتاء» تستطلع هلال شهر ربيع الأول اليوم    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    تفاصيل وأسباب تفتيش منزل مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق جون بولتون    وزارة الخارجية الروسية تكشف عدد المواطنين الروس المتبقين في غزة    تعرف على أسعار السكر والزيت واللحوم بالمجمعات الإستهلاكية    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    مهاجر التيك توك «الأفغاني» يقدم نصائح لقتل الزوجات وتجنب العقوبة    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 23 أغسطس 2025    هل يحق لمكتسبي الجنسية المصرية مباشرة الحقوق السياسية؟ القانون يجيب    سيف الإسلام القذافي يعلن دعمه لتشكيل حكومة جديدة في ليبيا    إنقاذ حياة مريض بعمل شق حنجري بمستشفى الجامعي بالمنوفية    ملف يلا كورة.. خطة انتخابات الأهلي.. رسائل الزمالك.. واعتماد لجنة الحكام    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    بعثة منتخب مصر للناشئين تؤدي مناسك العمرة عقب مواجهة السعودية    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يمارس الشعراء تجربة التصوف في قصائدهم؟
نشر في صوت البلد يوم 08 - 01 - 2018

إذا استأنسنا بقولة الإمام أبي حامد الغزالي عن التصوف في حد ذاته بأنه «أمر باطن لا يُطلع عليه، ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته»، يمكن أن نستوعب وعورة الحد واستشكاله، فكيف يكون الأمر عند انتقاله إلى فضاء آخر هو من الكثافة والخصوصية مثل فضاء الشعر، بحيث إنه يُضاف إلى التضايف المتوتر بينهما أصلًا تعقيدٌ من طبيعة خاصة، جمالي وموضوعاتي في آن.
لقد كان بين الشعر والتصوف علاقة قديمة توجد تحققاتها النصية في أشعار الحلاج وابن الفارض ورابعة العدوية والشريف الرضي وابن عربي وسواهم، قبل أن تتخذ في الشعر العربي الحديث طورًا آخر جديدًا من الصوغ والبناء في الممارسة والنظرية، كما عند شعراء مؤسسين من أمثال: عبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس، ومحمد عفيفي مطر. وفي الشعر المعاصر، كثر الحديث عن التصوف في الشعر أو الشعر الصوفي؛ فالأول يُنظر إليه باعتباره مكونًا بنائيا يتجلى في العبارة الشعرية بإشاراتها وومضاتها الإشراقية، والثاني باعتباره تجربةً باطنية تتصل بجميع الرؤى والاتجاهات المنحازة إلى المطلق واكتشاف المجهول واللامرئي. من هنا، فقد أخذ الخطاب الصوفي يشغل حيزًا في شعرنا اليوم ويمثل رافدًا رئيسًا من إمكانات قوله، يغتني بثراء البعد الروحي الذي فيه وبالاستعمال الخاص للغة للتعبير عنه بكثافة وتشوف. غير أن هذا الخطاب لم يسلم من تهافت كثيرين حملوا العبارة على ما ليس فيها وجنحوا بالتصوف إلى دعاوى الموضة.
في الشعر المغربي، أخذ الاهتمام يزداد بالبعد الصوفي يزداد نظرًا وممارسة، وثمة تجارب تستحق أن نقف عندها لشعراء مؤثرين جعلوا من التصوف أحد المصادر الشعرية الأساسية في شعرهم بلا ادعاء، لأنهم عاشوه بصدق ومعاناة أو مالوا إليه عن شوق واقتناع داخلي، وهم: محمد السرغيني وعبد الكريم الطبال وأحمد بلحاج آية وارهام.
محمد السرغيني: أن تدمج نفسك في الغير
في مجموع أعماله الشعرية، مثل «ويكون إحراق أسمائه الآتية» (1987) و»بحار جبل قاف» (1991) و»تحت الأنقاض فوق الأنقاض» (2012)، ظل محمد السرغيني يغرف من معين الصوفية ويفتحه على حقائق جديدة.
يقول الشاعر محمد السرغيني عن العلاقة بين الشعر والتصوف: «وجد الشعر في الصوفية مرتعًا خصبًا لا أول له ولا آخر: المجازات بكثرة وذات البعد البعيد، ثم القدرة على تصوير ما هو حاضر بما يمكن أن يحضر في ما بعد، أي ما يمكن أن نسميه ب(الاستشفاف). الصوفية في ما مضى أعطت الشاعر الرقة فوق المادية، وجعلته يكتشف كثيرًا من المُعميات القديمة التي سقط فيها الذين يبحثون في الأديان ولم يستطيعوا أن يصلوا فيها إلى حد أو إلى نتيجة. فهذه مزيةٌ عظمى أفادها الشعر من التصوف القديم والحديث، من خلال اعتبار الإنسان أسمى مادة تعيش في الكون ويعيش الكون بها».
وبهذا الفهم، لا يحصر الشاعر الصوفية في معناها الديني، بل إنه يأخذها إلى ضفاف عرفانية أخرى ويجعل الغيرية روح انطلاقها. يقول: «الصوفية أنواعٌ. وإذا أردت أن تنظر إليها، فيجب ألا تنظر إليها على كونها أساسًا من أسس التاريخ الفكري عند العرب، فالشعوب البدائية الأولى مارست نوعًا من التصوف لا حدود لجمالياته. الآن، نستطيع أن نتبين ذلك. فالهنود القدامى لهم إحساس رائع جدا، ناتج عن اعتناقهم للتصوف، بخلود الإنسان؛ ليس لأنه ميت، بل خلود الإنسان هو استمرار النتائج التي توصل إليها وانتقالها إلى آخرين لتطويرها (التناسخ).
من سوء الحظ أن الذين يكتبون عن تاريخ التصوف الإسلامي خاصة، ولا حتى التصوف اليهودي أو المسيحي، يربطونه ربطًا أساسيا بالفلسفة اليونانية، وهذه الفلسفة مادية في منطقها. إذا كان الأمر كذلك، وهو ما تنتج عنه رؤية غير تامة، فهل نستطيع أن نرى نتائج التصوف فيك وفيّ أنا، وفي سلوكنا؟ أحيانًا، نرى بعضها، وقد لا نراها في أحيان كثيرة.
لا يكون التصوف مفيدًا إلا حيث تكون كتابته الأولى أساسها إدماج نفسك في الغير وإدماج الغير فيك. لا يمكن أن يكون هذا الإدماج حقيقيا إلا حيث تكون مزودًا بنوع من الحماسة الكبيرة جدا، وقول ما تريد قوله أحب من أحب وكَرِهَ من كره».
وبخصوص الأسباب التي قادته إلى التصوف: «بعد أن أنهيْتُ علاقتي مع شعراء المهجر، بدأت أرى أنه من الواجب توسيع المعرفة لفهم الوقائع التي حولي. وأخذ يستأثر باهتمامي أن الإنسان خُلِق ليفهم الكون، وإذا تحقق له فهم الكون بكل ما فيه، فإن أمامه مسعى آخر هو محاولة وضع أورغانون لدفع هذا العالم إلى التطور اللانهائي.
وقادني ذلك إلى التصوف الذي أفاد الشعر إفادةً كبرى، ولاسيما إدخال العالم اللامرئي إلى حيز المرئي». وقد عمل الشعر في سياق انفتاحه على المرجع الصوفي، على ما يسمية «عقلنة الشعر ووجدنة الفلسفة»، وذلك من طريقتين: عقلانية الممارسة التي تتطلب لغة متسعة، كما تتطلب القدرة على التصرف فيها بقدر ما هي تخلق قوانينها بنفسها. يقول: «إن عقلانية الشعر هو أن تجعله طريقتك الخاصة لفهم العالم. ولكي تفهم العالم يجب أن تمنح فيه ما يستحق المنح، وأن تُثْني عليه بصوتك وكلامك كله، وأن تعمل كل ما في وسعك على إضاءة ما تشعر بجماليته. وفي هذا المجال، لا يبقى الشعر لغةً فقط، يبقى تشكيلًا وتصرفًا فاعلًا ودقيقًا في اللغة التي تكتب بها. إذا قال الأقدمون كذا وذكروا كذا، قُلْ أنت: تنبأ وأوحى أو أي شيء من هذا القبيل. فهذه أشياء لا يستطيع الإنسان أن يدركها إلا بالممارسة المستمرة، وإلا بالحب الرائع لكتابة الشعر».
عبد الكريم الطبال: التصوف بوصفة حالة عروج دائمة
جاء عبد الكريم الطبال إلى ينبوع الصوفية من طريق آخر، فهو فتح عينيه على طبيعة أخاذة ومحيط صوفي يأتلف من جوامع وزوايا، فانجذب إلى سحر الطبيعة وارتاد مجالس الذكر والسماع. يقول: «شخصيا، فيما أذكر، بدأت منذ الطفولة أميل وجدانيا إلى المحتد الصوفي، فالبيت الذي عشت فيه طفولتي كان يؤهلني للاغتراف من نبع التصوف، أو على وجه الدقة الانتباه إلى الأفق الروحاني. فالأم كانت شيختي وكنت مريدها في البيت الذي كان الزاوية، ثم بعدها ومعها كان الكُتاب الذي سأتخذه وَليي منه أتلقى كلام الله حِفْظًا وترتيلًا، ثم جاءت معهما وبعدهما مجموعة (دليل الخيرات) التي انتسبْتُ إليها بميلٍ طوعي حقق لي رغبات شعورية بدون أن أدرك بواعثها أو مقاصدها. وبعد ذلك في فترة لاحقة من زمن جامعة القرويين، سألتقي هناك في مكتبتها العامرة بأولئك الذين قدموا من المهجر وفي مقدمتهم جبران خليل جبران الذي قرأ عليّ (المواكب) فتبعت مواكبه، ثم آخرون وآخرون. لذلك رُبما كنت إلى الآن تحت سطوة هؤلاء، وإن انفردْتُ وحدي في صومعتي الصغيرة. ومع كل هذه التلمذة، ليس شعري شعرًا صُوفيا في ما أظن، وإنما شعر إنسان يعيش في الأرض.. ينظر إلى روح السماء.
وأضيف إنني بعد الزوايا الثلاث: البيت، الكتاب والأدب المهجري، ستُضاف إلى ذلك زاوية أخرى هي: المعرفة الصوفية أو الثقافة الصوفية التي تلقيتها من منابع الصوفية من الأعلام الأقدمين عبر النصوص في كتبهم، وفي مقدمتها نصوص ابن عربي والحلاج والبسطامي وآخرين. فمن خلالهم انتقل وعيي إلى إدراك ما كان غامضًا عليّ من قبل، وإنْ بقدر يسير لا يستوعب كل الغوامض التي لا تحصى. وما زلت إلى الآن في زاوية هؤلاء أتعلم الحروف الأولى، في الزاوية التي أساتذتها كثر وفيهم الجهابذة والأحبار وذوو الحدس العالي.
إلا أن حدثًا بارزًا هو الذي حسم إلى غير رجعة في خياره الكتابي الذي فتح على المرجع الصوفي. يقول: «في عام 1959، وبعد الانشقاق الذي وقع في حزب الاستقلال وظهور اليسار المغربي، لست أدري ماذا حدث لي، وأنا وقتذاك داخل الزمرة الرومانسية. لقد حدث انشقاقٌ عندي في داخلي، ومن ثمة تغير في مفهومي للكتابة. فتحت عيني أكثر على الواقع وخارج الذات، ثم سرعان ما أخذت أمزج أكثر بين الذات والواقع. فقد كنت أتوقع كأي مواطن أن يكون المغرب بعد الاستقلال أجمل.
ولكن، مع الأسف، كان مُخيبًا للآمال. فالانشقاق الذي وقع في حزب الاستقلال إذن، هو الذي أوحى إليّ بهذا. قال لي: اِفتحْ عينيك، ليس هذا هو الاستقلال، وليس هذا هو الذي كان يدعو إليه عبد الكريم الخطابي. هذا مغرب آخر! هكذا انبثقت جراح الذات، فانفصلت الذات إلى ذاتين: ذات في الماضي وذات في الحاضر، واستمرتا في ذلك الاحتكاك إلى أن وقعت النكبة الفلسطينية وما تلاها من الانهيارات الكبرى في العالم العربي، فقلت في نفسي: كفى، سأعود إلى بيتي الأول، إلى الذات. في الذات رأيتُ، وسمعتُ، وتكلمتُ، وما أزال. وفي الذات وجدْتُني بمعيتي آخرون كثيرون: ابن عربي، والسهروردي، وجلال الدين الرومي، وفريد الدين العطار، وشمس الدين التبريزي. قالوا لي: «اِنْزِلْ ضَيْفًا علينا»، ونزلت ضيفًا عليهم. أستمع إليهم، وقد يستمعون إليّ. وما أزال في هذا المحراب إلى الآن».
ويشعر قارئ قصيدة عبد الكريم الطبال بانحيازها إلى الذات في ما تنشده من تأكيد الميثاق بالعروج والغوص على قدر القدرة. يقول: «من المؤكد أنني منذ أن كتبت القصيدة الأولى عقدت مع الشعر ميثاقًا يشبه ميثاق القيثارة مع النوح أو ميثاق الفراشة مع النار، إن انجرحتُ انجرح، وإن انتشت انتشى، فأناي أناه وسواي سواه.
ومع كل كتابةٍ لاحقةٍ كنت أنشدُ دائمًا تأكيد هذا الميثاق بشبق الغواية وجنون الجذب، فأعرج مرةً وأنا في حضرة الكتابة إلى سماء بعيدة علني أنصعق ذات دهشة بومضٍ يشع من شبح يشبه جسده القمر الغامض السابح هناك. وقد أغوص في بحر قصي علني أرى في الأعماق صورة تشبه روحه النورانية الشفيفة فأثمل حتى الجنون. وكنت في كل العروج والغوص أرحل أو أسافر من تراب الزمان إلى هواء السرمد، فكأنني ما هُيئت إلا لهما معا. وهكذا هم أهل الشوق والمكابدة لا إقامة لهم، فهم دَوْمًا في سفر مستمر إلا لأخذ النفس بين نهاية وبداية».
وعن العلاقة بين الشاعر وبين التصوف، يقول: «أظن أنني شاعر صوفي، أو أن شعري من شعر التصوف. فالقضية وما فيها كما يقال هي أنني أكتب عن ذاتي وحدها، وهي ذات امتزج فيها ما أعرف وما لا أعرف، والذي لا أعرف أكثر مما أعرف. فكل إنسانٍ عالم كما قال ابن عربي، وكل إنسان مؤمن وإن أنكر ذلك. وحسب تصوري، فالثقافة الصوفية أو المعرفة الصوفية أفادت الشعر العربي لُغةً ورُؤْيا، بحيث إن أثر النفري والبسطامي وابن عربي والحلاج بادٍ للعيان. فأدونيس هو الذي رُبما بدأ شعرًا مع الثقافة الصوفية بعد مرحلة مهيار الدمشقي، وكان تأثره بالنفري في رحلته الشعرية الثانية واضحًا وضوح الشمس، حتى إن المجلة التي أصدرها باسمه الخاص سماها ب»مواقف» إيحاءً من كتاب «المواقف والمخاطبات» المعروف للنفري. أما التلاميذ الكثر الذين اتبعوه هنا وهناك، فكان التأثر بادٍ حتى للقارئ العادي غير المُلم».
أحمد بلحاج آية وارهام: في طريق التحبب إلى الكون
من خلال أعماله الشعرية، مثل: «عبور من تحت إبط الموت» (1994)، و»طائر من أرض السمسمة» (1995)، و»الخروج من ليل الجسد» (2006)، و»لأفلاكه رشاقة الرغبة» (2013)، تشعر بأن أحمد بلحاج آية وارهام لم يجعل من التصوف مسألة تأثير وتأثر، بل تربية متأصلة تعيش زمنها باستمرار على حواف الشوق والتشوف من عالم الأعيان إلى فيوض الشهود. يقول عن قصته مع الصوفية والتصوف: «لم آت إلى الصوفية من فراغ روحي أو معرفي، أو طلبًا للجوء من غبش سياسي. فجذوري ممتدة عميقًا في هذا الحقل، بحكم نشأتي في محيط تسوده المحافظة والتدين. فقد كان والدي مشربا بالصوفية حتى النخاع، ولكنها صوفية معاصرة تجمع الأرض والسماء في بُردة المحبة، وتبث أنوارها في الناس داخل الزاوية وخارجها.
وجدت في الصوفية من الاحترام والإجلال ما يتجاوز الإنسان إلى العالم كله، حيث تدعو إلى احترامه وتقديره، وتحذرُ من الاستهانة به وتحقيره، الأمر الذي لا نظير له عند حماة البيئة الآن، لأنه أرحب مجالا وأوسع آفاقا، فكل جزء في العالم، بل كل شيء فيه مستند في وجوده إلى نفَسِ رحماني، فمن حقره أو استهان به فإنما حقر ذلك النفَس. ومن ثمة صرت لا أخجل من الاعتذار إلى حجر إذا عثرت فيه».
ومن هذا المنظور يرى أن الصوفية إنما هي «تتيح للإنسان عامة، وللمحترق بالشعر خاصة الاطلاعَ على الخفي في الوجود، وعلى الغائب المجهول منه، وعلى الحب الذي هو علة وجود العالم، وعلى الجمال الذي هو الصورة التي ظهر عليها الكون بعد أن كان ثابتا في العدم، إذ لولا الحب ما وجد شيء في هذا الكون، أما الكره فهو عَرَضٌ، والعَرَضُ مصيره الزوال. وبما أن الخلق متجدد على الدوام أجسادا ومعاني وأشكالا وصورا، وليس فعلا وقع في الماضي وانتهى، وإنما يحدث في كل آن، فإن حب المطلق متجدد كذلك مع الأنفاس، فهو خَلق والَخلق حب. فلحظة خلق شيء شكل، صورة، معنى ما هي إلا لحظة حب متجددة، وذلك لأن الحب هو مبدأ الوجود، وأصل كل موجود بعينه، والأساس الوحيد لمعرفة الله والإنسان والكون، والأصل الجامع لكل الاعتقادات والعبادات».
وعن أهم ما تفيد به الصوفية الشعر، يقول: «إنها تخرجه من لغة العبارة التي لا تنتج شعرا موصولا بأحاسيس الكون، لأنها لغة عقل مقيد ومحدود، وتدخله في لغة الإشارة التي تنتج شعرا بكل جزئيات الكون لكونها أصيلة وبليغة. فحينما اهتديت إلى هذه اللغة استطعت أن أنفذ إلى ما وراء حدود العقل وحدود الظواهر المادية، فاللغة الإشارية هي لغة الوجود التي وسعت آفاقي توسيعا كاملا وروضت خيالي على اقتحام اللانهائي ، فهي قد غيرت مداركي، وحولت ولونت المعارف التي اكتسبتها من قبل، ونقلتني من الشعور بالذات إلى الشعور بالآخر الكوني، أي الشعور بالانتماء إلى الوجود انتماء عضويا نورانيا، ورفعت القيم الأخلاقية عندي إلى درجة جمالية ، أجد فيها من الاستمتاع والاستلذاذ ما لم أجده على مستوى القيم الأخلاقية المؤطرَةِ بالعقل، بحيث غدوت أرى الأشياء من حولي، وكأنها تحمل أسرارا روحانية يصعب تجسيدها باللفظ، فأصواتها هي بمثابة تسبيح، وحركاتها بمثابة خشوع، تتغشاني وكأني في عالم أشبه ببيت من بيوت الله في ملكوته. فالتجربة الصوفية كما خضتها هي طريق التحبب إلى الكون وإقامة علاقة تودد وتقرب إلى الأشياء، لا طريق تسلط وتصرف فيها وفق الشهوات والأهواء».
عبر هذه التجارب يكون للخطاب الصوفي معنى في تنوع روافده ومستوياته النصية. وهو عدا أنه خطاب لازمني، فهو معرفة لائبة في الشعر وعبره تسعى إلى الإمساك باللانهائي وكشف المحجوب والنفاذ إلى الأغوار البعيدة. فكيف يُعقل إذن ممن لم يخرق العبارة، بله الإشارة، أن يُنتج خطابا صوفيا؟
إذا استأنسنا بقولة الإمام أبي حامد الغزالي عن التصوف في حد ذاته بأنه «أمر باطن لا يُطلع عليه، ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته»، يمكن أن نستوعب وعورة الحد واستشكاله، فكيف يكون الأمر عند انتقاله إلى فضاء آخر هو من الكثافة والخصوصية مثل فضاء الشعر، بحيث إنه يُضاف إلى التضايف المتوتر بينهما أصلًا تعقيدٌ من طبيعة خاصة، جمالي وموضوعاتي في آن.
لقد كان بين الشعر والتصوف علاقة قديمة توجد تحققاتها النصية في أشعار الحلاج وابن الفارض ورابعة العدوية والشريف الرضي وابن عربي وسواهم، قبل أن تتخذ في الشعر العربي الحديث طورًا آخر جديدًا من الصوغ والبناء في الممارسة والنظرية، كما عند شعراء مؤسسين من أمثال: عبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس، ومحمد عفيفي مطر. وفي الشعر المعاصر، كثر الحديث عن التصوف في الشعر أو الشعر الصوفي؛ فالأول يُنظر إليه باعتباره مكونًا بنائيا يتجلى في العبارة الشعرية بإشاراتها وومضاتها الإشراقية، والثاني باعتباره تجربةً باطنية تتصل بجميع الرؤى والاتجاهات المنحازة إلى المطلق واكتشاف المجهول واللامرئي. من هنا، فقد أخذ الخطاب الصوفي يشغل حيزًا في شعرنا اليوم ويمثل رافدًا رئيسًا من إمكانات قوله، يغتني بثراء البعد الروحي الذي فيه وبالاستعمال الخاص للغة للتعبير عنه بكثافة وتشوف. غير أن هذا الخطاب لم يسلم من تهافت كثيرين حملوا العبارة على ما ليس فيها وجنحوا بالتصوف إلى دعاوى الموضة.
في الشعر المغربي، أخذ الاهتمام يزداد بالبعد الصوفي يزداد نظرًا وممارسة، وثمة تجارب تستحق أن نقف عندها لشعراء مؤثرين جعلوا من التصوف أحد المصادر الشعرية الأساسية في شعرهم بلا ادعاء، لأنهم عاشوه بصدق ومعاناة أو مالوا إليه عن شوق واقتناع داخلي، وهم: محمد السرغيني وعبد الكريم الطبال وأحمد بلحاج آية وارهام.
محمد السرغيني: أن تدمج نفسك في الغير
في مجموع أعماله الشعرية، مثل «ويكون إحراق أسمائه الآتية» (1987) و»بحار جبل قاف» (1991) و»تحت الأنقاض فوق الأنقاض» (2012)، ظل محمد السرغيني يغرف من معين الصوفية ويفتحه على حقائق جديدة.
يقول الشاعر محمد السرغيني عن العلاقة بين الشعر والتصوف: «وجد الشعر في الصوفية مرتعًا خصبًا لا أول له ولا آخر: المجازات بكثرة وذات البعد البعيد، ثم القدرة على تصوير ما هو حاضر بما يمكن أن يحضر في ما بعد، أي ما يمكن أن نسميه ب(الاستشفاف). الصوفية في ما مضى أعطت الشاعر الرقة فوق المادية، وجعلته يكتشف كثيرًا من المُعميات القديمة التي سقط فيها الذين يبحثون في الأديان ولم يستطيعوا أن يصلوا فيها إلى حد أو إلى نتيجة. فهذه مزيةٌ عظمى أفادها الشعر من التصوف القديم والحديث، من خلال اعتبار الإنسان أسمى مادة تعيش في الكون ويعيش الكون بها».
وبهذا الفهم، لا يحصر الشاعر الصوفية في معناها الديني، بل إنه يأخذها إلى ضفاف عرفانية أخرى ويجعل الغيرية روح انطلاقها. يقول: «الصوفية أنواعٌ. وإذا أردت أن تنظر إليها، فيجب ألا تنظر إليها على كونها أساسًا من أسس التاريخ الفكري عند العرب، فالشعوب البدائية الأولى مارست نوعًا من التصوف لا حدود لجمالياته. الآن، نستطيع أن نتبين ذلك. فالهنود القدامى لهم إحساس رائع جدا، ناتج عن اعتناقهم للتصوف، بخلود الإنسان؛ ليس لأنه ميت، بل خلود الإنسان هو استمرار النتائج التي توصل إليها وانتقالها إلى آخرين لتطويرها (التناسخ).
من سوء الحظ أن الذين يكتبون عن تاريخ التصوف الإسلامي خاصة، ولا حتى التصوف اليهودي أو المسيحي، يربطونه ربطًا أساسيا بالفلسفة اليونانية، وهذه الفلسفة مادية في منطقها. إذا كان الأمر كذلك، وهو ما تنتج عنه رؤية غير تامة، فهل نستطيع أن نرى نتائج التصوف فيك وفيّ أنا، وفي سلوكنا؟ أحيانًا، نرى بعضها، وقد لا نراها في أحيان كثيرة.
لا يكون التصوف مفيدًا إلا حيث تكون كتابته الأولى أساسها إدماج نفسك في الغير وإدماج الغير فيك. لا يمكن أن يكون هذا الإدماج حقيقيا إلا حيث تكون مزودًا بنوع من الحماسة الكبيرة جدا، وقول ما تريد قوله أحب من أحب وكَرِهَ من كره».
وبخصوص الأسباب التي قادته إلى التصوف: «بعد أن أنهيْتُ علاقتي مع شعراء المهجر، بدأت أرى أنه من الواجب توسيع المعرفة لفهم الوقائع التي حولي. وأخذ يستأثر باهتمامي أن الإنسان خُلِق ليفهم الكون، وإذا تحقق له فهم الكون بكل ما فيه، فإن أمامه مسعى آخر هو محاولة وضع أورغانون لدفع هذا العالم إلى التطور اللانهائي.
وقادني ذلك إلى التصوف الذي أفاد الشعر إفادةً كبرى، ولاسيما إدخال العالم اللامرئي إلى حيز المرئي». وقد عمل الشعر في سياق انفتاحه على المرجع الصوفي، على ما يسمية «عقلنة الشعر ووجدنة الفلسفة»، وذلك من طريقتين: عقلانية الممارسة التي تتطلب لغة متسعة، كما تتطلب القدرة على التصرف فيها بقدر ما هي تخلق قوانينها بنفسها. يقول: «إن عقلانية الشعر هو أن تجعله طريقتك الخاصة لفهم العالم. ولكي تفهم العالم يجب أن تمنح فيه ما يستحق المنح، وأن تُثْني عليه بصوتك وكلامك كله، وأن تعمل كل ما في وسعك على إضاءة ما تشعر بجماليته. وفي هذا المجال، لا يبقى الشعر لغةً فقط، يبقى تشكيلًا وتصرفًا فاعلًا ودقيقًا في اللغة التي تكتب بها. إذا قال الأقدمون كذا وذكروا كذا، قُلْ أنت: تنبأ وأوحى أو أي شيء من هذا القبيل. فهذه أشياء لا يستطيع الإنسان أن يدركها إلا بالممارسة المستمرة، وإلا بالحب الرائع لكتابة الشعر».
عبد الكريم الطبال: التصوف بوصفة حالة عروج دائمة
جاء عبد الكريم الطبال إلى ينبوع الصوفية من طريق آخر، فهو فتح عينيه على طبيعة أخاذة ومحيط صوفي يأتلف من جوامع وزوايا، فانجذب إلى سحر الطبيعة وارتاد مجالس الذكر والسماع. يقول: «شخصيا، فيما أذكر، بدأت منذ الطفولة أميل وجدانيا إلى المحتد الصوفي، فالبيت الذي عشت فيه طفولتي كان يؤهلني للاغتراف من نبع التصوف، أو على وجه الدقة الانتباه إلى الأفق الروحاني. فالأم كانت شيختي وكنت مريدها في البيت الذي كان الزاوية، ثم بعدها ومعها كان الكُتاب الذي سأتخذه وَليي منه أتلقى كلام الله حِفْظًا وترتيلًا، ثم جاءت معهما وبعدهما مجموعة (دليل الخيرات) التي انتسبْتُ إليها بميلٍ طوعي حقق لي رغبات شعورية بدون أن أدرك بواعثها أو مقاصدها. وبعد ذلك في فترة لاحقة من زمن جامعة القرويين، سألتقي هناك في مكتبتها العامرة بأولئك الذين قدموا من المهجر وفي مقدمتهم جبران خليل جبران الذي قرأ عليّ (المواكب) فتبعت مواكبه، ثم آخرون وآخرون. لذلك رُبما كنت إلى الآن تحت سطوة هؤلاء، وإن انفردْتُ وحدي في صومعتي الصغيرة. ومع كل هذه التلمذة، ليس شعري شعرًا صُوفيا في ما أظن، وإنما شعر إنسان يعيش في الأرض.. ينظر إلى روح السماء.
وأضيف إنني بعد الزوايا الثلاث: البيت، الكتاب والأدب المهجري، ستُضاف إلى ذلك زاوية أخرى هي: المعرفة الصوفية أو الثقافة الصوفية التي تلقيتها من منابع الصوفية من الأعلام الأقدمين عبر النصوص في كتبهم، وفي مقدمتها نصوص ابن عربي والحلاج والبسطامي وآخرين. فمن خلالهم انتقل وعيي إلى إدراك ما كان غامضًا عليّ من قبل، وإنْ بقدر يسير لا يستوعب كل الغوامض التي لا تحصى. وما زلت إلى الآن في زاوية هؤلاء أتعلم الحروف الأولى، في الزاوية التي أساتذتها كثر وفيهم الجهابذة والأحبار وذوو الحدس العالي.
إلا أن حدثًا بارزًا هو الذي حسم إلى غير رجعة في خياره الكتابي الذي فتح على المرجع الصوفي. يقول: «في عام 1959، وبعد الانشقاق الذي وقع في حزب الاستقلال وظهور اليسار المغربي، لست أدري ماذا حدث لي، وأنا وقتذاك داخل الزمرة الرومانسية. لقد حدث انشقاقٌ عندي في داخلي، ومن ثمة تغير في مفهومي للكتابة. فتحت عيني أكثر على الواقع وخارج الذات، ثم سرعان ما أخذت أمزج أكثر بين الذات والواقع. فقد كنت أتوقع كأي مواطن أن يكون المغرب بعد الاستقلال أجمل.
ولكن، مع الأسف، كان مُخيبًا للآمال. فالانشقاق الذي وقع في حزب الاستقلال إذن، هو الذي أوحى إليّ بهذا. قال لي: اِفتحْ عينيك، ليس هذا هو الاستقلال، وليس هذا هو الذي كان يدعو إليه عبد الكريم الخطابي. هذا مغرب آخر! هكذا انبثقت جراح الذات، فانفصلت الذات إلى ذاتين: ذات في الماضي وذات في الحاضر، واستمرتا في ذلك الاحتكاك إلى أن وقعت النكبة الفلسطينية وما تلاها من الانهيارات الكبرى في العالم العربي، فقلت في نفسي: كفى، سأعود إلى بيتي الأول، إلى الذات. في الذات رأيتُ، وسمعتُ، وتكلمتُ، وما أزال. وفي الذات وجدْتُني بمعيتي آخرون كثيرون: ابن عربي، والسهروردي، وجلال الدين الرومي، وفريد الدين العطار، وشمس الدين التبريزي. قالوا لي: «اِنْزِلْ ضَيْفًا علينا»، ونزلت ضيفًا عليهم. أستمع إليهم، وقد يستمعون إليّ. وما أزال في هذا المحراب إلى الآن».
ويشعر قارئ قصيدة عبد الكريم الطبال بانحيازها إلى الذات في ما تنشده من تأكيد الميثاق بالعروج والغوص على قدر القدرة. يقول: «من المؤكد أنني منذ أن كتبت القصيدة الأولى عقدت مع الشعر ميثاقًا يشبه ميثاق القيثارة مع النوح أو ميثاق الفراشة مع النار، إن انجرحتُ انجرح، وإن انتشت انتشى، فأناي أناه وسواي سواه.
ومع كل كتابةٍ لاحقةٍ كنت أنشدُ دائمًا تأكيد هذا الميثاق بشبق الغواية وجنون الجذب، فأعرج مرةً وأنا في حضرة الكتابة إلى سماء بعيدة علني أنصعق ذات دهشة بومضٍ يشع من شبح يشبه جسده القمر الغامض السابح هناك. وقد أغوص في بحر قصي علني أرى في الأعماق صورة تشبه روحه النورانية الشفيفة فأثمل حتى الجنون. وكنت في كل العروج والغوص أرحل أو أسافر من تراب الزمان إلى هواء السرمد، فكأنني ما هُيئت إلا لهما معا. وهكذا هم أهل الشوق والمكابدة لا إقامة لهم، فهم دَوْمًا في سفر مستمر إلا لأخذ النفس بين نهاية وبداية».
وعن العلاقة بين الشاعر وبين التصوف، يقول: «أظن أنني شاعر صوفي، أو أن شعري من شعر التصوف. فالقضية وما فيها كما يقال هي أنني أكتب عن ذاتي وحدها، وهي ذات امتزج فيها ما أعرف وما لا أعرف، والذي لا أعرف أكثر مما أعرف. فكل إنسانٍ عالم كما قال ابن عربي، وكل إنسان مؤمن وإن أنكر ذلك. وحسب تصوري، فالثقافة الصوفية أو المعرفة الصوفية أفادت الشعر العربي لُغةً ورُؤْيا، بحيث إن أثر النفري والبسطامي وابن عربي والحلاج بادٍ للعيان. فأدونيس هو الذي رُبما بدأ شعرًا مع الثقافة الصوفية بعد مرحلة مهيار الدمشقي، وكان تأثره بالنفري في رحلته الشعرية الثانية واضحًا وضوح الشمس، حتى إن المجلة التي أصدرها باسمه الخاص سماها ب»مواقف» إيحاءً من كتاب «المواقف والمخاطبات» المعروف للنفري. أما التلاميذ الكثر الذين اتبعوه هنا وهناك، فكان التأثر بادٍ حتى للقارئ العادي غير المُلم».
أحمد بلحاج آية وارهام: في طريق التحبب إلى الكون
من خلال أعماله الشعرية، مثل: «عبور من تحت إبط الموت» (1994)، و»طائر من أرض السمسمة» (1995)، و»الخروج من ليل الجسد» (2006)، و»لأفلاكه رشاقة الرغبة» (2013)، تشعر بأن أحمد بلحاج آية وارهام لم يجعل من التصوف مسألة تأثير وتأثر، بل تربية متأصلة تعيش زمنها باستمرار على حواف الشوق والتشوف من عالم الأعيان إلى فيوض الشهود. يقول عن قصته مع الصوفية والتصوف: «لم آت إلى الصوفية من فراغ روحي أو معرفي، أو طلبًا للجوء من غبش سياسي. فجذوري ممتدة عميقًا في هذا الحقل، بحكم نشأتي في محيط تسوده المحافظة والتدين. فقد كان والدي مشربا بالصوفية حتى النخاع، ولكنها صوفية معاصرة تجمع الأرض والسماء في بُردة المحبة، وتبث أنوارها في الناس داخل الزاوية وخارجها.
وجدت في الصوفية من الاحترام والإجلال ما يتجاوز الإنسان إلى العالم كله، حيث تدعو إلى احترامه وتقديره، وتحذرُ من الاستهانة به وتحقيره، الأمر الذي لا نظير له عند حماة البيئة الآن، لأنه أرحب مجالا وأوسع آفاقا، فكل جزء في العالم، بل كل شيء فيه مستند في وجوده إلى نفَسِ رحماني، فمن حقره أو استهان به فإنما حقر ذلك النفَس. ومن ثمة صرت لا أخجل من الاعتذار إلى حجر إذا عثرت فيه».
ومن هذا المنظور يرى أن الصوفية إنما هي «تتيح للإنسان عامة، وللمحترق بالشعر خاصة الاطلاعَ على الخفي في الوجود، وعلى الغائب المجهول منه، وعلى الحب الذي هو علة وجود العالم، وعلى الجمال الذي هو الصورة التي ظهر عليها الكون بعد أن كان ثابتا في العدم، إذ لولا الحب ما وجد شيء في هذا الكون، أما الكره فهو عَرَضٌ، والعَرَضُ مصيره الزوال. وبما أن الخلق متجدد على الدوام أجسادا ومعاني وأشكالا وصورا، وليس فعلا وقع في الماضي وانتهى، وإنما يحدث في كل آن، فإن حب المطلق متجدد كذلك مع الأنفاس، فهو خَلق والَخلق حب. فلحظة خلق شيء شكل، صورة، معنى ما هي إلا لحظة حب متجددة، وذلك لأن الحب هو مبدأ الوجود، وأصل كل موجود بعينه، والأساس الوحيد لمعرفة الله والإنسان والكون، والأصل الجامع لكل الاعتقادات والعبادات».
وعن أهم ما تفيد به الصوفية الشعر، يقول: «إنها تخرجه من لغة العبارة التي لا تنتج شعرا موصولا بأحاسيس الكون، لأنها لغة عقل مقيد ومحدود، وتدخله في لغة الإشارة التي تنتج شعرا بكل جزئيات الكون لكونها أصيلة وبليغة. فحينما اهتديت إلى هذه اللغة استطعت أن أنفذ إلى ما وراء حدود العقل وحدود الظواهر المادية، فاللغة الإشارية هي لغة الوجود التي وسعت آفاقي توسيعا كاملا وروضت خيالي على اقتحام اللانهائي ، فهي قد غيرت مداركي، وحولت ولونت المعارف التي اكتسبتها من قبل، ونقلتني من الشعور بالذات إلى الشعور بالآخر الكوني، أي الشعور بالانتماء إلى الوجود انتماء عضويا نورانيا، ورفعت القيم الأخلاقية عندي إلى درجة جمالية ، أجد فيها من الاستمتاع والاستلذاذ ما لم أجده على مستوى القيم الأخلاقية المؤطرَةِ بالعقل، بحيث غدوت أرى الأشياء من حولي، وكأنها تحمل أسرارا روحانية يصعب تجسيدها باللفظ، فأصواتها هي بمثابة تسبيح، وحركاتها بمثابة خشوع، تتغشاني وكأني في عالم أشبه ببيت من بيوت الله في ملكوته. فالتجربة الصوفية كما خضتها هي طريق التحبب إلى الكون وإقامة علاقة تودد وتقرب إلى الأشياء، لا طريق تسلط وتصرف فيها وفق الشهوات والأهواء».
عبر هذه التجارب يكون للخطاب الصوفي معنى في تنوع روافده ومستوياته النصية. وهو عدا أنه خطاب لازمني، فهو معرفة لائبة في الشعر وعبره تسعى إلى الإمساك باللانهائي وكشف المحجوب والنفاذ إلى الأغوار البعيدة. فكيف يُعقل إذن ممن لم يخرق العبارة، بله الإشارة، أن يُنتج خطابا صوفيا؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.