عندما يُذكر شارع الغورية أو حي الغورية، تقفز إلى الذاكرة سيرة الأديب الكبير نجيب محفوظ، وثلاثيته الرائعة "السكرية" و "قصر الشوق" و "بين القصرين"، والست "أمينة" زوجة "سي السيد"، التي أطلت من مشربيتها على أهل شارع الغورية، والأغنية الشهيرة للمطرب المصري الراحل محمد قنديل "يا رايحين الغورية"، ومن أشهر من سكن الحي الشاعر أحمد فؤاد نجم، ففي "سكة حوش قدم" المتفرعة من الغورية، خرجت في السبعينيات إبداعات نجم والشيخ إمام، ومن أشهر مَنْ شنق على بوابتها "طومان باي". ويقع حي الغورية، وهو أحد أشهر الأحياء المصرية القديمة في منطقة الأزهر، وهو الحي الوحيد من بين أحياء القاهرة القديمة الذي استطاع المحافظة على تراثه وهويته من العصر المملوكي وحتى الآن، ويضم الحي العديد من الحارات الشهيرة، مثل حارة "العقادين" وحارة "الفحامين" و"التربيعة"، التي تعرض المنسوجات والعطور والحلي والأعشاب والأنتيكات. وشارع الغورية يبدو كأنه متحف مفتوح للتاريخ، فعلى جانبيه توجد عشرات المساجد الأثرية، والمدارس القديمة والأسبلة، وحي الغورية الذي يشكّل امتداداً لشارع المعز لدين الله، يضم مجمعاً ضخماً للآثار الإسلامية من العصر الفاطمي والأيوبي والمملوكي، ويحتفظ بطابعه الأثري الفريد، ففيه باب الفتوح وجامع الأقمر وتكية السلحدار والمدرسة الكاملية. جماليات العمارة وسُميت الغورية بهذا الاسم، نسبة إلى مؤسسها السلطان قنصوه الغوري، آخر سلاطين المماليك قبل خمسة قرون، وتحديداً في عام 1501م، والذي لقي مصرعه في موقعة "مرج دابق" شمال مدينة حلب، في صراعه مع السلطان سليم الأول العثماني عام 1516م، إثر خيانة قائد ميمنة جيشه "خاير بك". ورغم تديُّن السلطان الغوري، إلا أنه عُرف عنه حبه الشديد للفن والأدب والشعر والطرب والسمر، واتسع عشقه ليشمل فنون العمارة المختلفة وجمالياتها، فأنشأ المدرسة المعلقة التي تقع عند تقاطع شارع الغورية مع شارع الأزهر، والتي أسّسها عام 1503م، ويدرس فيها المذاهب الفقهية الأربعة، ويوجد بالمدرسة صحن واسع تُقام فيه الصلوات، ويوجد أسفلها حوانيت تم تأجيرها بغرض الإنفاق عليها، كما يوجد في مواجهة المدرسة قاعة للاجتماعات، وسبيل يعلوه كُتَّاب لتحفيظ القرآن، بالإضافة لضريح أعده السلطان الغوري لنفسه، غير أنه دفن في الشام عقب خسارته في موقعة "مرج دابق" الشهيرة، ويضم الحي مسجد "الفكهاني" الذي أسّسه الخليفة الفاطمي "الظافر" عام 594 هجرية، وقد عُرف بهذا الاسم، نسبة لوقوعه في سوق الفاكهة إبان العصر المملوكي. تقول كتب التاريخ: إن فترة حكم السلطان قنصوه الغوري، كانت واحدة من أهم الفترات الحاسمة في تاريخ القاهرة، وكان من الممكن جداً أن يكون الغوري أحد حُكَّام مصر العظام، لكن لسوء حظه، ترسبت في فترته كل مساوئ العصر المملوكي المتداعي. وكالة الغوري وقد اشتهرت الغورية بنظام الوكالات في البيع والشراء منذ إنشائها، وأشهر هذه الوكالات وكالة الغوري، وهي أحد أهم المنشآت المعمارية التي شيّدها السلطان الغوري، والتي مازالت تحتفظ بطابعها المعماري الأصلي، وهي عُبارة عن صحن كبير وحوله محلات مُتراصة في أربعة طوابق، كانت مُخصصة لاستقبال التُجَّار ببضائعهم، وكان بها مكان للدواب ومخازن للمحاصيل وأماكن لمبيت التُجَّار الوافدين. تتكوّن وكالة الغوري من ثلاثة طوابق، الأول والثالث منها للسكن، والأوسط مُخصص للخدمات، وأما المرافق فتم تخصيصها لعرض وتبادُل السلع التي يجلبها التُجَّار معهم، ونظراً لزيادة أعداد التُجَّار الوافدين، زيدت أدوار الوكالة لأربعة أدوار بنظام القصور القديمة، حتى وصل عددها إلى 500 مجهزة للإقامة، وقد اتخذها محمد علي باشا وأسرته مقراً لهم. وفي عام 1958م، قدّم د. ثروت عكاشة مشروعاً ثقافياً وحضارياً، لاستغلال الوكالة كمقر لإحياء الحرف التقليدية، ومرسم للفنانين والكُتَّاب والأثريين، ومقر لوزارة الثقافة والإعلام عام 1960م، حتى تقرّر تحويلها لمركز الحرفيين المهرة، ونشر الوعي الثقافي والسياحي بين العارضين والسُيَّاح وعامة الجمهور، من خلال معارض الحرفيين التي عُرض فيها الأواني النحاسية وصناعة الخيام، والخزف والزجاج المعشّق والصدف داخل مصر وخارجها. وبرغم نجاح تلك المعارض، إلا أنها توقفت فجأة؛ مما أدى لهجرة الحرفيين للعمل بالوكالة والورش، نتيجة إغراء تُجَّار خان الخليلي لهم بالمادة، وتُرك المبنى مهجوراً لفترة طويلة مقصداً لكل عابر وطامع من السبعينات وحتى أوائل التسعينات، بسبب التغيُّر في التوجُّهات الثقافية. وبإنشاء الإدارة العامة للمراكز الفنية، وتبنيها للمشروع الثقافي والحضاري المتكامل للنهوض بالحرف التقليدية، دبت الحياة مرة أخرى في الوكالة، وقد عاش الفنانون التشكيليون والحرفيون أربعين عاماً في خدمة الفن والإبداع، مثل النقش على آنية النحاس المطعمة بالفضة والصواني، والصناديق الخشبية المطعمة بالصدف، والنقش على الزجاج المعشّق بالحصى، وعلى قطع الأثاث العربي وزخارف الخيام، ومشغولات الحلي الفضية، والأزياء التقليدية المطرزة والأواني الخزفية، وذلك على عدد عشرة أقسام، إلا أن دوام الحال من المحال، فقد قرّرت اللجنة العُليا لتطوير القاهرة الفاطمية إخلاء المبنى، خاصة بعد ضغوط من الأثريين لإخراجهم من المبنى حفاظاً عليه. المنازل المملوكية أما مسجد الغوري، فيضم في رحابه الوكالة وحماماً ومنزلاً ومقعداً وسبيلاً ومدرسة، وقبة تقف كلها شامخة مزهوة، وكأن الصحوة المعمارية التي قام بها السلطان الغوري، بمثابة صحوة الموت المملوكي، كون النشاط المعماري المكثف سُرعان ما انتهى برحيله، وزوال دولة المماليك إلى الأبد. وفي الغورية أيضاً، أشهر محلات الملابس وباعة العطور، وهناك أيضاً قاعات المنازل المملوكية مثل قاعة الدرديري، وكذلك بعض الآثار العثمانية، منها منزل جمال الدين ذهبي شاهبندر تُجَّار مصر في ذلك العصر، وهو من الآثار النادرة من العصر العثماني، ووكالة السكرية، وكانت تحتكر السكر سنوات طويلة، إلى جانب المكسرات وياميش رمضان. وفي المقابل، يوجد باب زويلة الذي شُنق عليه "طومان باي"، وأنشأ هذا الباب الضخم الوزير بدر الجمالي، وزير الخليفة الفاطمي المستنصر بالله في القرن الخامس الهجري، وسماه "زويلة"، نسبة إلى قبيلة زويل، إحدى قبائل البربر التي جاءت مع جيش جوهر الصقلي، قائد جيش الفاطميين الذي فتح مصر، ويتشكّل هذا البناء من بوابة عظيمة بارتفاع 25 متراً، وعرض كل ضلع فيها 4.82 متراً، وعلى جانبيها برجان عظيمان مقوسان من عند القاعدة، وفي أعلى البرجين حجرة تطل على مدخل البوابة للمُراقبة، وفي أعلى كل برج من البرجين ثلاث فتحات، أغلب الظن أنها كانت تُستخدم في الحروب، ويتكئ على البرجين مئذنتا مسجد المؤيد الملاصق للبوابة الضخمة.