مثلَ النقص في اللغة والصورة الشعرية والأنشطة المعرفية الأخرى والاستخدام الأمثل للأسطورة وجعل الإنسان القضية الأساس، عوامل انطلاق في الحداثة الجديدة، وكل ما يجب وصفه أن هناك نزعات انفعالية تخطت تلك النزعات المحدودة، حتى أن معظم التنظير الشعري للشعر القديم كان يحوم حول الصور البلاغية وقوانين النحو والاستذكارات الوصفية، ولعله، منذ العصر الجاهلي، كانَ ينظر الى الشاعر على أنه لسان قومه، وذلك خير دليل على تسيير الشاعر نحو أغراض ذات طبيعة انتقائية ونفعية، وتسيير لغته إشارة لشيء مشار إليه، أي أن الشاعر في الشعر القديم (شاعر خطابي) ومجمل انفعالاته هي انفعالات ظاهرية لا علاقة لها بالبعد الباطني ولا بالمجهول، أو سرية النص، ويبدو أن الشاعر في القصيدة القديمة يجمع الأشياء لكي يقولها، رغم الاستثناءات عند بعض الشعراء التي تأتي صورهم الشعرية في لحظات التوهج والغيبوبة الشعرية، ولكن عموما هناك شيء من الوضوح ومن الموضوعية والمباشرة في ثنايا القصيدة القديمة، فهي موجهة لشخص أو موجهة لجمع أو موجهة لحدث ما، وهذا الاقتران يكون اقترانا مرتبطاً بطبيعة فكرته المركزية وليس بأجزائه التشعبية، ومن خلاله يستطع المتلقي كشف الهوية الشعرية للشاعر. أما الجانب الفلسفي فيبدو وبعمومه لا وجود له حتى في الحديث عن الجوانب الكونية، كون الشاعر في القصيدة القديمة يُسخر فلسفته نحو موضوعاته المُعَدة عقليا، ويناغي الكون بوصفه ملهما، بدون محاججته أو إثارة أي شكل من أشكال التساؤلات التي توحي بأن الشاعر يمتلك قدرا كبيرا من التضادات الروحية والنفسية، التي تشتغل على حقيقة الوجود ومعاني أزليته. إن التفكير في فكرة واحدة هو الأساس الذي بنيت عليه القصيدة القديمة مع ما كانت تحتويه من إيقاعية وقافية واستعارة ومجاز، وكان المدخل لغرض النص وروحه يبنى على مفارقات ليست ندية، بل عبارات استهلال تُقدم كوجبة بسيطة لقبول الوجبة الرئيسة. كما أن مستويات التأمل في القصيدة كانت ذات أغراض عاطفيه بحتة، كون ما يكتب كان يفتقر إلى الأفكار، ولا يمكن تأمل القصيدة الشعرية بدون تأمل أفكارها، أي الأفكار التي خلقها الشاعر في قصيدته، ولعل الغرضية الواضحة هي المصاب الذي أدى إلى عرقلة الرغبة التأملية العميقة في القصيدة، والاكتفاء بالتلذذ بوهجها ذي التأثير السريع والزوال السريع. وكان الشاعر يبدأ ببعد واحد ليخاطب الآخر بمساحة من المكان وبتوقيت ضمن الوقائع السائدة آنذاك، ولا شك أن التغيّر في الشعر القديم من شاعر لآخر كان تغييرا مظهريا لم يتعارض مع المفهوم السائد للشعر ولطبيعة وظيفته. كما أن حساسية الشعر القديم تجاه الأشياء هي حساسية تقديرية، كون البيئة قد فعلت فعلها في المخيلة بحيث حددت مجالات الاستكشاف التخيلي، وقد يعني هذا أن الشاعر القديم شاعر فطري، وقد يكون كذلك لكنه لم يبدأ بتقديرنا من السلبية، ولم ينته بها كون الصراع بين الواقع والخيال كان يميل إلى الواقع في جل ما كتب قديما. وقد قَدِّمَت الحداثة الشعرية لكي تتعامل بشكل مختلف مع الواقع، وابتدأت بفهم الواقع ورفضه ضمن المنطلقات التي يأملها الفعل الجمالي ضمن متطلبات النص في جدليته ورمزيته وغموض تأسيسه الذي ينتظره المتلقي في إطار قوى من المعايير الذوقية وتشويش الحقائق الأزلية. ولا يمكن أن نتخيل أن الشعر يقف عند حد ما ولا يمكن أن نتخيل بأن الشعر لا يتطور مع المتغيرات ومراحل التطور، ومنها الاقتصادي والثقافي والفكري، وأن الرؤية الإبداعية ليست أحادية الجانب، بل إنها شمولية في استبصار التحولات التي يُعكَس تأثيرها في المنتج الأدبي، ومنها على سبيل المثال النقلات الاجتماعية، وظهور التيارات والنظريات وكذلك الأخذ بنظر الاعتبار عدم التأثر حد التقليد بمبادئ كل عصر. فقد وجد الحداثيون صلة أوثق في تقديم نماذجهم مع تنظيراتهم التي اعتنقوها وكانوا قد كشفوا عن ملجأهم الوحيد الذي يفجرون من خلاله اللغة والبناء القديم، ألا وهو اللجوء إلى الحرية، فهم حين نظروا لإنسانهم مجدوا خلاصه وسعيه لاستكمال نواقصه، بحيث أصبح الإنسان هو الرمز وهو الأسطورة، وواجهوا كل شيء بالتزامهم بما ينطلق من معايير الذات على الكون بدءا بالشك والنفي والقطيعة وخلق الوعي المتكامل من أن الأشياء الأخرى رغم إفادة الشعر، فإنها رخيصة وهامشية ولابد من القضاء على تلك الأشياء الرخيصة والهامشية، لا بد من العودة إلى المعيار الحقيقي للقيمة الحقيقية للإنسان. وكحد أدنى لابد من ملء ذلك الصراع الذي يعيشه بمختلف الأسئلة والتأثير في الأشكال التركيبية من تلك التي تتنقل في ذهنه ما بين الواقع وإدراكه، وبين الحلم وتنشيط قواه التحفزية، بحيث أن كل ما سيتحقق يعني في حد ذاته مجرد نقلة ما، ينقل بها الشعر الجديد ما بقي من حطام ذلك الإنسان إلى طبيعة أخرى، من الممكن خلالها تجديد كل قواه الفكرية والثقافية والاجتماعية، ليستطع النظر بتفاؤل إلى أحاسيسه ومشاعره التي طغى عليها اليأس والخراب. إن الوصول لذلك كما رأى الرواد الجدد أن يتم بأي شكل من أشكال القصد التعبيري، سواء بالرؤية الفكاهية أو بالنص الدرامي أو بما تفرزه أساليب التراجيديا المتعددة، شريطة استشارة الملكة الجمالية والتفريق بين القصد الجمالي وبين المعيارية الأخلاقية، فليس الشعر بالتعبير المباشر عن الوقائع أو المشاعر، وليس الشعر غرضا دعائيا ولا يمكن الحكم عليه إلا بمعياره الخاص الذي يخلو لحد ما من زمان معلوم ومكانية محددة ونظرية خاضعة لمزاجية العقل، ضمن وحدة التفكير ووحدة المعرفة. ... شاعر عراقي