تتنوع في المجموعة القصصية «شيء من القهوة» (دار روافد) للكاتبة المصرية هناء نور؛ التيمات السردية. فنحن أمام حالات يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، وعلاقة الذات بالآخرين وبالعالم وبالأسئلة الوجودية، على رغم أن الكاتبة، أو لنقل الكتابة، لا تستهدف التأثير في الآخرين. فهي كتابة مكتفية بذاتها. كتابة تتأمل نفسها وترصد حالاتها وتجادل نوازعها المتصارعة. ومن هنا يجوز أن نقول إننا أمام ما يمكن أن نسميه «دراما الوعي الذاتي»؛ لأن الصراع لا يتم فحسب، بين الذات والآخر، لكنه يقع – غالباً – داخل الذات وهذا ما يفسر شيوع تيار الوعي وغلبة الأساليب الإنشائية المعبرة عن الحيرة والألم. ففي قصة «أكتب لنفسي»؛ يحدد السارد دوافع الكتابة وطبيعتها، حين تقول له إحداهن: «لتكن عميقاً عليك أن تضع الأشياء في غير مواضعها. يجب أن يطير الحصان بين سطورك، وعلى النسر أن يسير» ص 25. لكنه يصف هذا التصور بالهراء متسائلاً: «كيف سيطير الحصان وفي عينيه كل هذا الحزن؟ خيل لي أن النسر يبصق في الاتجاهات كافة ويصرخ: عليكم اللعنة يا من تريدون تحويل أجنحتي إلى سيقان بليدة». الكتابة – هنا- تلتزم الرؤية الحقيقية للعالم وتنأى عن الافتعال الموهم بالعمق وتكشف زيف الواقع الأدبي؛ الحقيقي أو الافتراضي، وتصبح في النهاية بديلاً للانتحار؛ «لا أعرف كيف اندفعت إلى القلم أو كيف اندفع هو نحوي؟ لعلها الرغبة في وداع أخير». لكن الكتابة تحرره من هذه الرغبة حين تحلق الأوراق خارج الجدران بفعل عاصفة ربيعية – لاحظ دلالة الربيع على التجدد والخصوبة – تمتد إلى قلب السارد – أيضاً – وتدفعه إلى الخروج من عزلته ليرى شاباً غريباً ممسكاً بإحدى أوراقه وفي هذه الحالة تصبح الكتابة أشبه بالفعل الجماعي الذي يجدد ديمومة الحياة وإذا كانت القصة السابقة تعكس حصار الآخرين للذات ثم خلاصها وتحررها بالكتابة، فإن قصة «هاند فري»، تعد امتداداً لذلك حين تشتغل على ثنائية الظاهر والباطن أو بين الدين الشكلي الطقوسي والإيمان العميق حين تفاجأ الساردة بأصابع شخص ملتح تمتد إلى فخذها في نهار رمضان وعندما تصرخ في وجهه تتهم من الجميع بالإفطار وسماع الموسيقى أثناء تلاوة القرآن. ثم تأتي المفارقة الفادحة حين يصرف الضابط الجميع ويهتك عرضها بعد تغييبها عن الوعي، و «بعد أيام من ارتكاب الجريمة كان هو دون غيره حديث وسائل الإعلام ومحل احترام النخبة... الضابط الذي أفرج في الحال عن المجاهرة بالإفطار في نهار شهر الصوم» ص 66. ووسط بشاعة هذا الواقع وتناقض ظاهره وباطنه تتساءل الساردة: «كيف استطاع بيتهوفن خلق هذا العالم النقي: ضوء القمر». فالفن – هنا – ليس موازياً للواقع وليس انعكاساً له بل تصويراً لعالم مغاير نقي ومحاولة للارتقاء إليه. ولا تكتفى الكاتبة بفضح الآخرين وكشف زيفهم وتناقضاتهم بل تسعى – في بعض القصص- إلى كشف الذات وتعرية نوازع الأنانية التي تسيطر عليها في بعض الأحيان. ففي قصة «ذيل حصان» تهيمن عليها الرغبة في الاستيلاء على هذا الذيل الطويل الناعم الكثيف الذي تفتقد الفتاة مثله وتتساءل فى حسرة «لم لست أنا التي تمتلك هذا الشعر هذا القصر وهذا الحصان؟» ص17. وهو تساؤل لا يعكس فحسب رغبات الذات الفردية بل يعكس الحس الاجتماعي المؤلم فقد كانت فتاة في مثل سنها تملك كل هذا في حين كانت أمها – أم الساردة – تعمل خادمة في هذا القصر ويتطور الحدث وتقوم الساردة بقص شعر الذيل من جذوره ويموت الحصان ثم تحدث المفاجأة حين طال شعرها وأصبح شديد الكثافة. وما كان منها – تخلصاً من عقدة الذنب – إلا أن رفعته كي يأخذ شكل ذيل الحصان ثم أمسكت بآلة الجريمة وقصت الذيل من جذوره. نستطيع – بالفعل – تأويل هذه القصة البديعة فهي تقول – بالفن – إنه لا ينبغي أن نحقق رغباتنا على حساب الآخرين، وإذا حدث فستطاردنا لعنة هؤلاء الآخرين وتصبح الذات متورطة – ربما من دون قصد كما في القصة السابقة – في جريمة لم تكن في حسبانها ربما لهذا تسعى الساردة إلى التباعد والعزلة وتفعيل الخيال الذي تكتفى به بديلاً من الواقع. ففي قصة «تلك اللحظات الرهيبة»، تقول بأسلوب خبري قاطع مباشر؛ «وطني هو غرفتي عاصمته الغربة أنها ضريبة عيش بنت بنوت ببيت من الذكور» ص31، وتتكون المشاعر من دون تواصل ويصبح الجسد عبئاً تحمله الأنثى كأنه صخرة سيزيف وهي حالة تفجر الأسئلة المكبوتة المسكوت عنها بفعل التقاليد المجتمعية حين تتساءل كيف يغلفها الله بجسد أنثى وتدفع هي الثمن أو لماذا». التصاق جسد أنثى بذكر «حرام وعيب»، ويصبح يوم زفافها يوم نهايتها ففكرة الانتحار تيمة ملحة في مواقف سردية كثيرة بل إنها – أي هذه الفكرة – تنعكس على اختياراتها للكتّاب الذين أقدموا على هذا المصير من أمثال فرجيينيا وولف وهيمنغواي ويدور حول هذه التيمة مستويات أخرى تقع في دائرتها الدلالية مثل الاضطراب النفسي والرغبة في القتل والحديث المتكرر عن الموت. تقول في أولى قصص المجموعة – قصة «فئران» – «منذ لحظات لا أكثر. ماتت جدتي. أنا هناك عند لحظة سقوطها من الشرفة توقف فمي عن قضم قطعة عجين العيد النيئة التي أعطتني إياها متجاهلة تحذيرات أمي» ص19، ولنلاحظ أن موت الجدة وقع في طفولة الساردة، لكنها تعود إليه ناقلة المشهد الحي الذي ظل ملازماً لها. في قصة «الرقص حزن آخر»، تتجلى تيمة التمرد بوصفها مناقضة للعزلة وحب التخفي. يأخذ التمرد صيغة السلوك الصادم حين تذهب ابنة وزير سابق إلى إحدى الحفلات حافية كأنها تتخلص من قيودها وترى أن «المجنون هو مَن يلتزم السير على خط مستقيم» ص44، وفجأة ترقص على رغم اعتراض أبيها، وبعدها تشعر برغبة في الطيران. لقد عاشت لحظة تحررها الحقيقي وحريتها في أن تضع نقطة نهايتها بيديها. لكن ما يزعجها في الأمر هو «أن التقليديين سيعتبرون المسألة حادثة انتحار تقليدية» ص47. والأمر – في حقيقته – ليس كذلك. لقد عاشت كما يريدون ولم يبق إلا أن تموت كما أرادت. إنها حالة البحث عن الحرية حتى ولو كانت لساعات قليلة نهائية.