كانت الصناعة من المقومات الأساسية للحضارة الفرعونية، فقد اهتم الفراعنة والأسر الحاكمة المتتالية بالصناعة وتطويرها، وفي مقدمتها صناعة الزجاج التي تميزت بها مصر الفرعونية عن غيرها من حضارات العالم القديم، وأنشأوا أول مصنع في التاريخ لإنتاج الزجاج، وكانت المنتجات الزجاجية الفرعونية تعكس رقي وتقدم تلك الصناعة في مصر القديمة، واستخدمت أحيانا للضغط السياسي وتوسيع نفوذ الأسر الحاكمة. ترجع بدايات ظهور صناعة الزجاج إلى بلاد ما بين النهرين بالعراق وشمال سوريا، وكذلك في مصر الفرعونية، ويقدر العلماء أول ظهور لها في الفترة بين 1000 إلى 1500 سنة ق م، وبدأت في مصر تحديدا في العصر البرونزي، أي قرابة 1250 سنة ق م ، في ظل الأسرة الثامنة عشرة، وانتقلت من الفراعنة إلى الإمبراطورية الرومانية، الذين قاموا بتطوير تلك الصناعة، وبعد الفتح الإسلامي لمصر اهتم العرب بصناعة الزجاج، وابتكروا الكثير من الأدوات والطرق التي لم تكن مستخدمة في العصور السابقة. اقتصرت صناعة الزجاج في بدايتها على إنتاج قطع زجاج على شكل خرز، وكان اقتناء منتجات الزجاج في عصر الدولة الحديثة نوعا من الترف، حيث صنع على شكل زهريات، كما طعمت به الأثاث والجدران، وفي العصر البطلمي انتشر الزجاج بمصر لأغراض الاستخدام اليومي في الأواني والكؤوس والأطباق والمصابيح والقلادات، وفي تطعيم الحلي والمرايا. وقد اكتشفت مؤخرا بعثة آثار ألمانية تقوم بالتنقيب في منطقة القنطرة شرقي النيل، بقايا أقدم مصنع للزجاج في التاريخ، ورجح تقرير البعثة التي أشرف عليها العالمان إدجار بوش من المتحف الأثري في مدينة هيلدسهايم الألمانية، والبروفيسور تيلو ريرين أستاذ آثار الحضارات القديمة بجامعة لندن، أن صناعة الزجاج في مصر القديمة كانت أكثر تطورا مما كان يعتقد، حيث تمكّن الصناع المصريون من الوصول إلى طريقة متطورة لصنع الزجاج عن طريق صهر رمل "الكوارتز" مع البوتاسيوم، وأنتجوا كتلا زجاجية كبيرة تم إرسالها بعد ذلك إلى مصانع أخرى متخصصة لتشكيلها أو تم تصديرها مباشرة للدول الصديقة. السبيكة الزجاجية ويوضح د. محمد بكير، الباحث في علم المصريات، أن المصريين القدماء اتبعوا طريقة مبتكرة لصنع الزجاج تقوم على مرحلتين؛ المرحلة الأولى يتم فيها صهر رمل "الكوارتز" مع البوتاسيوم عند درجة حرارة تصل إلى 850 درجة مئوية، بعد طحن المواد جيدا لتحويلها إلى مسحوق دقيق بأعلى درجة ممكنة، وذلك في "بوتقات سيراميكية"، حتى تتشكل مادة الزجاج دون النقاء الكامل، ثم يتم كسر البوتقات السيراميكية وتحطيم السبيكة الزجاجية، وتبدأ المرحلة الثانية، حيث يتم صهر حطام السبيكة الزجاجية مرة أخرى في بوتقات سيراميكية عند درجة حرارة 1000 درجة مئوية، فيتشكل خام الزجاج النقي على شكل مكعبات يصل سمكها إلى 10 سنتيمترات، وكان يُضاف الجير لتثبيت الخليط، مشيرا إلى أن عملية تلوين الزجاج كانت تتم عن طريق إضافة أكاسيد معدنية إلى المزيج أثناء الصهر، مثل أكسيدات النحاس التي تُضاف للحصول على اللون الأحمر أو البرتقالي، ومركبات النحاس والحديد التي تعطي اللون الأزرق المخضر، ومركبات الكوبالت للحصول على اللون الأزرق المعتم، لافتا إلى أن العلماء يرجحون وجود مصانع مختلفة للزجاج، كل منها مختص بإنتاج زجاج ذي لون معين، والذي تم اكتشاف واحد منها مؤخرا في القنطرة، وكان مصنعا متخصصا في إنتاج الزجاج الأحمر. ويضيف بكير: بعد إتمام عملية تصنيع الزجاج وتلوينه، يتم نقل مكعبات الزجاج إلى الفنانين وصناع الأدوات الزجاجية لتشكيلها والرسم عليها، أما الحلي الزجاجية متعددة الألوان، فكان يتم تشكيلها عن طريق مكعبات مختلفة الألوان، منوها إلى أن عملية تصنيع الزجاج تحتاج إلى معرفة علمية وافية، وهو ما كان يتركز في يد كهنة مصر الفرعونية ولا يخرج إلى عامة الشعب، فلا يُسمح للعمال سوى معرفة الشيء الضئيل عن طبيعة المزيج الذي يصهرونه وكيفية تصنيعه، وذلك حتى لا يفقد الكهنة نفوذهم الواسع، ومن ثم اقتصرت معرفة صناعة الزجاج على أصحاب النفوذ في مصر القديمة، حتى أصبح الزجاج عملة نفيسة تُعبر عن السيطرة والسلطة. أشكال هندسية من جانبه، يشير د. جمال عيسى، أستاذ التاريخ الفرعوني بجامعة القاهرة، إلى أن صناعة الزجاج برزت في مصر القديمة، ولقت اهتماما خاصا من الأسر الحاكمة لتطويرها وتصديرها، حيث كانوا يستخدمونها أحيانا كوسيلة للضغط السياسي لتوسيع نفوذ حكمهم، لافتا إلى أن الكشف الأثري لمصنع الزجاج في القنطرة، أوضح أن المصريين القدماء لم يستوردوا الزجاج في ذلك الوقت بل كانوا يصنعونه ويصدرونه، وحكام الممالك الأخرى كانوا في حاجة إلى الحصول على الزجاج المصري لتشكيله والتزين به، الأمر الذي جعل الأسر الحاكمة يستخدمون الزجاج كورقة ضغط سياسية تمكنهم من توسيع رقعة نفوذهم وتكوين تحالفات تدعم دولتهم وتقوي وجودهم. ويوضح عيسى، أن صناعة الزجاج انتقلت من الفراعنة إلى الرومان، وفي العصر الروماني تطورت صناعة الأواني الخزفية المطلية بطبقة لامعة، من خلال إضافة النحاس والفضة إلى الأصباغ التي يُطلى بها الزجاج، وبدأت آنية الزجاج المصنوعة من قوالب في الظهور بحلول العصر البيزنطي، أما بعد فتح عمرو بن العاص لمصر، اهتم العرب بصناعة الزجاج وعملوا على تطويرها من خلال ابتكار أدوات وطرق جديدة لم تكن مستخدمة في العصور السابقة، ففي نفخ الزجاج أصبح استخدام "البونتيل"، وهو قضيب يمسك بقاع الإناء، كذلك استخدم العرب في صناعة الزجاج نوعين من القوالب، أحدهما من جزأين بمفصلة، حيث ينحت النموذج داخليا بأشكال هندسية وطبيعية، والآخر قالب غمْس، حيث ينفخ الزجاج بداخله ثم يستكمل نفخه خارجيا، مؤكدا أن مصر الفرعونية هم من أوجدوا صناعة الزجاج وطوروها لتنتج أشكال تعكس وجود صناعة حقيقية متميزة في الحضارة الفرعونية.