لا شك في أن السينما فن بصريّ يتوجه للنظر لملء العين بالإثارة، فهي تستطيع تشكيل المادة المنتجة لها بصرياً كي تُخرج منها المعنى المطلوب. لكنها لا تُشكَّل من أجل التشكيل إلا في حالات قليلة، تجريبية في الغالب. هي تجاور التشكيل بصفته المُحَولة نحو استجلاء أكبر أو مختلف في إطار مخصوص لها، هو السرد بما أنها حاملة للقصة بعقدة منتقاة بعناية ونحو هدف هادف. يصير التشكيل عندها عنصراً قد تتفاوت أهميته من درجة إلى أخرى ووفق مستويات انخراطه في صياغة محكيّ الفيلم. لكن في المقابل، يوجد مخرجون لهم قدرة على توريط السينما في مجال التشكيل مع خاصية المدارة هذه. يأخذون مادة ما تسترعي انتباههم سينمائياً، ويعيدون صياغتها كي تعبر لذاتها أولاً كإعادة لكينونتها في شكل مختلف ومغاير، تماماً كما يجري الحال في مجال الرسم والنحت، وثانياً من أجل أن تُوَظف لتؤثر في الجو العام للشريط وتوجهه وجهة تساهم في دراميته. كيف يحصل هذا؟ في الغالب الأعم تفعل السينما ذلك باستغلال الفضاء الذي يحوي الأحداث بما أنه المعطى المباشر الذي يُسَهِّل التشكُّل. لسبب واضح يتجلى في كون أي عملية تروم التشكيل تسعى إلى ملء مُفكر فيه ومُبدع للمكان خارج التأثيث الكسول. كما يحدث هذا من جهة أخرى حين يقوم مخرج ما باللعب على زوايا الالتقاط بالتكسير والقلب وعكس المنظور أو تعميقه أو التأكيد عليه. وأيضاً بتنويع الحواف والمداخل والحدود داخل الحقل السينمائي الواحد. زد على ذلك اللعب على رمزية اللونين الأبيض والأسود وما بينهما من درجات صفاء وعتمة، أي اللعب على خاصية الضوء. ثم لا يجب نسيان خاصية التوليف في اللقطة الواحدة كما في اللقطات المتصلة، أو حتى اللقطات جلها حين تُسير بنظرة جمالية (استيتيقية) عارمة ومحددة. تطويع مكونات فضاء في فيلمه «السمفونية المغربية» قام المخرج كمال كمال باستثمار فضاء غير معهود وجعله مكاناً للجزء الأكبر من وقائع الشريط. لم يكتف بوضع عناصر فيلمه فيه من أثاث وشخصيات على الخصوص، بل أعاد تشكيله ليكون عنصراً رئيسياً بدونه تنتفي جاذبية فيلمه من الأساس ويفقد مبرر فكرته الأصيلة. ويتعلق الأمر بمطرح نفايات حديدية بالدار البيضاء، مقبرة مقطورات وسيارات ومتلاشيات. أي المنسي والمهمل وغير الصالح للاستعمال. كل مجريات الفيلم تتبدى في داخله. قام المخرج بإعادة النفايات ووضعها بموضعتها وفق تصور أولي، ثم التقاطها في شكل معين لتصير فضاء شبيهاً للشخصيات المُهْمِلة ذاتها، والتي تحيا على هامش المجتمع. أي كمجالين كبيرين لصورتين تتبادلان الأدوار في بشكل مرآوي. وهكذا حوَّل المقطورات إلى سكنيات والباقي إلى ديكور عام لا يمنح تنافراً مع الشخصيات. أكثر من ذلك، فبما أن الشخصيات تمارس جميعها الموسيقى وتعزف كل واحدة على آلة معينة، فقد وافقها الفضاء حين سيقرر المخرج أن يحوله إلى صالة عرض موسيقية سيعزفون في أرجائها اللحن السمفوني. من أجل هذا الهدف قاموا قبل ذلك بإيعاز من المخرج بدك المتلاشيات وتحويلها إلى مكونات حلبة عرض، ما يمنحها خاصية تنصيبات تشكيلية قائمة الذات، نوع من النحت بأبعاد كبيرة. وهو ما يعطي إحدى الأمثلة البارزة لتداخل التشكيلي والسينمائي. تطويع شخوص وهناك مثال ثان لا بد من ذكره، ويخص الفيلم المطول الأول للمخرج عز العرب العلوي «أندرومان». هنا لعب تشكيلي تناول الفضاء ثم الشخصيات معاً. الفضاء طبيعي في جبال الأطلس السامقة التي تحولت إلى حلبة تمثيل مغايرة للواقعي والمجتمعي المألوف حالياً في البوادي الجبلية، كي تبدو بلا زمن ولا ألفة مكانية قريبة من الزمن المعيش الآن إلا في حالات معينة. ولتعميق هذا الانطباع حول المخرج الممثلين البارزين إلى مخلوقات يصعب التماهي معها بإعادة تشكيل الملامح وخاصة الثياب (طريقة حلاقة الشعر والحلي غير المتداولة في زمننا الحالي). إذ من الممكن أخذ كل شخصية على حدة وتأملها لذاتها، بما تمنح للنظر من مميزات لوناً وحجماً وملمحاً. ووسيلته للوصول إلى هذه النتيجة تتجلى في تعميق المفارقة. هنا اشتغال مفكر فيه في العرض الظاهري ليصير تميزاً يخدم قصة للفيلم الأمازيغية بملامح نوستالجية، على رغم المعطى المأسوي الذي يغلفها بما أن القصة تتناول أنثى قدر لها أن تكون ذكراً ضد الطبيعة والعرف. هما مثالان، بغض النظر عن قيمة منجزهما الفني والإبداعي الذي يظل في حكم الواعد، من السينما المغربية القريبة من حساسيتنا الفنية في محيطنا العربي لمخرجين مثقفين نوردهما للتدليل. هذا مع العلم أن السينما العالمية تعج بأمثلة فيلمية قوية لمخرجين مبدعين أثروا الفن السابع الذي صار له تاريخ كما للفن التشكيلي تاريخ يعود أصله إلى إنسان الكهوف ورسوماته. وبناء على هذا التراكم ألا يمكن القول إن السينما هي في حقيقتها مادة يعاد تشكيلها لتعبر ولتخلق المعنى؟ نعم، مع فارق مهم هو كونها تشتغل على جملة مواد وليس نوعاً أو صنفاً واحداً. لكن بالتأكيد على المادة التي تخدم مسرود الفيلم وغايته الإبداعية، والسينما اليابانية لها باع طويل في هذا المجال مع مخرج من طينة أكيرا كوروساوا.