تعاني السينما العربية قلة الاعمال التي تقدم رؤي جديدة واساليب مختلفة تخرج عن الأنماط السائدة وبما فيها اكثر الأشكال الواقعية التي لا تخرج عن "الحدوتة" او الحكاية معلومة النهاية منذ البداية، سينما تحرك الساكن وتثير تساؤلات وتدفع بالمشاهد الي التيقظ والتساؤل والجدل والاختلاف ومن هنا كان اختيار مهرجان الاسكندرية السينمائي للفيلم المغربي "البراق" او بيجاسوس للمخرج المغربي محمد مفتكر موفقا لخوض غمار المسابقة الرسمية لهذه الدورة وهو باكورة أفلامه الطويلة حملا لكثير من الجوائز المهمة يحكي الفيلم عن أب متسلط لم يرزق أطفالا ذكورا مما دفعه إلي أن يبرز ابنته الوحيدة (ريحانة) علي أنها ذكر (المهدي) محاولا إخفاء ملامحها الأنثوية، وتعليمها فن ركوب الخيل والفروسية. القصة لا تخرج عما يتم تداوله شفويا وهي حكاية بسيطة لكن المقاربة والتصور العام بدأ فيه نوع من الاحترافية والإبداعية علي مستوي السرد الفيلمي تيمة تراثية بداية يستحضر العنوان تيمة تراثية وكأنه يهيئ المتلقي لاستقبال رسالة مشفرة بفن يستلهم الديني والفلكلوري. لقد وفق الفيلم في إبراز عناصر القصة برمزية سينمائية متميزة فهناك الحصان (العود الأدهم) في بعده الديني وكرمز للفحولة والقلم كمؤشر علي الثقافة والوعي وما رفض الأب لتعليم (ابنته/ ابنه) إلا لأنها بهذا ستقاوم هيمنة الأسطوري والخرافي، إذ يمثل التعليم نوعا من التحرر. ناهيك عن أن إبراز الأب ابنته كذكر مؤشر علي واقع مجتمع ذكوري التفكير، والرغبة الملحة (للشريف) باستمرارية السلطة الدينية التقاليدية والتي لا يمكن أن يرثها سوي الابن الذكر بينما الأنثي ستجلب دما يختلط فيه الدم المقدس بدم واحد من الرعاع . وهذا ما يفسر عملية الاغتصاب، التي يفاجئ بها الفيلم المتلقي في النهاية بطريقة هتشكوكية وتبقي رمزية البيض والصورة أقل امتاعا .. فالبيض حاضر كمقدس يستعمل في المدنس السحر والشعوذة لكن التركيز عليه يسقط الفيلم في الفلكلورية . بينما نجد الصورة الممثلة في الرسم بحضورها الملفت للنظر يشكل شذوذا في الثقافة المغربية. زوايا التصوير. وتبقي قوة الفيلم في اختيار زوايا التصوير اللهم بعض النقص الذي يمكن ربطه وكما هو الحال دائما بضعف الامكانيات لقطات ركض الحصانين علي سبيل المثال إلي جانب أخري بدت نشازا مع الإيقاع العام لإبداعية التصوير المتقنة وهذا بالرغم من غياب حركية الكاميرا. أما المونتاج بدا متأرجحا بين القوة والضعف وهوسا بالابهار جعل الفيلم من وجهة نظري يسقط في مجانية بعض اللقطات مما سيمارس نوعا من التغريب بالمفهوم البريختي علي المتلقي. في حين كان الصوت متقنا إلي حد ما، ويبلغ قمته مع صهيل الخيل وما صاحب الصورة علي طول الفيلم من موسيقي تصويرية تحكم في إدماجها صاحب الفيلم كلما برز ضعف الإرسال للقطة وتعابير وجوه الممثلين أو البياضات نهاية بعض المشاهد وبداية أخري .. وقد كانت حاضرة بشكل ملفت، بلغت قمتها حين تجمع ما بين صهيل الخيل وصهيل الحنجرة الأطلسية التي يعتبر حضورها تأثيثا ينضض تيمة الفروسية وحضورها في المتخيل الشعبي وارتباطها بحنين المرأة أو بكاؤها علي ذاك الفارس الذي غيبته الحرب أو الذود عن الحمي بثلاثيته " الدين و الأرض والعرض. خرافات وأساطير ربما يبقي التناول أقل قوة في الجمع ما بين المحيط القروي بحمولته التراثية وما يحبل به من خرافات وأساطير وسحر وشعوذة وتقاليد وأعراف، وفضاء المستشفي وما يختزنه في الذاكرة كفضاء للعلاج والعلم والمعرفة والحداثة إذ احتاج السرد لروابط وشيجة أكثر قوة لإقناع المتلقي بالانسجام والتآلف ما بين الفضائيين. أما أداء الممثلين فيبقي رهينا بتيمة الفيلم وبما ينتظر منهم علي صعيد التفاعل مع الشخصية .. وهذا أمر من الصعوبة بما كان في هذا النوع من الأفلام الذي يتعالي علي الواقعية، حيث تبدو الملامح متصلبة وتنحو تعابير الوجوه وميمية الأجساد منحي التعابير الكافكاوية مما صعب علي أغلب الممثلين إبراز قدراتهم الفنية رغم أن زوايا االرؤية وعين الكاميرا وهذا نادر في الفيلم المغربي لم تكن عائقا البتة. ونستطيع القول ان الفيلم الطويل الأول لمحمد مفتكر جاء حاملا بصمة خاصة ومختلفة، وحافظ علي نوع من الاستمرارية من افكاره السابقة، إذ نجد في فيلمه إشارات وعلامات سبق أن وردت في أفلامه القصيرة خصوصا "رقصة الجنين" (الخيل والبيض)، إضافة إلي حضور مرجعيات لمدارس علم النفس عند "فرويد" و"يونج" و "فاجنر". ومن خلال العاب ذكية لعب مفتكر جيئة وذهابا داخل فضاء حر وزمن ملتبس وغير محدد،ليفاجئنا في الأخيربنهاية قوية و صادمة وغير متوقعة،تجعلنا كمشاهدين نحس برغبة في إعادة مشاهدة الفيلم لمرات عديدة لعلنا نكتشف في كل واحدة بعضا مما بثه مفتكر من علامات ورموز، ونحاول فكها من خلال مستوي متميز للكتابة إذ استفاد مفتكرمن تجربته ككاتب سيناريو لينسج أحداثا وشخصيات ذات أبعاد نفسية معقدة وهو بذلك استطاع ضبط أدوات اشتغاله و تجاوز نقطة ضعف قاتلة(الكتابة) لطالما اشتكت منها السينما المغربية خاصة ان الفيلم لايقدم قصة تقليدية عادية واحداثا يمكن مسبقا توقعها او في الأقل رسم مساراتها او الاقتراب من الشخصيات ومحاولة سبر اغوارها، وعلي هذا فإننا امام فيلم يمكن تلخصيه بالبحث عن الذات الهائمة، الذات التي وقعت ضحية الآخر ووقعت ضحية البحث عن خلاص في وسط دوامة لانهائية من الميثولوجيا والسحر والميتافيزيقيا. مجتمع ذكوري من هذه الخلاصة المكثفة سنتوقف عند قصة فتاة ما في وسط مجتمع ذكوري لايراد لها ان تكون انثي، الأب الذي سيستخدم بطشه وقوته علي ذلك الكائن الضعيف، الفتاة وهي طفلة وعليها ان تتحول الي فتي، ان تتدرب علي ركوب الخيل وان ترتدي ثياب الفتيان، ذلك عالم مغلق علي ذاته في وسط قرية في مكان ما تحف بها الجبال وتمتد مزارع القمح لتكون ملاذا للصبية / الفتي ومكانا للعب مع صبي آخر، وهناك يمارس الأب سطوته علي ذلك الامتداد اللامتناهي، يقود ابنته الطفلة قسرا الي عالم الذكورة الذي لاخيار لها فيه .العالم الكامن المجهول عبر ذلك الامتداد عبر الوهاد والجبال لايصغي لأنين الطفلة التي كل ذنبها انها ولدت انثي وهي تجوس في مجهول لاتدريه وتدور في فضائه. ملاحظات السيناريو مما لاشك فيه ان هذا الفيلم علي ماعليه من ملاحظات في السيناريو لجهة انه ينحو منحي ذهنيا وتتداخل فيه الأزمنة والأماكن مبتعدا كثيرا عن التتابع والنمو المنطقي للأحداث وافعال الشخصيات وبسبب ذلك فإن من ينشد من وراء هذا الفيلم قصة تقليدية معتادة قائمة علي التسلسل المنطقي للأحداث فإنه لن يعثر عليها بسهولة إن شريط " البراق " يعد نقلة نوعية في السينما المغربية .. وما قدمه محمد مفتكر وطاقمه يؤكد أن السينما المغربية علي السكة الصحيحة.. ولا يسعنا في هذا المقام سوي أن نشد بحرارة علي يد جميع أفراد الطاقم التقني وكذا الممثلين، بمن فيهم الطفلين، ونقول لهم : شكرا علي ما منحتمونا من متعة، في انتظار متعة أبدع وأجمل .