مسالك التيه في الصحراء" للقاص رضا بن صالح هو عنوان رمزي لمجموعة قصصية واقعية يمكن إدراجها في خانة الواقعية النقدية، فهي قصص تستقي مواضيعها من الواقع وتشبهه بصحراء شاقة تمتد فيها المتاهات. والصحراء هي الرقعة المكانية التي دارت فيها الأحداث القصصية وتمتد بين تونسوفرنساوروما، وأميركا، يتجول فيها السارد حاملا معه عدسته معلقا عليها على ألسنة الرواة الذين يتبوؤون في الغالب موقع الشاهدين على الأحداث. هذا البعد الواقعي النقدي لم يلغ الرؤية الرومانسية التي تتشوف الحلم وتؤسس لعالم فني بديل، فالإبداع الفني يندمج مع التجربة الاجتماعية ويجعل المبدع شاهدا عليها ناقدا لها، محولا كتاباته إلى ايديولوجيا للدفاع عن النفس، وفي هذا الإطار بين كادوويل الذي لم يفصل الفن عن المجتمع في كتابه "الحقيقة والوهم": "تنبع قيمة الأدب من حقيقة أنه يواصل ويغير تنظيم الطاقة الاجتماعية، وتدرك القيمة من خلال تنظيم نفس الطاقة في أنفسنا". والحقيقة أننا لا نستطيع فصل البعد الرومانسي الثوري عن البعد الواقعي في هذه المجموعة القصصية نظرا لتلازم الرؤية الجوهرية للأشياء واندماجها مع الرؤية الاجتماعية على الرغم من إدراكنا بأن "الواقعية النقدية كاتجاه أدبي ظهر مع عصر النهضة بعدما صار الانسان لا يعود الى الذات اللاهية بل الى المجتمع والى العلاقات الاجتماعية والانسان المجتمع، ولئن عبرت في بدايتها عن الانسان الايجابي المفعم بالخير والانسانية إثر فهم طبيعة المجتمع بأسلوب عقلاني وخاصة في أعمال شكسبير. ثم صار المنطق الموضوعي في المجتمع أهم من الذات". فهذا لا يلغي حضور الذات في العمل الإبداعي "مسالك التيه في الصحراء"، فالنقد الموضوعي العقلاني لا يلغي عمق الإحساس والشعور، والتجارب الذاتية وتصوير العالم المنشود على أنقاض واقع يصوره الكاتب في رؤية للإشارة إلى ضرورة تغييره. وقد قدم "مسالك التيه في الصحراء" الأديب محمد الجابلي، ومن بين ما ورد في التقديم "فالذات في غربتها وفي سؤالها كما في حلها وترحالها محور أساس في الحركة والسكون". الذات هي محور القص في كل النصوص القصصية الواردة في المجموعة وهي "الدكتور، الكومسيون المالي، الزواج الممنوع، مسالك التيه في الصحراء، الشيخان، الغريب، الشاب والعجوز، الجميلات هن، سيرة جدي عمار البوغانمي، لص المقابر، عيد المرأة 1، عيد المرأة 2". في هذه القصص يعبر السارد عن رؤيته الذاتية في تصوير الواقع انطلاقا من زوايا عديدة من بينها الرؤية بأعين المغتربين عن الواقع، وبتقديم نماذج من الواقع يقدمها الراوي كشخصيات قصصية فاعلة في الأحداث، وكانت من العناصر المؤثرة عليه مثل شخصية الدكتور التي عرف عنها أشياء كثيرة وهي مطية للراوي ومن ورائه السارد للتعبير عن موقفه من شخصيات دينامكية متلونة قادرة على لعب ادوار في الواقع. أو عبد جليل في قصة لص المقابر" الذي عاد من اميركا وروى له قصة سفره عبر حيل عديدة. في قصة "الكومسبون المالي" تتضح رؤية السارد من وراء صوت الراوي المولود في فرنسا العائد الى تونس عبر الطائرة متسائلا "ما تراه تقدم لنا دولة تتأسس مدنها على مسائح جلود الثيران وأسطورة عليسة والكاهنة وسيدي بن عروس ماذا نرجو من دولة مفتوحة دوما للغزاة واللصوص الفاتحين". فالقصة مطية ايديولوجية لنقد التاريخ الذي اختلطت فيه الحقائق بالأوهام، يتحدث عن غربة داخل الوطن وخارجه، عن لجوء وتبعية للضفة الأخرى. في "مسالك التيه في الصحراء" أيضا عودة الى تونس عن طريق مطار روما يلتقي ب "روبرتو فريغا" المستشرق ملم بالتراث العربي. وهو مطية لنقد لغتنا وفنوننا الهجينة ذات الخليط اللغوي المركب. الهروب واللجوء للضفة الأخرى في قصة "الغريب" وراءه حكاية افتكاك الأرض وخيبات أمل عديدة. أما المرأة في هذه الاقاصيص فهي إما بائعة هوى في الأماكن الريفية في قصة الدكتور، وفي واجهات المدن العصرية، في قصة "الجميلات هن..." هن بائعات هوى حسب الراوي حيث يختم القصة بهذا المشهد: "وعندما كنت أهم بالوقوف وجدت تلك الصهباء منحنية علي، مدت يدها إلى السيجارة. جذبت الولاعة. وأشعلت سيجارة وضعتها بين شفتيها، سحبت نفسا، ثم انحنت علي حتى كاد وجهان يتلامسان. غمرتني رائحة عطرها ووصلني همسا: (الباس بخمسين دينار والخلاص بالمسبق". أو تبدو في هيئة غير أنثوية من خلال الانتماء إلى منظمات نسائية تمسخ صورتها في قصة "عيد المرأة 1": "كنا متحلقين حول قصعة الكسكسي نتعشى ونتابع برامج التلفزة ونتضاحك حتى بدأ برنامج خاص بعيد المرأة فتغيرت سحنتها وما إن بدأت تلك المرأة الشقراء بشعر مقصوص على طريق الغلمان تتغنى بمكاسب المرأة التونسية وتعدد ميزاتها حتى هاجت أختي وطفقت تسب النساء والأعياد". هو نفس النقد يوجهه للمرأة التي تنشأ في بيئة تحط من هيئتها الأنثوية في قصة عيد المرأة 2: "سأل المولدي عن أحوال عبدالحق الصحية ثم سأله عن الطفل الذي كان معه أهو صبي أم صبية والحقيقة أن الشعر القصير والأثواب لا تعطي للناظر فكرة عن جنس ذلك الصغير. أجاب المسؤول: طفلة بنت ولدي". الواقع الذي مرر عبره القاص رضا بن صالح نقده اللاذع عبر أساليب تميل إلى السخرية والانحراف الفني بتكبير عيوبه وتصويره عن قرب هو موضوع حنين وتجارب حسية، تجلى ذلك في طيات النصوص القصصية في صور تلامس الروح منها الحنين إلى الأمكنة": "والحقيقة أني في أعماقي كنت أتحرق لزيارة قرطاج واوتيك. وأشتاق إلى زيارة جامع الزيتونة وكنيس اليهود في لافيات، أريد أن أتذوق السحلب بالشامية في باب الخضراء". أو الحلم في قصة "الغريب": "جلس تحت الشجرة التي دون عليها يوميات طفولته ومراهقته كانت ملاذه إلى التفكير والحلم". أو إحياء المشاعر في قصة "لص المقابر": "بعد ذلك استغربت كيف تذوب المشاعر وتتلاشى الذكريات لتأخذ معها أشخاصا كانت لنا معهم صداقة متينة وعواطف جياشة. تبا لذاكرة تخوننا وتعلمنا الخيانة وترغمنا على أن نخسر أحب الناس إلينا". هي قصص الواقع يتعمق القاص في نقده وفي تصوير عيوبه عبر شخصيات مدنسة في الغالب، ينقدها على لسان الراوي الذي بدا متلبسا بصورة السارد، ولكنها يحفر تراكمات الواقع لينبهنا الى ضرورة استعادة الحلم بتغييره باستعادة القيم الجمالية الطبيعية، وإن خاتلنا العنوان بحالة التيه والضياع فهي حالة مجتمع لا حالة ذات إبداعية تتشوف البديل. إذن يطرح القاص أسئلة الهوية المنفتحة على تراكمات حضارية يصورها كعبء استعماري، انفصام الذات لأجيال تعيش وراء البحار، التمزق بين الحداثة والتخلف، العلاقة مع الذات ومع الآخر. القصص حافلة بالقبح وبالجمال ايضا.