لأمير تاج السرّ، الروائي السوداني، موهبة خاصّة في ابتداع الأسماء. في عمله الأخير ابتكر أسماء غريبة لكل من شخصياته، بل إنه، بحكم تغيّر أحوال مدينتهم «السور» وسقوطها في أيدي «التقي» وأنصاره، أعاد تسمية النساء بأسماء جديدة تناسب ما يلائم أولئك الغزاة المغالون (خميلة مثلا، وهي بطلة الرواية، تحوّل اسمها إلى نعناعة ليناسب ما تحبّذه قوى التطرّف الديني من مواصفات النساء) وهو أيضا، أطلق أسماء على نواحي مدينة «السور» وجوارها، وهذه أيضا أسماء غريبة تجعلنا، لمفارقتها عن بعضها البعض وتخالفها، كأننا إزاء فنّ خاص قوامه اللعب بالحروف وتشكليها على نحو ما تتشكّل زهور في آنية. أما مدينته «السور»، فليست أقل تنوّعا من أسمائها وأسماء ساكنيها. هؤلاء الأخيرون، متنوّعون متعايشون حتى في ازدرائهم لبعضهم بعضا، ومتسامحون في ما يتعلّق باختلاط منابتهم، كما في اختلاف أديانهم، تلك التي اجتمعت هنا في الرواية، بلا استثناء، مقرّبة المسلم من المسيحي ومقرّبة الاثنين من اليهودي، ثم من البوذي، كما هناك تلميحات إلى مذاهب أخرى بينها ما ليس له اسم. الأديان حاضرة كلّها بما يجعل تلك المدينة صعبة الوجود على أرض محدّدة، كمثل ما هي موجودة في صفحات الرواية. لكن الكاتب يذكر في مكان ما من تقديمه للمدينة أو تعريفه بها، أنها ليست مدينة فاضلة، وأن ساكنيها ليسوا خالين من التنابذ (بخلاف ما تكون المدن التي تبدأ الروايات عادة برسم ملامحها الهانئة قبل أن تعرِّضها لشرور الحدثان والأقدار). فالروائي هنا، لمجانبته ما ليس واقعيا، يشير إلى أن مدينة السور «تتأرجح بين الانضباط والفوضى، بين التحضّر والتخلّف الأخّاذ». وهذا ما جعلني أرضى بهذا التعريف لمدينتي بيروت، قابلا به توصيفا لها. لكن سرعان ما ستنقلب أحوال هذه المدينة لتصير، بعد سيطرة المجاهدين المتطرّفين عليها، ممثّلة لمدن الخراب جميعها، أقصد تلك الجارية فيها الحروب الراهنة، أو تلك المهدّدة بها، أي تلك التي استولى عليها حاملو رايات الدين فجعلوها قاعا صفصفا. هنا ستتولّى مدينة «السور» النطق باسم تلك المدن العربية والإسلامية التي وقعت في أسر هؤلاء، وسنقرأ نحن ما عرفناه تماما وتابعنا وقائعه وتفاصيله. وهنا لا تحتاج الرواية من كاتبها إبداعا فائضا، فكلّ ما يأتي به كاتبها يمكن نسخه من الوقائع الجارية في مواقع الغزو والقتل. كل ما عليه أن يفعله هو أن يجري تنويعات على ما شاهده أو سمعه، وربط بين أجزائه ليصير ما جرى «تخيّله» رواية متسلسلة. في أحيان، وأنا أقرأ مقلّبا صفحات رواية «زهور تأكلها النار»، أشعر بأني أمام مشهد سبق لي أن عشته منقولا في نشرات الأخبار. من ذلك مثلا حادث سوق الفتاة التي اتهمت بالزنا إلى تلك الحفرة التي ستقتل فيها أمام ناظري أبيها الذي يسأله الجلاد إن كان يوافق على أن ابنته الزانية تستحقّ مصيرها، فيجيب الأب، هو المرتعد خوفا، بالذهول والتمتمة. هذا في الرواية، أما الحدث الواقعي فأشدّ هولا إذ أن الأب، وقد كان حاضرا لمشاهدة مقتل ابنته رجما، قال بصوت جعله خوفه وإيثاره النجاة بنفسه عاليا وجهوريا، لتحريض القتلة. قال إنه لن يسامحها أبدا، بل أنه ألقمها بنفسه الحجر الأوّل مفتتحا به انهيال الحجارة الذي لن يتوقّف قبل لفظ ابنته أنفاسها. لا أحسب أن ذلك المشهد أوصلنا، في الرواية، إلى ذروة الخوف والرعب التي رفعنا إليها المشهد الواقعي المنقول على شاشات التلفزيون. كل تفصيل، كل كلمة تقال، كل نظرة أو التفاتة، وكل ترقّب لما ستقوله الفتاة، أو ما لن تقوله، كان مستدعيا منا، نحن من نسمع ونشاهد وقائع الرجم على شاشة التلفزيون، الفضول الأقصى والتأويل الأقصى. لا أحسب أنني كنت كذلك في نسخة المشهد الثانية، تلك التي نقلتها الرواية أو استعادتها. ربما كانت الحروب، ومثلها الكوارث والفظاعات، أكثر قوّة من أدبها. إنها، في الأدب، نسخة ثانية، نسخة مقلِّدة. كأن جلّ ما يطمح إليه الكاتب هو أن يرينا، على صفحة مرآة، الحدث الحقيقي جاريا هناك في الجهة المقابلة للمرآة. رواية «زهور تأكلها النار» أقرب إلى تأليف حكاية هي مما يحدث في أمكنة كثيرة من مدننا، وكل يوم. لذلك هو تأليف لن يوصل، في تفاصيل سياقه كما في خاتمته، إلى المأساة التي تسعى أعمال روائية إلى بلوغها طالما أن المأساة حدثت فعلا، ومن قبل. ولن تفيد كثيرا المهارة في إحكام ربط الأحداث الروائية بعضها ببعض، أو حتى الرجوع في الزمن الروائي إلى ما قبل الزمن الواقعي، الحالي، مزيّنا بتفاصيل تسعى إلى تأكيد ماضويّته. ألحرب أكثر جنونا من أيّ تمثيل أو وصف لها. يرجع ذلك أساسا إلى أن انفجاراتها مفاجئة على الدوام وغير محكومة، كما في روايتنا هذه، بالتزامها سياقا متصلا. كما أنها، هي الحرب، حقيقية إلى حدّ أن كل ما يُصنع لإنشاء مسرح يماثلها يبدو خارجيا وعرضيا ومقلّدا. ٭ رواية «زهور تأكلها النار» لأمير تاج السرّ صدرت عن دار الساقي في 189 صفحة. عام الصدور 2016.