غياب المسلسلات الدينية الدرامية في رمضان شهر القرآن يفتح بابا جديدا للجدل والسجال الفكري، ليس من المنظور الديني الذي يحرم تجسيد بعض الشخصيات الإسلامية التاريخية فحسب، بل يتعدى هذا الأمر وتتجاوز تلك الظاهرة إلى مساحات أخرى أكثر دهشة وعجبا، مفادها أن الثقافة في خطر دائم، وأن الرصيد الثقافي المرئي لدينا ولدى حضارتنا الراهنة في طريقها إلى زوال، لاسيما وأننا أصبحنا في هوس دائم بالأعمال الدرامية التي تتناول قصص الساقطات أخلاقيا أو جنائيا وحياة صعود المطرب أو المطربة أو كيفية هروب رجال المخدرات من أيدي رجال الأمن وهكذا وتلك أمور تهدد الثقافة بوجه عام. وقد يرجع البعض إلى غياب الأعمال التاريخية الدينية في رمضان إلى ارفاع تكلفتها المادية رغم أننا نشاهد أعمالا أخرى بإنتاج مشترك وبديكورات خيالية تصيب كثيرا منا بالضجر والاكتئاب لسخافة المنتجين وفداحة الفكرة والمضمون أيضا لتلك الأعمال، ولربما استطاعت سوريا أن تقتنص إنتاج الأعمال التاريخية المؤثرة والممتعة لاسيما ثلاثية صقر قريس وربيع قرطبة وملوك الطوائف التي دغدغت مشاعرنا وداعبت أبصارنا وعقولنا بلغة رصينة وبإنتاج يليق بتاريخ الأندلس البائد، لذلك يرجع كثيرون إلى اختفاء تلك الأعمال الدرامية ذات الصبغة التاريخية للحالة السورية المتردية وأعمال العنف والفوضى السائدة هناك. وكثيرون أيضا من رجال الفن نفسه أقروا بأن دورهم اقتصر على اللحظة ولا يريدون أن يصنعوا مدا استثنائيا لأنفسهم ولأنهم أصبحوا أكثر استسلاما لمنطق السبوبة أو اقتناعا بأن الجمهور لا يريدهم إلى في صور معينة كضابط فاشل متهور، أو تاجر مخدرات، أو أحد الحرافيش الذين صعدوا إلى قمة المجتمع الزائف أو راقصة تمكنت من فرضت سطوتها الجسدية على رموز مجتمعها وهكذا، وهم لا يدركون أنهم يرتكبون جريمتين كبيرتين واحدة في حق انفسهم بتخليهم عن فرصة فنية يصنعون بها مجدا شخصيا، وواحدة أخيرة بمشاركتهم في سحق التاريخ ونسيانه لدى قطاع الشباب الذي صار فريسة لشبكات التواصل الاجتماعي من ناحية، ومن ناحية أخرى أصبح فريسة سائغة الاقتناص والمضغ والبلع لهوس المنتجين أصحاب الأعمال الفنية الهابطة. وقد أعجبني التقرير الذي نشر بجريدة ( ميدل إيست ) التي تصدر في لندن والذي اهتم بتحديد الأسباب والعوامل التي أدت إلى غياب الدراما الدينية وأكاد أجزم مع التقرير وأتفق بأن غياب الأعمال الدينية التاريخية التي اشتهر تقديمها في رمضان مرجعه الضعف الشديد والقصور الصارخ في استخدام اللغة العربية الفصيحة لدى الممثلين والممثلات وهو سبب واضح للعيان من خلال أحاديثهم التليفزيونية والتي تكشف عن هذا الضعف اللغوي الشديد. وأشار التقرير أيضا نصا بأن أسباب غياب الدراما الدينية التاريخية في الشهر الكريم إلى ظهور الشَّخصيَّات الدِّينيَّة في الأعمال الفنيَّة وهي مسألةً حسَّاسةً ما زالت تثير الكثير من الجدل في العالم العربي، خصوصًا مع بدء كل موسم رمضاني، وغالبًا ما تواجه هذه الأعمال مطالب بمنع عرضها من قبل المراجع الدِّينيَّة. وغالبًا ما يثار الجدل عند الشروع بتصوير أو عرض أحد الأعمال الَّتي تتناول إحدى الشَّخصيَّات الدِّينيَّة على الرغم من التَّصاريح والأذونات الَّتي تحصل عليها، فصورة الأنبياء والشَّخصيَّات المقدَّسة عليها الكثير من التَّحفظات خوفًا من تجسيدها في أعمالٍ فنيَّة قد تسيء بشكلٍ أو بآخرٍ لمكانتها الروحيَّة في نفوس البشر أو بحجَّة تأجيج المشاعر والفتن الطائفية. لكن تبقى الظاهرة ثقافية أكثر منها فنية وأننا نعاني بحق من فقر ثقافي يمكن إرجاعه أولا إلى المؤسسات التعليمية التي فقدت بريقها منذ أنظمة مبارك التعليمية في مصر، ثم بفعل الفن نفسه الذي يعاني من غفلة حقيقية أودت به إلى قرار سحيق. ولاشك أن شهر رمضان وإن كان فرصة كبيرة للعبادة والطاعات فإنه كان يمثل لجيلي والجيل الذي يسبقني فرصة ثقافية هائلة يمكن من خلالها التقاط بعض اللمحات التاريخية لحضارتنا، وكان يمثل فترة زمنية يمكن من خلالها تدعيم الثقافة العربية والإسلامية لكن يبدو أن للمنتجين والممثلين رأيا آخر يخالف هذا الاعتقاد !. وتاريخنا الثقافي والديني زاخر بأحداث وشخصيات لم تنل الوقت أو الاهتمام الكافي بتسليط الضوء عليها، والإعلام المرئي بوصفه وتوصيفه البوابة السحرية المعاصرة للثقافة عليه مهمة نقل التراث وأحداثه إلى الناشئة من أجل تكريس الكثير من القيم والمبادئ والمعاني التي قد يغفل المعلم في المدرسة عن تقديمها إلى طلابه، ويقصر ولي الأمر في تبسيطها إلى أبنائه، وهذه المهمة وطنية في المقام الأول لأنها واجب وفرض في ظل شيوع ثقافة إليكترونية سريعة جعلت الفرد دائم الهروب من الكتاب الذي كان أقرب وأوفى وخير جليس في هذا الزمان.لذلك فنحن نعاصر خيبة فنية درامية سيطرت عليها قصص الراقصات والساقطات ومحترفي الإجرام والبلطجة، وحكايات المهمشين الذين صعدوا إلى قمة السلم الاجتماعي بفضل ضربة حظ أو سرقة سريعة أو ارتكاب جريمة أو غير ذلك من الملامح الدرامية التي لا تنقضي بانتهاء مشاهدها بل تظل قائمة في أذهان المشاهدين فسرعان ما يستمرؤا حياة الفهلوة. كما أن اهتمام الدراما العربية بالتاريخ الديني والثقافي للأمة العربية واجب تربوي لا يقل أهمية عن الدور التربوي والتعليمي الذي تقدمه المدرسة والجامعة، وإذا كانت المدرسة تسعى بأنشطتها في تدعيم وتنمية قيم المجتمع الأصيلة فما بالكم بمجتمع تغزوه مسلسلات لا تحمل أفكارا راقية ويعزف عزوفا فجا عن تاريخ أمته، وما بالكم بأمة عربية بتاريخها الرائع كأمتنا تحمل رصيدا كافيا ووافيا وجامعا يتمثل في أشخاص أناروا الطريق وقصص تاريخية شكلت العالم ورؤاه.