مرة جديدة تطرح إشكالية حرية المبدع وتقييده مقابل دعاوى الحفاظ على التاريخ الوطني، وحفاظاً على الشخصيات الوطنية من التشويه والتجريح. تجددت إثارة القضية بعد عرض مسلسلي «سرايا عابدين» و «صديق العمر» في شهر رمضان الماضي، حتى أن البعض طالب بوقف المسلسلين وقت عرضهما لأنهما «يزيّفان الفن والتاريخ». وأقام المجلس الأعلى للثقافة ندوة أخيراً ناقش فيها قضية «الدراما والتاريخ»، حضرها الكثير من أساتذة التاريخ، مثل الدكتورة لطيفة محمد سالم والدكتور أحمد زكريا الشلق، ومن الفنانين حضر سامح الصريطي، وأحمد سلامة، وصبري فواز، والكاتب محفوظ عبدالرحمن، فضلاً عن الناقد طارق الشناوي، وجمال شقرة، والكاتب هشام الخشن. وبعيداً من الندوة، طالبت الجمعية المصرية للدراسات التاريخية صنّاع الدراما بضرورة العودة إلى الجهات العلمية المتخصصة قبل الشروع في كتابة عمل درامي تاريخي. وأوضح الكاتب محفوظ عبدالرحمن ل «الحياة» أنه من قام ب «استفزاز» الجمعية التاريخية التي هو عضو فيها لأنه طرف في الموضوع، وقال: قدمت في الماضي «بوابة الحلواني» و «ناصر 56»، والعملان يقتربان من «سرايا عابدين» و «صديق العمر». وعندما سئلت عن وجهة نظري في العملين قلت أين دور الجمعية التاريخية؟». وأكد محفوظ ضرورة أن تكون الأعمال التاريخية موثّقة ومدروسة، مشيراً إلى أن دور كاتب السيناريو أكثر تعقيداً من دور المؤرخ نفسه الذي يستطيع الكتابة عن أي شخصية وتجاوز أي ثغرات بعكس كاتب الدراما الذي لا بد من أن يشرح الثغرات ويفسرها للمشاهد، وأضاف: «هذه المهنة شديدة الصعوبة وتتطلب مقداراً كبيراً من الأمانة حتى يصل الكاتب الى أهدافه ويقدم عملاً درامياً متكاملاً خصوصاً في الناحية التاريخية. هناك أعمال قوية تدور حول بعض الأحداث التاريخية مثل التي قدمها ألكسندر سميث، وكذلك الرواية التاريخية التي قدمها بحرفية أمين معلوف فهو شديد الدقة في رصده التاريخ، ولذلك استحق التقدير من الجميع». وأوضح عبدالرحمن وجود مبالغة كبيرة في الأعمال التاريخية التي عرضت في شهر رمضان، ولا سيما مثلاً في مسلسل «صديق العمر» حيث بدا وكأن البطل هو عبدالحكيم عامر وجمال عبدالناصر مجرد تابع له. التاريخ نفسه دراما هائلة ولا بد من الصبر عليها بمزيد من البحث والقراءة لتكتشف هذه الدراما، فتساعدك على الوصول الى ما تصبو إليه لأنك بذلت مجهوداً في عملك، ومن المؤكد أنك ستنجح، أنا أقرأ الطابعة الأولى والثانية من أي كتاب على رغم تشابههما هوساً بالبحث عن معلومة جديدة تضاف الى ذاكرتي». وتابع: «أنا أول من كتب عن جمال عبدالناصر وكانت هناك قيود على تقديم عمل يرصد تاريخ الزعيم الراحل، وعندما انتهيت من الفيلم ظل مجرد ورق لمدة عام حتى تم عرضه، ونجح كثيراً مع الناس ولكن تم وقفه في عز نجاحه. وفي مسلسل «بوابة الحلواني» تكلمنا على مرحلة الخديوي إسماعيل التي ندر الحديث عنها في المراجع التاريخية والكتب، وعانيت في البحث عن مصادر واعتمدت على كتاب «إسماعيل بين الوثائق» الذي أحتفظ به لأنه كنز تاريخي، ها هم أساتذة التاريخ يستعيرونه مني فيأخذون منه صورة بعد إلحاح شديد وأنا أخاف كثيراً على هذا الكتاب». أكد الفنان مجدي كامل أنه تعرّض لصدمة نتيجة ضعف الأعمال التاريخية على الشاشة الرمضانية حيث شعر أن هناك استسهالاً انتهجه القائمون على هذه الأعمال. ولأنه قدم شخصية الزعيم جمال عبدالناصر من قبل، فهو يعرف جيداً قيمة العمل التاريخي وأهميته، ويقول: «الأمر ليس هيناً كما يتصور البعض. وتجسيد شخصيات تاريخية لها ثقل في ماضينا يتطلب منا مزيداً من الأمانة في رصدها ومزيداً من الإخلاص في تقديمها للأجيال الجديدة التي تعيش معظم الوقت مع مواقع التواصل الاجتماعي وثورة تكنولوجيا المعلومات ودراستها للتاريخ قليلة. وعندما نقدم عملاً فنياً يرصد حقبة تاريخية مهمة، لا بد من أن نجتهد في تقديمه. كما ان على جهات الإنتاج أن تبذل مجهوداً في تدقيق المعلومات والأحداث التي يتم تقديمها». واعتبر مجدي ان مطالبة بعضهم بضرورة العودة في الأعمال الدرامية التاريخية الى الجمعية المصرية للدراسات التاريخية أمر لا بد منه لحماية الفن من التحديات التي تواجهه، «فالفن ليس وسيلة للترفيه فقط وإنما مجال مهم للإبداع وتنمية الوعي ولا مكان فيه للهدم، لأن الأمل في البناء مرتبط بازدهار الفن والثقافة. والمجتمعات القوية تهتم بالفن الهادف وتُنفق عليه لأن مردوده إيجابي للغاية». وقال الدكتور محمد عفيفي، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة وأستاذ التاريخ، إن حرية الإبداع مكفولة، «لكن في المجتمعات التي ترتفع فيها نسبة الأمية، لغير المتعلمين وللمتعلمين أيضاً، الذين لا يملكون معرفة واسعة بالتاريخ نتيجة عيوب في المدرسة التاريخية المصرية ذاتها أو لسوء المناهج التعليمية، يظهر هذا الخوف. كما يتجلى ذلك القلق الذي يدعمه أن مصر تواجه الإرهاب وأزمة سياسية، فضلاً عن جماعات دينية تفسر التاريخ على ما تشاء، لذلك يُواجه تناول التاريخ في أي عمل درامي بحساسية شديدة، بخاصة أننا لا نملك رأياً عاماً كبقية الدول الديموقراطية يكون بوصلة إنتاج الأعمال الدرامية». أما المتخصّص في التاريخ عمرو صابح، فقدم في الندوة ورقة نقدية بعنوان «صديق العمر... بين الحقائق التاريخية وخيال صنّاعه»، أكد فيها أن هذا المسلسل لم يخضع لأي مراجعة تاريخية لكمّ الأخطاء والمغالطات التاريخية في أحداث المسلسل، فضلاً عن «غياب الرؤية لصناع العمل، فالفترة من 1961 حتى 1967 شهدت مفاصل تاريخية عدة مهمة في علاقة الرئيس بالمشير بدأت بانفصال سورية عن دولة الوحدة في 28 أيلول (سبتمبر) 1961، ثم بأزمة مجلس الرئاسة واستقالة المشير المكتوبة للرئيس في 1 كانون الأول (ديسمبر) 1962، وما تبعها مما اصطلح على تسميته بانقلاب أبيض صامت قام به الجيش على الرئيس رفضاً لاستقالة المشير أو تحجيم صلاحياته في القوات المسلحة، وهي معركة انتصر فيها المشير». وتحدث صابح عن أخطاء تاريخية عدة رُصدت في المسلسل، مثل: «تتر المسلسل من الحلقة الأولى، وحتى الحلقة الخامسة كان مكتوباً فيه ان الفنان صبري فواز يؤدي دور الأستاذ محمد حسين هيكل، مع انه يؤدي في الحقيقة دور محمد حسنين هيكل، فلم يفرق المسلسل بين الدكتور محمد حسين هيكل السياسي والأديب صاحب رواية «زينب» والكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل». وأوضح الدكتور جمال شقرة أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر ومدير مركز الشرق الأوسط في جامعة عين شمس والأمين العام للجمعية التاريخية المصرية، أن لا بد من إخضاع الدراما التاريخية لمستشار متخصص من بين الأساتذة الكبار ولكن بعض المسلسلات التي تنتجها جهات خاصة لا تحترم هذا القرار، لذلك أصدرت الجمعية بياناً تستنكر فيه هذا العبث وطالبت بوقف مسلسلي «صديق العمر» و «سرايا عابدين» وبالفعل جاءت ردود الأفعال عنيفة ومؤيدة لهذه القرارات. وأوضح شقرة أن هناك جهات إنتاج تريد أن تتحامل على رموز لعبت أدواراً وطنية، وهذا لا يمنع أن هناك من يستسهل ويوفر في الإنتاج، «لكن ما يدهشنا تجاهل الشركة المنتجة لمسلسل «سرايا عابدين» لنا ووقوع العمل في أخطاء كارثية حتى أن أحداثه وقعت في «سرايا عابدين» التي كانت مجرد بيت وقتها لشخص اسمه «عابدين»، وبذلك فإن هناك تجاوزاً للزمان والمكان وهما رئيسيان لأي عمل تاريخي، كما أن تصوير الخديوي إسماعيل بأنه رجل مستهتر على رغم أنه صاحب تجربة رائعة في التنمية والتحديث على منوال جدّه محمد علي باشا، وأنا لي كتاب مهم في هذا الشأن، وبذلك فإن المؤلفة وقعت في أخطاء لا تغتفر وسارت وراء الأفكار الاستعمارية».