تاركاً المدن الكبرى والضواحي، توجّه ريمون دوباردون Raymond DEPARDON إلى المشهد الموجود بين نقيضين، الريف البعيد والمدينة المعاصرة. أماكن كادت تُشاد وحدها بعيداً عن أعين وخرائط خبراء التخطيط المدني، إنها رُسمت وشّيدت وطليت بأيدي حرفيين من مواد غير متجانسة وحتى سريعة العطب. مثل الفرنسي أوجين أتجيه والأميركي واكر إيفانز، والأميركيين ستيفن شور وروبرت أدامز وآخرين، الذين أطلقت عليهم في منتصف السبعينات تسمية "المسّاحين الأميركيين"، لا تتطرق صور ريمون دوباردون إلى أي وجود بشري، إنما تُظهر فقط آثار هؤلاء في ما يشغلونه من فضاءات معمارية مثل البيوت والمحال الصغيرة والمقاهي ولافتات وإشارات وأسلاك كهربائية. الشوارع خالية، إلاّ من أصداء الحياة الإنسانية التي تسري بخفة بين هذه الواجهات ذات الألوان البرّاقة وبين الجدران العتيقة. مناطق مسكونة منذ أقدم العصور تتأثر بالمتغيرات الحداثية. هي حداثة متراكمة حيث يتجاور الحاضر مع ثلاثينات وخمسينات وستينات القرن الماضي: " قمت بهذه الرحلة، لأتقدّم نحو الحضور البشري، الذي بصنعه التاريخ، يبدّل في أحوال الأرض. في بداية هذه الألفية الثالثة، يمكن إعتبار هذا العمل كشفاً عن الأماكن، وفرصة مفيدة لوقف الصور". يقول دوباردون. "عادة ما يتجنب المصورون مكبات النفايات والأسلاك الكهربائية واللافتات المبالغة في إدعاءاتها والإعلانات وكل ما يمكنه أن يُسقط تكوين الصورة". أبعد من الصورة السياحية المتملقة، صوّر دوباردون السكن المتواضع حتى الإبتذال ونزواته المؤقتة العابرة، وإنعكاسات حياة الواقع. في تأطير مواجه، ظلّت هذه المشيدات المتواضعة مألوفة لأعين الفرنسيين حتى ولو لم يمنحوها الوقت الكافي لمشاهدتها أو حتى الإحساس بوجودها. لتنفيذ موضوعه هذا، إستخدم دوباردون الكاميرا الكبيرة (20 x 25 سنتم)، وطبع صوره بأحجام جدارية (65،1 x 2م.). 36 عملاً بتقنية الفضة التقليدية، تصويراً وطباعة، إختارها من أصل سبعة آلاف سلبية إلتقطها بين 2004 و2010، علّقت جنباً إلى جنب على جدران صالة "المكتبة الوطنية الفرنسية" في باريس التي عرضت فيها، من دون أن يضيف إليها أية ملاحظات تهدي المتفرج إلى أماكنها الحقيقية. صور فائقة الدقة بتفاصيلها، رائعة الألوان ومؤثرة لما توحيه من غرابة. بانصياعه لخياله، حرّر دوباردون مصنفاً شاعرياً حافظ على وثائقية جادة لمناطق تقع بين ضواحي ملتفة حول المدن وبين الأرياف النائية، في فرنسا التي تعيش ذروة تحولاتها، لكن بعيداً عما سمّاه "الجموع الهائجة". دوباردون متعلّق بالأرض وبفلاحيها. عبر طرقات فرنسا منذ 2004 لرصد "أماكن فوتوغرافية" بدعم من مؤسسات حكومية ومناطقية ومؤسسات القطاع الخاص. من خلال ملاحظته وتحليله لهذه المناطق ولإضطرابات مجتمعاتها، قلب دوباردون الأفكار المسبقة وصوّر موضوعاً، كان حلمه الدائم الذي صاغ من خلاله نظرة إلى وطنه: "أنا في الأساس مصوّر بالأسود والأبيض لكن الألوان تتنافس لتعطي بعداً إيجابياً أو نقدياً من موضوع الصورة. يمر ذلك عبر أشياء متنوعة: مثل سيارة ملونة متوقفة قرب أحد البيوت، أو ستائر إختار لها أصحابها ألواناً غير مألوفة... إنه موضوع متميز لديّ، ذاك الوجود المتزن لأحواض أزهار الجيرانيوم المزروعة بعناية، في كل تلك الأمكنة." لم يكتف دوباردون بالتصوير والتمتّع بالتجوال، بل كان له موقفه النقدي من الهندسة: "يريد الفرنسيون السكن في بيوت لا تشوّه المشهد ولا تفسد البيئة، وفي الوقت نفسه عصرية ومريحة يطيب العيش فيها. في المحصلة إستثمار تراثي حقيقي. من المشاكل التي يصعب ضبطها مشكلة التدفئة القديمة، من الضروري الإهتمام بعزل الجدران في مختلف الفصول. العيش في الريف ليس سهلاً. لقد إشتكى والداي المزارعان طوال حياتهما من الروماتيزم. يجب أن نستعيد ملكية أحجارنا وإنقاذ حيطان منازلنا بترميمها أو إعادة بنائها. المشكلة هي في الوصول إلى توازن صحيح. هنا يدخل المعماريون في الرهان. يجب عدم الخوف من العصري، عن طريق ترويضه ليلائم تراثنا وموادنا وطريقة إدخال هذه المشيدات الحديثة إلى صلب المشهد البيئي." يعتبر دوباردون أن هناك جوامع عديدة مشتركة بين الفرنسيين بالرغم من الإنفتاح الأوروبي والعولمة: "هناك أشياء لا تذكر لا تزال موجودة رغم هذا الإنفتاح. يسير المصور عادة وفقاً لإشارات. فرغت للتو من موضوع عن الريف. لقد صورت مدناً عديدة وأصبحت هذه الصور في المتاحف. ما ينقصني هو ما يقع في الوسط، لا مدينة ولا ريف، إنما هذا المكان الوسيط، المهمل، المحتقر والمعروف من قبلنا جميعاً. مفارق وطرقات الريف وإشاراتها. أماكن نتعرّف أقله على بعضها. فيها وُلدنا، أو عبرنا أو عشنا ردحاً من الزمن، نتذكرها. إنها العمق الذي يصمد فعلياً أمام غزو العولمة. هدفي الأساسي تقديم المناطق الأقل ارتياداً، التي غالباً ما نحلم بزيارتها يوماً ونقاربها رغم خوفنا من إكتشاف واقعها الأقل رومانسية. إن أحكامنا عاطفية دائماً، إننا مرتبطون لأسباب عديدة بأحد الوديان، بمنطقة أو بقرية صغيرة." لم يكن دوباردون خادعاً في ما خصّ الألوان. هي ألوان موجودة فعلاً وقد فاجأته: "المناطق الريفية ملونة أكثر من المدن. لألوانها معان مختلفة عن معانيها الباريسية. ما نصنفه على أنه نتيجة ذوق رديء يكون فعلاً تأكيداً للذات، وربما هو توجه إلى الباريسيين مفاده "أننا موجودون، ونزعجكم بألواننا الحمراء والزرقاء". ويتابع دوباردون، شاهدت في فانديه مرائب للسيارات ذكرتني بألاباما الأميركية كما بدت في صور واكر إيفانز! فيها لاحظت أيضاً أن مصدر اللون الأحمر جاء مع صانعي البيرة. أوروبا هي التي جاءت باللون إلى أميركا. المفاجأة الأخرى كانت في الداخل البعيد المستمر في أحسن أحواله. لكن هناك مقاطعات في الجنوب الغربي فرغت من ساكنيها وأصبحت مهددة، وقد استمرت بالعمل فيها بعض الأفران ومحال بيع اللحوم ومقاه جميلة استثنتها قوانين منع التدخين. صالونات حلاقة راهنت على لعبة الألوان لجذب زبائنها. صوّرت كل ما يؤكد على الهوية. إهتممت إستثنائياً بالمقاهي، تلك الأمكنة التي أعشقها. أمكنة حيوية تجري فيها لقاءات غنية بالصور المخزّنة في وعينا. في هذه المهنة يجب أن ننصت إلى الناس ونحس بالزمن لكي ندرك طريقة عيش مواطنينا. لم أرغب في إظهار المدن والضواحي التي تزنرها، بل كل ما هو خارج ذلك. في هذه الأراضي الأخرى هناك أناس يحتلون الأرصفة ويتناقشون، إنهم منفتحون على العالم. هناك مناطق رائعة بضوئها الطبيعي، وهناك أخرى لم تغادر خمسينات القرن العشرين." في بداية 2004 تاريخ مباشرته العمل على هذا الموضوع، شعر دوباردون بقلق لرؤية نفسه أمام مشاهد حزينة، فارغة من أي حضور سوى مشاعر الحنين لوطن توقف عن الوجود: "كدت أخيف الناس لو استمررت بتصوير ذلك. لم أرغب في إعادة إنتاج هذا الفراغ الموجود في عملي عن منطقة ال"أردين". ربما نظرتي تبدلت اليوم. في بداية القرن الحالي شهدت هذه المناطق تطورات أكثر مما شهدته العاصمة، إذ عرفت كيف تستفيد من طبيعتها. كان بإمكاني تصوير العديد من المعمرين والأطفال لكنني رفضت إقحامهم في المشهد وهم مسمرون على مقاعدهم. وإذا ما بدأت بتصوير المشاهد من خارج فذلك لكي أقترب خطوة خطوة نحو حضور الإنسان الذي بدّل في الأمكنة. بدلاً من الدخول إلى مطابخ الناس كما يفعل التلفزيون، بدأت بلقطات خارجية وتقريب ناعم كما يفعل السينمائي. صورت بالكاميرا الكبيرة، المنتصبة على حامل ثلاثي الأرجل وقماشة سوداء لحجب الضوء أثناء تحضير اللقطة. سلكت دروباً ليست بالضرورة فرعية أو نائية. كنت أتوقف حيثما هناك سكن متجنباً الطبيعة، إذ أنني في مسار معين في مكان ما في بلد إسمه فرنسا. بلد بديع، أقولها من دون تردد." على مدى السبعين ألف كيلومتر التي عبرها ازداد دوباردون تفاؤلاً، لأنه وجد ريفاً حيوياً حياً، ما يبرهن أن الحياة لا تقتصر فقط على العاصمة وحدها أو داخل المشاريع العمرانية الكبرى التي رسمتها مكاتب الهندسة. يتسابق هذا الريف مع عواصمه ولو أن أسواقه الصغيرة تقفل عند السادسة مساءً: "إني أؤيد حماية هذه المناطق، فهي عصرية خلف فتورها. ثراؤها في رأسمالها الكامن في مساحاتها الشاسعة. المدينة كانت مثيرة وجذابة، لكنها اليوم، مع كل هذه التقنيات المستحدثة مثل الإنترنت والتلفزيون والنقل والهواتف المحمولة وباقي وسائل الإتصال، مكّنت الفرد من الإستغناء عن المدينة والعيش في أمكنة بعيدة عنها. ذلك ما فعله زملائي الأميركيون الذين لا يعيشون بالضرورة في مدن كبرى بل في الأرياف." يستشهد دوباردون بقول علماء الجغرافيا "الصراع حول المساحات سيحل مكان الصراع بين الطبقات". الإنساني حاضر في كل التفاصيل. التأثر بالأميركي واكر إيفانز واضح في هذا العمل. أنه موجود في كل صورة. "الجاذبية والإتزان ضروريتان من دونهما يغرق العمل في الجمالية المثيرة للإعجاب وفي الحنين إلى الخمسينات". لم يكن دوباردون يريد الإطراء أو الإنتقاد. واكر إيفانز ألهمه وساعده: "أعشق رقة وحكمة هذا المصوّر الكبير الذي إلتقط الأرياف الأميركية في ثلاثينات القرن الماضي". فرنسا ريمون دوباردون ألوانها فيروزية مثل محل بيع التبغ، حمراء مثل مرآب شيّد في الستينات أو خضراء مثل مفترق طرق في لعبة أطفال. شيء ما لطيف له بقايا طعم الحزن والمرح والتصحر. كتب ناقد عن عمل دوباردون: "في 1966 طلى السينمائي جاك دومي مدينة روشفور بألوان زاهية لترقص بينها "فتيات روشفور" (فيلمه الشهير). أما دوباردون المصوّر فلم يفعل شيئاً سوى أنه فتح عينيه وانصاع لنظره كتأكيد على الذاتي