في الخمسينيات من القرن الماضي شهدت الولاياتالمتحدة حملة شعواء تزعمها جوزيف مكارثي، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية «ويسكونسن» باسم «تطهير البلاد من الشيوعيين»، في وقت كانت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي في أوجها. زعم مكارثي أن لديه قائمة طويلة بأسماء اعضاء في الحزب الشيوعي الأمريكي، أو متعاطفين مع الأيديولوجية الشيوعية وآخرين في شبكة للتجسس، وأنهم نجحوا في اختراق إدارة الرئيس الأمريكي آنذاك هاري ترومان وغيرها من أجهزة الدولة والحكومة الفيدرالية، وفي مقدمتها وزارة الخارجية، والجيش الأمريكي وإذاعة «صوت أمريكا». في سياق هذه المزاعم تشكلت في مجلس النواب الأمريكي لجنة خاصة للتحقيق في هذه المزاعم، أطلق عليها «لجنة النشاطات غير الأمريكية « سرعان ما تحولت إلى أداء سياسية لاصطياد ومطاردة واستجواب كل من تحوم حوله أقل الشبهات بمجرد التعاطف مع الأفكار الشيوعية في أي من تلك المؤسسات الحكومية. ولم تكن هوليوود بمنأى عن هذه الحملة الهستيرية، بل نالها الكثير من شظاياها ونيرانها، خاصة أن عددا من نجومها والعاملين في صناعة السينما كانوا من مؤيدي مزاعم السناتور مكارثي، مثل جون وين بطل أفلام رعاة البقر الشهير، والمخرج إيليا كازان، وإلى هذه الحقبة يعود فيلم ، الذي يتناول قصة أحد ضحايا هذه الحملة، ويحمل اسمه وهو المؤلف وكاتب السيناريو دالتون ترمبو (برايان كرانستون، الممثل الفذ الذي لمع نجمه من خلال مسلسل تلفزيوني حقق نجاحا جماهيرا هائلا باسم «التحول إلى الشر» . وقد نال عن دوره فيه عدة جوائز لسنوات متتالية). استدعاء هذه الحقبة بالذات في فيلم توفرت له كل عناصر النجاح والجودة الفنية، لا تخفى دلالته على أي متابع للواقع السياسي الأمريكي الحالي، خاصة في حمى الحملة الانتخابية الرئاسية، وهو ما سنعرض له بعد قليل. كان «ترمبو» واحدا من ألمع كتاب هوليوود وأعلاهم أجرا في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، لكن عضويته في الحزب الشيوعي الأمريكي كانت وبالا عليه، حينما تم عرض فيلم وثائقي زعمت فيه الكاتبة الصحافية «هيدا هوبر» (هيلين ميرين) أن هوليوود مخترقة من الشيوعيين والمتعاطفين معهم، وتطوعت بتسمية عدد منهم كان من بينهم «ترمبو» ونحو عشرة آخرين من الكتاب. بناء على هذه المزاعم تم استدعاء «ترمبو» ورفاقه الآخرين لاستجوابهم أمام «لجنة مجلس النواب للنشاطات غير الأمريكية». وقرر «المشتبهون» العشرة اتباع استراتيجية مراوغة في إفاداتهم أمام اللجنة، بحيث يصعب إدانتهم أو إثبات التهم الموجهة لهم، إلا أن أحدهم يحذرهم من أن ذلك قد يوقعهم في مأزق التعرض لاتهامهم «بازدراء الكونغرس»، وهو ما يحدث بالفعل، إلا أنهم كانوا واثقين من أنهم سيتقدمون بطلب لنقض الحكم أمام المحكمة الدستورية العليا التي ستؤيدهم بسبب وجود أغلبية من خمسة قضاء ليبراليين مقابل أربعة محافظين، ويشرع المتهمون في إنشاء صندوق لجمع التبرعات، منهم ومن أصدقائهم لتغطية تكاليف التقاضي الباهظة، ويتطوع أحدهم «إدوادر روبنسون» (مايكل ستولبيرغ) ببيع لوحة فنية ثمينة والتبرع بثمنها للصندوق. لكن سوء الحظ يكون من نصيبهم، حين يموت فجأة أحد القضاء الليبراليين في المحكمة الدستورية العليا، بعد فترة وجيزة من وفاة قاض آخر، وهكذا لا تصبح هناك أغلبية ليبرالية في المحكمة. في هذه الأثناء تشتد الحملة ضدهم، حيث ينشط اللوبي المناهض للشيوعية في كواليس هوليوود لحرمانهم من العمل، مع بث جلسات الاستماع تلفزيونيا، وتتزعم الكاتبة «هيدا هوبر» الحملة، وتصدر بالفعل قائمة سوداء تضم اسماءهم وتتأثر حياتهم المهنية بدرجة كبيرة ويهددهم الإفلاس بعد ان تخضع شركة «مترو غولدن ماير» للضغوط وتلغي كل تعاملاتها معهم ومن بينها عقد لثلاث سنوات كانت وقعته مع «ترمبو» الذي يضطر للكتابة باسم مستعار، كما يقوم بكتابة أفلام هابطة فقط لجمع المال لتغطية تكاليف التقاضي، وهو ما يثير اعتراض صديقه وزميله الكاتب «أرلين هيرد» (لويس سي كيه) الذي يرفض التنازل عن مبادئه ويقترح مقاضاة ستديوهات «غولدن ماير» لكن «ترمبو» يخبره أنه مفلس ولا يمكنه مقاضاة أحد. كل هذا لا يجدي نفعا، حيث يصدر عليه الحكم وعلى زملائه بالفعل بالسجن، ويقضي هو فترة العقوبة 11 شهرا خلف القضبان ويجمعه القدر بأحد أعضاء لجنة الاستماع في الكونغرس التي أدانتهم، يقضي عقوبة بالسجن لتهربه من الضرائب. إن الشعور العميق بالاضطهاد الذي رزح تحت وطأته «ترمبو» وأمثاله هو الذي دفعه إلى حالة التكالب تلك، خاصة بعد خروجه من السجن للعمل على مدار الساعة لكتابة ومراجعة أكبر عدد من السيناريوهات (ومراجعة بل سمكرة أعمال الآخرين من دون مقابل أحيانا) وتجنيده أسرته بأكملها كخلية تابعة له لإنجاز وتسليم ما يطلب من من أعمال، كل هذا ليجمع أكبر قدر من المال عله يطرد شبح إحساسه العميق بافتقاد الأمن والأمان، وكلاهما وليد معاناة الاضطهاد. ورأينا في الفيلم كيف أثر ذلك سلبا على علاقته بأسرته وكاد أن يحطمها. لا أعلم أي صدفة ذلك التشابه بين اسم بطل الفيلم ومرشح الرئاسة الأمريكية عن الحزب الجمهوري دونالد ترمب، لكن الفيلم يستدعي إلى الذهن أكثر من وجه شبه مع اللحظة السياسية الراهنة في الولاياتالمتحدة. فالحملة المكارثية التي بدأت بالتنقيب (وكان بالفعل نشاطا أشبه بالتتقيب عن آثار مدفونة أو معادن ثمينة مخبوءة تحت سطح الأرض) مثلت بقعة سوداء على صفحة الديمقراطية الأمريكية، وصارت مضرب الأمثال على ما يمكن تسميته «التطهير الفكري» (على نمط التطهير العرقي) حتى أن مصطلح المكارثية اكتسب دلالة مستقلة عن منشئه التاريخي وصار يستخدم للإشارة إلى كل أنواع الاضطهاد الفكري بالذات، أو غيره، كالاضطهاد على أساس العرق أو الدين أو القومية. فدعوات ترمب لحظر دخول المسلمين إلى الولاياتالمتحدة، أو مطالبة المرشح الجمهوري الآخر تيد كروز بتشديد الرقابة على الأحياء التي يقطنها مسلمون في المدن الأمريكية باسم الخوف من تسلل الإرهابيين، وجدت من يتصدى لها من داخل صفوف حزبه وخارجه بوصفها تتعارض كلية مع القيم الأمريكية. ولا يقتصر الأمر على الولاياتالمتحدة، فصعود ترمب الصاروخي يدين في جزء كبير منه لتبنيه شعارات أساليب نشر الخوف والذعر من الآخر، سواء كانوا مسلمين مشكوكا في ولائهم أصلا أو ينظر إليهم كطابور خامس مرتبط بمنظمات إرهابية، أو مهاجرين من المكسيك وصمهم هو بصفات إجرامية. على الطرف الآخر من أقصى الطيف السياسي لدينا بيرني ساندرز، الذي يعلن نهارا جهارا أنه « اشتراكي ديمقراطي» ويعد مؤيديه بتوفير التعليم الجامعي والتأمين الصحي المجاني لجميع الأمريكيين، وذاك اعتراف كان كفيلا بأن يودعه السجن قبل أكثر من نصف قرن. لقد دار التاريخ دورته ولا نعلم إن كان يعيد نفسه هنا كملهاة أم مأساة؟ فالتوتر المتصاعد بين الولاياتالمتحدة وروسيا اليوم ينذر في رأي البعض بعودة الحرب الباردة، فيما يعتقد البعض الآخر أنها بدأت بالفعل بين القطبين. إن واقع الاحتشاد والتخندق السياسي الذي نراه على نحو صارخ في الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية، سواء من خلال الحشد والشحن الإعلامي والاصطفاف الحزبي الأيديولوجي هو الامتداد الطبيعي لذلك الذي جسده الفيلم من حقبة الخمسينيات. وقد رأينا الاتهامات تنهال على ترمب من كل حدب وصوب بالعنصرية والشوفينية، والتعصب والنازية حتى أن البعض شبهه بهتلر، واتُهم ايضا بمغازلة جماعات عنصرية مثل «الكوكلكس كلان». كما رأينا في الفيلم مثلا كيف أن الوفاة المفاجئة لقاض ليبرالي انتهت ب»ترمبو» ورفاقه في السجن. مثل هذه الأصداء تتردد الآن في دهاليز صناعة القرار في واشنطن، عقب وفاة أحد قضاة المحكمة الدستورية فجأة العام الماضي (المحافظ أنتونين سكاليا) ما أشعل معركة حامية بين إدارة أوباما الديمقراطية والكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون حول تعيين قاض محله. في بداية الفيلم نرى المشهد الذي يلخص محنة ظهور مثل تلك التيارات وتأثيرها المدمر على النسيج الاجتماعي، حين يرش أحد مشاهدي الفيلم التسجيلي عن تغلغل الشيوعيين في أجهزة الدولة «ترمبو» بمشروب المياه الغازية الذي في يده ويصفه «بالخائن». ولدى عودته للمنزل تسأله ابنته ببراءة الأطفال المعهودة «بابا.. هل أنت شيوعي؟». فيجيبها أنه ليس شخصا خارجا عن القانون ويضرب لها مثلا «هل إذا رأيت زميلا لك في المدرسة ليس معه طعام الغذاء. هل تقتسمين طعامك معه أم تقولين له لماذا لا تذهب وتبحث عن عمل..»، وحين ينتقل وأسرته إلى منزل جديد بعد خروجه من السجن يتعرض مسبح المنزل لاعتداء تخريبي من أحد الجيران الذي يترك عبارات بذيئة على جدرانهم. في نهاية الفيلم يلقي «ترمبو» كلمة في حفل أقيم تكريما له بعد أن رفع اسمه من القائمة السوداء وحصل على جائزتي أوسكار (عن اثنين من أفلامه «عطلة رومانية « و»سبارتاكوس») يقول فيها إن حملة المكارثية لم يقتصر ضحاياها على أولئك الذين فقدوا وظائفهم أو سجنوا بسبب رفضهم الإذعان لدهاقنة الاضطهاد، بل طالت أيضا أولئك الذين رضخوا لإرهابها وتخلوا عن مبادئهم في سبيل «أكل العيش»، في إشارة إلى صديقه السابق أدوارد روبنسون، الذي اكتشف «ترمبو» لدى خروجه من السجن أنه خانهم وأدلى بشهادة تجرمهم أمام لجنة الكونغرس مثبتا تهمة الانتماء الشيوعي عليهم، خوفا من أن يفقد عمله.