سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الثلاثاء 22 يوليو 2025    سعر السمك البلطي والكابوريا والجمبرى في الأسواق اليوم الثلاثاء 22 يوليو 2025    «أزمات في أوضة اللبس؟».. رد صريح من نجم الأهلي    موقع وزارة التربية والتعليم ل نتيجة الثانوية العامة 2025 برقم الجلوس فور اعتمادها    صبرها بدأ ينفد، واشنطن تطالب حماس برد على المقترح المحدث وتهدد بهذا الإجراء    العاهل الأردني يؤكد دعم المملكة لأمن سوريا واستقرارها ووحدة أراضيها    أجنة على حافة الموت.. تقرير أممي يكشف مأساة الحوامل في غزة    البيت الأبيض: ترامب يسعى إلى حل دبلوماسي لصراعات الشرق الأوسط    «الوزير» ورئيس وزراء الكويت يبحثان تحويل الوديعة الكويتية لاستثمارات في مصر    النصر يقترب من حسم صفقة مدوية، وإعلامي سعودي: أقسم بالله سيكون حديث الشارع الرياضي    «هل انتهت القصة؟».. جون إدوارد يرفض كل سُبل الاتصال مع نجم الزمالك (تفاصيل)    وسيط كولومبوس ل في الجول: النادي أتم اتفاقه مع الأهلي لشراء وسام أبو علي    ترامب: مستعدون لشن ضربات متكررة على المنشآت النووية الإيرانية إذا لزم الأمر    دموع الفراق وفرحة العودة، شاهد ماذا فعل السودانيون بعد وصولهم أسوان قبل العودة لبلادهم (فيديو وصور)    7 أيام عِجاف.. تحذير شديد بشأن حالة الطقس: درجة الحرارة فوق معدلاتها الطبيعية    رانيا محمود ياسين غاضبة: «منفعلتش على أمي.. كنت بدور عليها ومش لاقياها»    9 اختبارات تؤهلك للالتحاق بكلية الشرطة    10 تيسيرات من «الداخلية» للمُتقدمين للالتحاق بكلية الشرطة 2025    هي دي مصر، رجال الشرطة بأسوان يساعدون النساء وكبار السن السودانيين لتسهيل عودتهم إلى بلادهم (فيديو)    أهلي جدة يحسم موقفه من المشاركة في السوبر السعودي بعد انسحاب الهلال    ثلاث صفقات من العيار الثقيل في الزمالك خلال ساعات (تفاصيل)    مفاجأة مدوية، محمد صلاح يتدخل لانتقال كوكا إلى الأهلي    وزير العمل: أي عامل بلا عقد سيُعتبر دائما.. والأجنبي لن يعمل إلا بتصريح    زيلينسكي: الجولة الجديدة من المحادثات مع روسيا تنعقد في إسطنبول الأربعاء    لندن: فرض عقوبات على من يسهلون رحلات المهاجرين عبر القنال الإنجليزي    يوسف معاطي يكشف سر رفض فيلم "حسن ومرقص" وهذا طلب البابا شنودة للموافقة (فيديو)    «انهيار لغوي».. محمد سعيد محفوظ يرصد أخطاء بالجملة في بيان نقابة الموسيقيين ضد راغب علامة    إيمان العاصي تشارك في «قسمة العدل» والعرض خارج رمضان (تفاصيل)    تامر أمين ل «فشخرنجية الساحل»: التباهي بالثراء حرام شرعا ويزيد الاحتقان المجتمعي    طريقة عمل الأرز البسمتي، في خطوات بسيطة وأحلى من الجاهز    دراسة "تبرئ" البيض من تهمة إيذاء القلب، ماذا قالت عن الكوليسترول الضار    إسرائيل تقتحم منشآت تابعة لمنظمة الصحة العالمية في غزة وتحتجز موظفين    جثة و3 مصابين في حادث تصادم ميكروباص وسيارة نصف نقل بالمنيا- صور    موعد مباراة ألمانيا وإسبانيا في نصف نهائي أمم أوروبا للسيدات والقناة الناقلة    سيمون توجّه رسالة حاسمة لجمهورها: لن أعلّق على ما لا يستحق    معتصم ينتقم من مسعد بعد خطف ريم..حلقة 29 من فات الميعاد    فوز فريق كلية الذكاء الاصطناعي بالمركز الأول في الأولمبياد السابع للجامعات المصرية    التصريح بدفن جثة ربة منزل لقيت مصرعها خنقًا علي يد زوجها بالقليوبية    محافظ شمال سيناء يستقبل وفد من دار الإفتاء المصرية    «خاتم فرعوني» عمره 3500 سنة يُعرض للبيع في مزاد بلندن بسعر بخس    مصرع شاب في مشاجرة بين تجار خُردة بالإسماعيلية.. والأمن يُلقي القبض على المتهم    تفسير آية| «أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا» الشعراوي يوضح سر وجود الإنسان وغاية خلقه    لا علاقة له ب العنف الجسدي.. أمين الفتوى يوضح معنى «واضربوهن»    وصول قطار العائدين السودانيين إلى محطة السد العالي في أسوان    الداخلية تعلن بدء التقديم لكلية الشرطة 2025-2026 إلكترونيًا    السفيرالمصري ببرلين يدعوا إلي زيارة مصرومشاهدة معالمها الأثرية والتاريخية والسياحية    عراقجى: منشآتنا النووية تعرضت لأضرار جسيمة لكننا لن نتخلى عن التخصيب    الداخلية تكشف ملابسات فيديو يظهر شخصًا يمارس البلطجة باستخدام سلاح أبيض في المنوفية    "مستقبل وطن" ينظم مؤتمرًا جماهيريًا بالشرقية لدعم مرشحيه في انتخابات الشيوخ    تنسيق الثانوية العامة 2025 علمي علوم.. مؤشرات كليات طب بيطري 2024 بالدرجات    أول بيان من «الداخلية» بشأن فيديو مواطن تعدى بالضرب على زوجة شقيقه المتوفى للاستيلاء على أرض زراعية في البحيرة    برلمانيون: نائب رئيس "مستقبل وطن" يحظى بشعبية كبيرة في الشرقية (صور)    التحقيق في وفاة سيدة مسنة إثر سقوطها من الطابق السادس بمستشفى طيبة بإسنا    ماذا قال عن بيان الاتحاد الفلسطيني؟.. وسام أبو علي يعتذر لجماهير الأهلي    سقوط سيارة نقل من معدية شرق التفريعة ببورسعيد وجهود لإنقاذ مستقليها    رسميا.. افتتاح وحدة مناظير أورام النساء بمستشفى 15 مايو التخصصي    ملتقى أزهري يكشف عن مظاهر الإعجاز في حديث القرآن عن الليل والنهار    هل النية شرط لصحة الوضوء؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ترامبو .. فيلم يلقي ظلاله على الراهن الأمريكي
نشر في صوت البلد يوم 25 - 05 - 2016

في الخمسينيات من القرن الماضي شهدت الولايات المتحدة حملة شعواء تزعمها جوزيف مكارثي، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية «ويسكونسن» باسم «تطهير البلاد من الشيوعيين»، في وقت كانت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي في أوجها. زعم مكارثي أن لديه قائمة طويلة بأسماء اعضاء في الحزب الشيوعي الأمريكي، أو متعاطفين مع الأيديولوجية الشيوعية وآخرين في شبكة للتجسس، وأنهم نجحوا في اختراق إدارة الرئيس الأمريكي آنذاك هاري ترومان وغيرها من أجهزة الدولة والحكومة الفيدرالية، وفي مقدمتها وزارة الخارجية، والجيش الأمريكي وإذاعة «صوت أمريكا». في سياق هذه المزاعم تشكلت في مجلس النواب الأمريكي لجنة خاصة للتحقيق في هذه المزاعم، أطلق عليها «لجنة النشاطات غير الأمريكية « سرعان ما تحولت إلى أداء سياسية لاصطياد ومطاردة واستجواب كل من تحوم حوله أقل الشبهات بمجرد التعاطف مع الأفكار الشيوعية في أي من تلك المؤسسات الحكومية.
ولم تكن هوليوود بمنأى عن هذه الحملة الهستيرية، بل نالها الكثير من شظاياها ونيرانها، خاصة أن عددا من نجومها والعاملين في صناعة السينما كانوا من مؤيدي مزاعم السناتور مكارثي، مثل جون وين بطل أفلام رعاة البقر الشهير، والمخرج إيليا كازان، وإلى هذه الحقبة يعود فيلم ، الذي يتناول قصة أحد ضحايا هذه الحملة، ويحمل اسمه وهو المؤلف وكاتب السيناريو دالتون ترمبو (برايان كرانستون، الممثل الفذ الذي لمع نجمه من خلال مسلسل تلفزيوني حقق نجاحا جماهيرا هائلا باسم «التحول إلى الشر» . وقد نال عن دوره فيه عدة جوائز لسنوات متتالية). استدعاء هذه الحقبة بالذات في فيلم توفرت له كل عناصر النجاح والجودة الفنية، لا تخفى دلالته على أي متابع للواقع السياسي الأمريكي الحالي، خاصة في حمى الحملة الانتخابية الرئاسية، وهو ما سنعرض له بعد قليل.
كان «ترمبو» واحدا من ألمع كتاب هوليوود وأعلاهم أجرا في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، لكن عضويته في الحزب الشيوعي الأمريكي كانت وبالا عليه، حينما تم عرض فيلم وثائقي زعمت فيه الكاتبة الصحافية «هيدا هوبر» (هيلين ميرين) أن هوليوود مخترقة من الشيوعيين والمتعاطفين معهم، وتطوعت بتسمية عدد منهم كان من بينهم «ترمبو» ونحو عشرة آخرين من الكتاب. بناء على هذه المزاعم تم استدعاء «ترمبو» ورفاقه الآخرين لاستجوابهم أمام «لجنة مجلس النواب للنشاطات غير الأمريكية». وقرر «المشتبهون» العشرة اتباع استراتيجية مراوغة في إفاداتهم أمام اللجنة، بحيث يصعب إدانتهم أو إثبات التهم الموجهة لهم، إلا أن أحدهم يحذرهم من أن ذلك قد يوقعهم في مأزق التعرض لاتهامهم «بازدراء الكونغرس»، وهو ما يحدث بالفعل، إلا أنهم كانوا واثقين من أنهم سيتقدمون بطلب لنقض الحكم أمام المحكمة الدستورية العليا التي ستؤيدهم بسبب وجود أغلبية من خمسة قضاء ليبراليين مقابل أربعة محافظين، ويشرع المتهمون في إنشاء صندوق لجمع التبرعات، منهم ومن أصدقائهم لتغطية تكاليف التقاضي الباهظة، ويتطوع أحدهم «إدوادر روبنسون» (مايكل ستولبيرغ) ببيع لوحة فنية ثمينة والتبرع بثمنها للصندوق.
لكن سوء الحظ يكون من نصيبهم، حين يموت فجأة أحد القضاء الليبراليين في المحكمة الدستورية العليا، بعد فترة وجيزة من وفاة قاض آخر، وهكذا لا تصبح هناك أغلبية ليبرالية في المحكمة. في هذه الأثناء تشتد الحملة ضدهم، حيث ينشط اللوبي المناهض للشيوعية في كواليس هوليوود لحرمانهم من العمل، مع بث جلسات الاستماع تلفزيونيا، وتتزعم الكاتبة «هيدا هوبر» الحملة، وتصدر بالفعل قائمة سوداء تضم اسماءهم وتتأثر حياتهم المهنية بدرجة كبيرة ويهددهم الإفلاس بعد ان تخضع شركة «مترو غولدن ماير» للضغوط وتلغي كل تعاملاتها معهم ومن بينها عقد لثلاث سنوات كانت وقعته مع «ترمبو» الذي يضطر للكتابة باسم مستعار، كما يقوم بكتابة أفلام هابطة فقط لجمع المال لتغطية تكاليف التقاضي، وهو ما يثير اعتراض صديقه وزميله الكاتب «أرلين هيرد» (لويس سي كيه) الذي يرفض التنازل عن مبادئه ويقترح مقاضاة ستديوهات «غولدن ماير» لكن «ترمبو» يخبره أنه مفلس ولا يمكنه مقاضاة أحد. كل هذا لا يجدي نفعا، حيث يصدر عليه الحكم وعلى زملائه بالفعل بالسجن، ويقضي هو فترة العقوبة 11 شهرا خلف القضبان ويجمعه القدر بأحد أعضاء لجنة الاستماع في الكونغرس التي أدانتهم، يقضي عقوبة بالسجن لتهربه من الضرائب.
إن الشعور العميق بالاضطهاد الذي رزح تحت وطأته «ترمبو» وأمثاله هو الذي دفعه إلى حالة التكالب تلك، خاصة بعد خروجه من السجن للعمل على مدار الساعة لكتابة ومراجعة أكبر عدد من السيناريوهات (ومراجعة بل سمكرة أعمال الآخرين من دون مقابل أحيانا) وتجنيده أسرته بأكملها كخلية تابعة له لإنجاز وتسليم ما يطلب من من أعمال، كل هذا ليجمع أكبر قدر من المال عله يطرد شبح إحساسه العميق بافتقاد الأمن والأمان، وكلاهما وليد معاناة الاضطهاد. ورأينا في الفيلم كيف أثر ذلك سلبا على علاقته بأسرته وكاد أن يحطمها.
لا أعلم أي صدفة ذلك التشابه بين اسم بطل الفيلم ومرشح الرئاسة الأمريكية عن الحزب الجمهوري دونالد ترمب، لكن الفيلم يستدعي إلى الذهن أكثر من وجه شبه مع اللحظة السياسية الراهنة في الولايات المتحدة. فالحملة المكارثية التي بدأت بالتنقيب (وكان بالفعل نشاطا أشبه بالتتقيب عن آثار مدفونة أو معادن ثمينة مخبوءة تحت سطح الأرض) مثلت بقعة سوداء على صفحة الديمقراطية الأمريكية، وصارت مضرب الأمثال على ما يمكن تسميته «التطهير الفكري» (على نمط التطهير العرقي) حتى أن مصطلح المكارثية اكتسب دلالة مستقلة عن منشئه التاريخي وصار يستخدم للإشارة إلى كل أنواع الاضطهاد الفكري بالذات، أو غيره، كالاضطهاد على أساس العرق أو الدين أو القومية. فدعوات ترمب لحظر دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، أو مطالبة المرشح الجمهوري الآخر تيد كروز بتشديد الرقابة على الأحياء التي يقطنها مسلمون في المدن الأمريكية باسم الخوف من تسلل الإرهابيين، وجدت من يتصدى لها من داخل صفوف حزبه وخارجه بوصفها تتعارض كلية مع القيم الأمريكية. ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة، فصعود ترمب الصاروخي يدين في جزء كبير منه لتبنيه شعارات أساليب نشر الخوف والذعر من الآخر، سواء كانوا مسلمين مشكوكا في ولائهم أصلا أو ينظر إليهم كطابور خامس مرتبط بمنظمات إرهابية، أو مهاجرين من المكسيك وصمهم هو بصفات إجرامية. على الطرف الآخر من أقصى الطيف السياسي لدينا بيرني ساندرز، الذي يعلن نهارا جهارا أنه « اشتراكي ديمقراطي» ويعد مؤيديه بتوفير التعليم الجامعي والتأمين الصحي المجاني لجميع الأمريكيين، وذاك اعتراف كان كفيلا بأن يودعه السجن قبل أكثر من نصف قرن. لقد دار التاريخ دورته ولا نعلم إن كان يعيد نفسه هنا كملهاة أم مأساة؟ فالتوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة وروسيا اليوم ينذر في رأي البعض بعودة الحرب الباردة، فيما يعتقد البعض الآخر أنها بدأت بالفعل بين القطبين.
إن واقع الاحتشاد والتخندق السياسي الذي نراه على نحو صارخ في الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية، سواء من خلال الحشد والشحن الإعلامي والاصطفاف الحزبي الأيديولوجي هو الامتداد الطبيعي لذلك الذي جسده الفيلم من حقبة الخمسينيات. وقد رأينا الاتهامات تنهال على ترمب من كل حدب وصوب بالعنصرية والشوفينية، والتعصب والنازية حتى أن البعض شبهه بهتلر، واتُهم ايضا بمغازلة جماعات عنصرية مثل «الكوكلكس كلان». كما رأينا في الفيلم مثلا كيف أن الوفاة المفاجئة لقاض ليبرالي انتهت ب»ترمبو» ورفاقه في السجن. مثل هذه الأصداء تتردد الآن في دهاليز صناعة القرار في واشنطن، عقب وفاة أحد قضاة المحكمة الدستورية فجأة العام الماضي (المحافظ أنتونين سكاليا) ما أشعل معركة حامية بين إدارة أوباما الديمقراطية والكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون حول تعيين قاض محله. في بداية الفيلم نرى المشهد الذي يلخص محنة ظهور مثل تلك التيارات وتأثيرها المدمر على النسيج الاجتماعي، حين يرش أحد مشاهدي الفيلم التسجيلي عن تغلغل الشيوعيين في أجهزة الدولة «ترمبو» بمشروب المياه الغازية الذي في يده ويصفه «بالخائن». ولدى عودته للمنزل تسأله ابنته ببراءة الأطفال المعهودة «بابا.. هل أنت شيوعي؟». فيجيبها أنه ليس شخصا خارجا عن القانون ويضرب لها مثلا «هل إذا رأيت زميلا لك في المدرسة ليس معه طعام الغذاء. هل تقتسمين طعامك معه أم تقولين له لماذا لا تذهب وتبحث عن عمل..»، وحين ينتقل وأسرته إلى منزل جديد بعد خروجه من السجن يتعرض مسبح المنزل لاعتداء تخريبي من أحد الجيران الذي يترك عبارات بذيئة على جدرانهم.
في نهاية الفيلم يلقي «ترمبو» كلمة في حفل أقيم تكريما له بعد أن رفع اسمه من القائمة السوداء وحصل على جائزتي أوسكار (عن اثنين من أفلامه «عطلة رومانية « و»سبارتاكوس») يقول فيها إن حملة المكارثية لم يقتصر ضحاياها على أولئك الذين فقدوا وظائفهم أو سجنوا بسبب رفضهم الإذعان لدهاقنة الاضطهاد، بل طالت أيضا أولئك الذين رضخوا لإرهابها وتخلوا عن مبادئهم في سبيل «أكل العيش»، في إشارة إلى صديقه السابق أدوارد روبنسون، الذي اكتشف «ترمبو» لدى خروجه من السجن أنه خانهم وأدلى بشهادة تجرمهم أمام لجنة الكونغرس مثبتا تهمة الانتماء الشيوعي عليهم، خوفا من أن يفقد عمله.
في الخمسينيات من القرن الماضي شهدت الولايات المتحدة حملة شعواء تزعمها جوزيف مكارثي، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية «ويسكونسن» باسم «تطهير البلاد من الشيوعيين»، في وقت كانت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي في أوجها. زعم مكارثي أن لديه قائمة طويلة بأسماء اعضاء في الحزب الشيوعي الأمريكي، أو متعاطفين مع الأيديولوجية الشيوعية وآخرين في شبكة للتجسس، وأنهم نجحوا في اختراق إدارة الرئيس الأمريكي آنذاك هاري ترومان وغيرها من أجهزة الدولة والحكومة الفيدرالية، وفي مقدمتها وزارة الخارجية، والجيش الأمريكي وإذاعة «صوت أمريكا». في سياق هذه المزاعم تشكلت في مجلس النواب الأمريكي لجنة خاصة للتحقيق في هذه المزاعم، أطلق عليها «لجنة النشاطات غير الأمريكية « سرعان ما تحولت إلى أداء سياسية لاصطياد ومطاردة واستجواب كل من تحوم حوله أقل الشبهات بمجرد التعاطف مع الأفكار الشيوعية في أي من تلك المؤسسات الحكومية.
ولم تكن هوليوود بمنأى عن هذه الحملة الهستيرية، بل نالها الكثير من شظاياها ونيرانها، خاصة أن عددا من نجومها والعاملين في صناعة السينما كانوا من مؤيدي مزاعم السناتور مكارثي، مثل جون وين بطل أفلام رعاة البقر الشهير، والمخرج إيليا كازان، وإلى هذه الحقبة يعود فيلم ، الذي يتناول قصة أحد ضحايا هذه الحملة، ويحمل اسمه وهو المؤلف وكاتب السيناريو دالتون ترمبو (برايان كرانستون، الممثل الفذ الذي لمع نجمه من خلال مسلسل تلفزيوني حقق نجاحا جماهيرا هائلا باسم «التحول إلى الشر» . وقد نال عن دوره فيه عدة جوائز لسنوات متتالية). استدعاء هذه الحقبة بالذات في فيلم توفرت له كل عناصر النجاح والجودة الفنية، لا تخفى دلالته على أي متابع للواقع السياسي الأمريكي الحالي، خاصة في حمى الحملة الانتخابية الرئاسية، وهو ما سنعرض له بعد قليل.
كان «ترمبو» واحدا من ألمع كتاب هوليوود وأعلاهم أجرا في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، لكن عضويته في الحزب الشيوعي الأمريكي كانت وبالا عليه، حينما تم عرض فيلم وثائقي زعمت فيه الكاتبة الصحافية «هيدا هوبر» (هيلين ميرين) أن هوليوود مخترقة من الشيوعيين والمتعاطفين معهم، وتطوعت بتسمية عدد منهم كان من بينهم «ترمبو» ونحو عشرة آخرين من الكتاب. بناء على هذه المزاعم تم استدعاء «ترمبو» ورفاقه الآخرين لاستجوابهم أمام «لجنة مجلس النواب للنشاطات غير الأمريكية». وقرر «المشتبهون» العشرة اتباع استراتيجية مراوغة في إفاداتهم أمام اللجنة، بحيث يصعب إدانتهم أو إثبات التهم الموجهة لهم، إلا أن أحدهم يحذرهم من أن ذلك قد يوقعهم في مأزق التعرض لاتهامهم «بازدراء الكونغرس»، وهو ما يحدث بالفعل، إلا أنهم كانوا واثقين من أنهم سيتقدمون بطلب لنقض الحكم أمام المحكمة الدستورية العليا التي ستؤيدهم بسبب وجود أغلبية من خمسة قضاء ليبراليين مقابل أربعة محافظين، ويشرع المتهمون في إنشاء صندوق لجمع التبرعات، منهم ومن أصدقائهم لتغطية تكاليف التقاضي الباهظة، ويتطوع أحدهم «إدوادر روبنسون» (مايكل ستولبيرغ) ببيع لوحة فنية ثمينة والتبرع بثمنها للصندوق.
لكن سوء الحظ يكون من نصيبهم، حين يموت فجأة أحد القضاء الليبراليين في المحكمة الدستورية العليا، بعد فترة وجيزة من وفاة قاض آخر، وهكذا لا تصبح هناك أغلبية ليبرالية في المحكمة. في هذه الأثناء تشتد الحملة ضدهم، حيث ينشط اللوبي المناهض للشيوعية في كواليس هوليوود لحرمانهم من العمل، مع بث جلسات الاستماع تلفزيونيا، وتتزعم الكاتبة «هيدا هوبر» الحملة، وتصدر بالفعل قائمة سوداء تضم اسماءهم وتتأثر حياتهم المهنية بدرجة كبيرة ويهددهم الإفلاس بعد ان تخضع شركة «مترو غولدن ماير» للضغوط وتلغي كل تعاملاتها معهم ومن بينها عقد لثلاث سنوات كانت وقعته مع «ترمبو» الذي يضطر للكتابة باسم مستعار، كما يقوم بكتابة أفلام هابطة فقط لجمع المال لتغطية تكاليف التقاضي، وهو ما يثير اعتراض صديقه وزميله الكاتب «أرلين هيرد» (لويس سي كيه) الذي يرفض التنازل عن مبادئه ويقترح مقاضاة ستديوهات «غولدن ماير» لكن «ترمبو» يخبره أنه مفلس ولا يمكنه مقاضاة أحد. كل هذا لا يجدي نفعا، حيث يصدر عليه الحكم وعلى زملائه بالفعل بالسجن، ويقضي هو فترة العقوبة 11 شهرا خلف القضبان ويجمعه القدر بأحد أعضاء لجنة الاستماع في الكونغرس التي أدانتهم، يقضي عقوبة بالسجن لتهربه من الضرائب.
إن الشعور العميق بالاضطهاد الذي رزح تحت وطأته «ترمبو» وأمثاله هو الذي دفعه إلى حالة التكالب تلك، خاصة بعد خروجه من السجن للعمل على مدار الساعة لكتابة ومراجعة أكبر عدد من السيناريوهات (ومراجعة بل سمكرة أعمال الآخرين من دون مقابل أحيانا) وتجنيده أسرته بأكملها كخلية تابعة له لإنجاز وتسليم ما يطلب من من أعمال، كل هذا ليجمع أكبر قدر من المال عله يطرد شبح إحساسه العميق بافتقاد الأمن والأمان، وكلاهما وليد معاناة الاضطهاد. ورأينا في الفيلم كيف أثر ذلك سلبا على علاقته بأسرته وكاد أن يحطمها.
لا أعلم أي صدفة ذلك التشابه بين اسم بطل الفيلم ومرشح الرئاسة الأمريكية عن الحزب الجمهوري دونالد ترمب، لكن الفيلم يستدعي إلى الذهن أكثر من وجه شبه مع اللحظة السياسية الراهنة في الولايات المتحدة. فالحملة المكارثية التي بدأت بالتنقيب (وكان بالفعل نشاطا أشبه بالتتقيب عن آثار مدفونة أو معادن ثمينة مخبوءة تحت سطح الأرض) مثلت بقعة سوداء على صفحة الديمقراطية الأمريكية، وصارت مضرب الأمثال على ما يمكن تسميته «التطهير الفكري» (على نمط التطهير العرقي) حتى أن مصطلح المكارثية اكتسب دلالة مستقلة عن منشئه التاريخي وصار يستخدم للإشارة إلى كل أنواع الاضطهاد الفكري بالذات، أو غيره، كالاضطهاد على أساس العرق أو الدين أو القومية. فدعوات ترمب لحظر دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، أو مطالبة المرشح الجمهوري الآخر تيد كروز بتشديد الرقابة على الأحياء التي يقطنها مسلمون في المدن الأمريكية باسم الخوف من تسلل الإرهابيين، وجدت من يتصدى لها من داخل صفوف حزبه وخارجه بوصفها تتعارض كلية مع القيم الأمريكية. ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة، فصعود ترمب الصاروخي يدين في جزء كبير منه لتبنيه شعارات أساليب نشر الخوف والذعر من الآخر، سواء كانوا مسلمين مشكوكا في ولائهم أصلا أو ينظر إليهم كطابور خامس مرتبط بمنظمات إرهابية، أو مهاجرين من المكسيك وصمهم هو بصفات إجرامية. على الطرف الآخر من أقصى الطيف السياسي لدينا بيرني ساندرز، الذي يعلن نهارا جهارا أنه « اشتراكي ديمقراطي» ويعد مؤيديه بتوفير التعليم الجامعي والتأمين الصحي المجاني لجميع الأمريكيين، وذاك اعتراف كان كفيلا بأن يودعه السجن قبل أكثر من نصف قرن. لقد دار التاريخ دورته ولا نعلم إن كان يعيد نفسه هنا كملهاة أم مأساة؟ فالتوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة وروسيا اليوم ينذر في رأي البعض بعودة الحرب الباردة، فيما يعتقد البعض الآخر أنها بدأت بالفعل بين القطبين.
إن واقع الاحتشاد والتخندق السياسي الذي نراه على نحو صارخ في الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية، سواء من خلال الحشد والشحن الإعلامي والاصطفاف الحزبي الأيديولوجي هو الامتداد الطبيعي لذلك الذي جسده الفيلم من حقبة الخمسينيات. وقد رأينا الاتهامات تنهال على ترمب من كل حدب وصوب بالعنصرية والشوفينية، والتعصب والنازية حتى أن البعض شبهه بهتلر، واتُهم ايضا بمغازلة جماعات عنصرية مثل «الكوكلكس كلان». كما رأينا في الفيلم مثلا كيف أن الوفاة المفاجئة لقاض ليبرالي انتهت ب»ترمبو» ورفاقه في السجن. مثل هذه الأصداء تتردد الآن في دهاليز صناعة القرار في واشنطن، عقب وفاة أحد قضاة المحكمة الدستورية فجأة العام الماضي (المحافظ أنتونين سكاليا) ما أشعل معركة حامية بين إدارة أوباما الديمقراطية والكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون حول تعيين قاض محله. في بداية الفيلم نرى المشهد الذي يلخص محنة ظهور مثل تلك التيارات وتأثيرها المدمر على النسيج الاجتماعي، حين يرش أحد مشاهدي الفيلم التسجيلي عن تغلغل الشيوعيين في أجهزة الدولة «ترمبو» بمشروب المياه الغازية الذي في يده ويصفه «بالخائن». ولدى عودته للمنزل تسأله ابنته ببراءة الأطفال المعهودة «بابا.. هل أنت شيوعي؟». فيجيبها أنه ليس شخصا خارجا عن القانون ويضرب لها مثلا «هل إذا رأيت زميلا لك في المدرسة ليس معه طعام الغذاء. هل تقتسمين طعامك معه أم تقولين له لماذا لا تذهب وتبحث عن عمل..»، وحين ينتقل وأسرته إلى منزل جديد بعد خروجه من السجن يتعرض مسبح المنزل لاعتداء تخريبي من أحد الجيران الذي يترك عبارات بذيئة على جدرانهم.
في نهاية الفيلم يلقي «ترمبو» كلمة في حفل أقيم تكريما له بعد أن رفع اسمه من القائمة السوداء وحصل على جائزتي أوسكار (عن اثنين من أفلامه «عطلة رومانية « و»سبارتاكوس») يقول فيها إن حملة المكارثية لم يقتصر ضحاياها على أولئك الذين فقدوا وظائفهم أو سجنوا بسبب رفضهم الإذعان لدهاقنة الاضطهاد، بل طالت أيضا أولئك الذين رضخوا لإرهابها وتخلوا عن مبادئهم في سبيل «أكل العيش»، في إشارة إلى صديقه السابق أدوارد روبنسون، الذي اكتشف «ترمبو» لدى خروجه من السجن أنه خانهم وأدلى بشهادة تجرمهم أمام لجنة الكونغرس مثبتا تهمة الانتماء الشيوعي عليهم، خوفا من أن يفقد عمله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.