القليل من البشر تركوا بصماتهم على العصر الذي عاشوا فيه أكثر من تلك التي تركها فرانز فانون على عصره، خلال حياته القصيرة. إنه من مواليد عام 1925 في مدينة فور دو فرانس في جزيرة المارتينيك في البحر الكاريبي، والتي تمثّل إحدى المقاطعات الفرنسية لما وراء البحار. توفي بتاريخ السادس من ديسمبر عام 1961 في أحد المستشفيات العسكرية بضاحية من ضواحي واشنطن، تحت اسم إبراهيم عمر فانون، أي الاسم الذي كان مدوّناً على جواز سفره «التونسي»، اعتبارا من عام 1957، بعد أن طردته السلطات الاستعمارية من الجزائر.. كانت وفاته قبل أشهر قليلة من نيل الجزائر استقلالها الذي كان قد جعله أحد أهداف نضاله التحرري. وفرانز فانون، هو الابن الخامس لأسرة كاريبية إفريقية من ثمانية أشخاص.. أمضى مراحل دراسته الأولى في بلد مولده وفي الثانوية التي كان الشاعر الشهير إيمي سيزار، المعروف بنضاله من أجل حقوق السود بالتعاون مع الشاعر السنغالي ليوبولد سنغور، أحد أساتذتها. وبقي إيمي سيزار رمزا بالنسبة لمسار النضال التحرري ومناوءة العنصرية بالنسبة ل«فانون» طيلة حياته. فرانز فانون هو طبيب نفساني وباحث اجتماعي وكاتب فرنسي. أمضى شطرا كبيرا من حياته في الجزائر، التي كان من أكثر المناضلين حماسا ونشاطا من أجل استقلالها من الاستعمار الفرنسي الذي خيّم عليها 132 سنة. وكان فانون قد أقام وعمل في الجزائر سنوات عديدة كمسؤول عن أحد أقسام مستشفى الطب النفساني في مدينة «بليدة»، التي تبعد عن الجزائر العاصمة بضعة عشرات الكيلومترات. وبسبب نشاطاته المؤيّدة لاستقلال الجزائر، قررت السلطات الاستعمارية الفرنسية طرده منها. هكذا غادر فانون إلى تونس، حيث ساهم بالكتابة بانتظام خلال سنوات 1957 1960 في جريدة «المجاهد»، الناطقة آنذاك باسم «جبهة التحرير الوطني الجزائرية»، والتي كانت تصدر من العاصمة التونسية. العنصرية: المعركة الأولى إذا كان اسم فرانز فانون قد ارتبط بالثورة الجزائرية وبالدفاع عن قضايا المضطهدين في العالم، فإن معارك نضاله الأولى كانت عام 1943 في صفوف جيش فرنسا الحرّة بقيادة الجنرال شارل ديغول، وحيث أُصيب بجروح في منطقة «الفوج» الفرنسية. لكن تلك التجرّبة كانت بالنسبة له أوّل «احتكاك مباشر» مع ممارسات تنمّ عن التمييز العنصري على أساس الإثنية ولون البشرة. وكان فانون قد كتب في إحدى رسائله من جبهة القتال إلى أهله ما يفيد موقفه من المعاملة «العصرية» التي لقيها من قبل «رفاق السلاح»، ما مفاده: «إذا لم أعد، وإذا جاءكم خبر موتي في مواجهة العدو فإنني أتمنى لكم ما أمكن من المواساة. لكن لا تقولوا إنه أعطى حياته من أجل القضيّة». تجدر الإشارة أن تجربته في فرنسا على جبهة القتال، ثم كطالب في جامعة ليون، جعلته يدرك مدى تأثير «سواد بشرته» على طريقة تعامل الفرنسيين معه، في الوقت الذي ينبغي أن ينظروا له ك«فرنسي» مثلهم، حسب ما ينصّ عليه الدستور الفرنسي ذاته. تلك التجربة وجدت فيما بعد أصداءها في كتابه الذي حمل عنوان «بشرة سوداء وقناع أبيض». وهو يوجّه في ذلك العمل نقدا شديدا للممارسات التي لقيها هو نفسه في فرنسا، خاصّة من أوساط المثقفين الفرنسيين. لكن رغم ما زخرت به تلك التجربة من سلوك عنصري، كانت أيضا التي منحته صفة «محارب قديم». وبالتالي كانت وراء قبوله كطالب في كلية الطب بمدينة ليون الفرنسية. في الجزائر.. المستعمَرة غادر فرانز فانون فرنسا إلى الجزائر بعد استكمال دراساته في الطب النفساني وتقديم أطروحة حول «المصابين بمرض عقلي». وفي الجزائر عمل كمسؤول لأحد أقسام الطب النفساني في مدينة «بليدة» في جنوب غرب العاصمة الجزائر. وفي عمله أولى الكثير من الاهتمام لتبني إدخال البعد الاجتماعي والثقافي في معالجة المرضى النفسانيين. وكان قد أسس عبر ذلك «فرعا في الطب النفساني» وجد انتشارا كبيرا اعتبارا من سنوات السبعينيات من القرن الماضي، العشرين. وربط فانون بين حالة «الاغتراب الشخصي» الذي يعيشه الجزائريون، وبين الاضطهاد الذي مارسه الواقع الاستعماري. ولم يتردد في أن يعتبر المستعمرين الفرنسيين وراء شعور الجزائريين أبناء البلاد أنهم «مهمّشون»، بل «يعيشون حالة من الاستبعاد». ذلك ما عبّر عنه فانون بالقول إن الجزائريين كانوا «يعانون من حالة اغتراب حقيقي». رؤية فانون لواقع العلاقة بين ظاهرة الاستعمار وبين حالة الاغتراب التي يعاني منها الخاضعون للسلطة الاستعمارية، توازت مع تأييده على الصعيد السياسي العام لقضية ثوار جبهة التحرير الوطني منذ اللحظة التي انطلقت فيها حربهم التحريرية في الأول من شهر نوفمبر عام 1954. وفي عام 1959 شارك فرانز فانون، باسمه «التونسي»، أي إبراهيم عمر فانون، في «الوفد الجزائري للمؤتمر الإفريقي العام في أكرا». وصدر له في العام نفسه كتاب تحت عنوان «السنة الخامسة للثورة الجزائرية». «المعذّبون في الأرض» يبقى العمل الأكثر بروزا في التراث الذي تركه فرانز فانون هو الكتاب الشهير الذي ترجم إلى أغلبية اللغات الحيّة في العالم وعرف العديد من الطبعات. وكان هذا الكتاب قد صدر في عام 1961 بعد أيام من وفاة مؤلفه وقبل استقلال الجزائر بعدّة أشهر. ويناقش فانون في هذا الكتاب «نزعة التفوّق» التي مارسها الغربيون في تعاملهم مع الشعوب الأخرى. ويتحدّث في هذا السياق عن «العنف الذي تعزز من خلاله تفوّق القيم البيضاء...». ومن الأفكار التي تتردد في كتاب «المعذبون في الأرض»، الذي غدا مرجعا أساسيا للدراسات الخاصّة بالفترة الاستعمارية في جميع العالم، تلك الفكرة التي تتعلّق بالرابطة الحيوية بين الخاضعين للاستعمار من أبناء البلاد الأصليين وبين أرضهم: «الأرض التي تؤمّن الخبز وبالتأكيد الكرامة»، كما يكتب فانون. في عام 1961 أصيب فرانز فانون بسرطان الدم. وتابع العلاج أوّلاً في موسكو، ثمّ انتقل إلى مستشفى بالقرب من واشنطن، حيث توفي في السادس من شهر ديسمبر من تلك السنة. وطالب برسالة تركها لأصدقائه أن يدفن في الجزائر. وهكذا كان. هناك بعض الأسماء التي يبقى لها حضورها رغم مرور الزمن على رحيلها. ذلك أنها ترتبط بقضايا لها دائما راهنيتها وبعدها الإنساني الكوني «يونيفرسال». ومن بين هذه الأسماء فرانز فانون الذي أمضى سنوات حياته القصيرة، حيث توفي في السادسة والثلاثين من عمره في النضال ضد الاستعمار بكل مظاهره. وارتبط اسمه بثورة التحرير الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي الذي بقي مهيمنا على البلاد مدّة 132 عاما. كما غدا فانون أحد المراجع التي تتردد العودة لها في مجال الدراسات «ما بعد الاستعمارية الكولونيالية». وهناك العديد من النصوص المبعثرة و«الضائعة» التي جمعها وقدّمها وعلّق عليها الباحثان: جان خالفا أستاذ الدراسات الفرنسية في جامعة كمبردج وعضو هيئة تحرير مجلّة «الأزمنة الحديثة» التي أسسها جان بول سارتر؛ روبرت يونغ أستاذ الأدب المقارن في جامعة نيويورك والأخصائي بالتاريخ الاستعماري ومؤلف كتاب «ما بعد الحقبة الاستعمارية». إذ ركزا على البحث الشاق على مدى سنوات للحصول عليها من مصادر مختلفة كي تصدر في نهاية الأمر للمرّة الأولى «في كتاب» قبل أسابيع تحت عنوان «»كتابات حول الاغتراب والحريّة«. كان قد صدر لفرانز فانون، كما يشار في مقدّمة الكتاب، عدد من الأعمال التي بقيت حاضرة في أذهان كُثر وخاصّة عمله الذي نال شهرة عالمية وتمّت ترجمته إلى أغلبية لغات العالم، أي»المعذّبون في الأرض«الصادر في عام 1961، عام رحيل مؤلفه. وكإشارة سريعة كان الفيلسوف الفرنسي الشهير عالميا جان بول سارتر هو الذي حرر مقدّمة ذلك الكتاب. مقالات ودراسات ومحتويات هذه ال»كتابات حول الاغتراب والحريّة«العمل الجديد، تتضمن مقالات ودراسات علمية كان فانون قد أعدّها بالتعاون مع آخرين بالنسبة لبعضها، وموجزا لأطروحته لنيل شهادة الدكتوراه في التحليل النفساني. تلك الأطروحة كرّسها فانون لدراسة»الاضطرابات العقلية التي تظهر على بعض المصابين بمرض عصبي عضلي وراثي«، كما يقول عنوانها. ويشرح فانون أنه لا يمكن إعادة حالة»الاغتراب«التي يعيشها الأشخاص المعنيون إلى»سبب عضوي حصرا«. ويشرح أن»كل إنسان يتجسّد ضمن إطار ما«. وبالتالي يعتبر أن»المريض يغدو غير قابل للشفاء بعيدا عن الروابط الاجتماعية، وفي حالة عدم أخذ الثقافة التي يترعرع في إطارها بالحسبان«. ومن مواد الكتاب أيضا مجموعة من النصوص التي كان فانون قد ساهم فيها بالمجلّة»الداخلية«في القسم، الذي كان يتولّى إدارته بمستشفى بلدة بليدة القريبة من الجزائر العاصمة، خلال سنوات 1953 1956. وفي تلك النصوص، يؤكّد على مدى التأثير الذي تمارسه»الأحكام المسبقة للطب الاستعماري الكولونيالي على ذهنيّة الجزائريين أبناء البلاد«. من هنا يوضح فانون الرابطة بين حالة»الاغتراب«المترتبة على الأمراض النفسية، وبين الواقع الاستعماري والمناخ الذي يفرضه.. ويضم الكتاب بالإضافة إلى ذلك، نصّين مسرحيين:»غرق العين«و»الأيادي المتوازية«. بجانب بعض النصوص التي كان قد نشرها المؤلف على صفحات صحيفة»المجاهد«الجزائرية الناطقة آنذاك باسم»جبهة التحرير الوطني«الجزائرية. ويحتوي الكتاب على بعض النصوص التي كان قد تمّ نشرها على صفحات صحيفة "المجاهد" الجزائرية الناطقة آنذاك باسم "جبهة التحرير الوطني" الجزائرية. والإشارة أن تلك النصوص لم يتضمّنها العمل الذي صدر عام 1964 بعد رحيل فانون تحت عنوان "من أجل الثورة الإفريقية" الذي ضمّ بعض كتابات فانون. إضاءة إن هذه المجموعة من النصوص المتنوّعة تلقي الكثير من الأضواء على شخصيّة فانون وعلى مساره التحرري. ومن خلال مجموعة النصوص التي يحتويها الكتاب يبدو أن فانون كان يجد رابطة حقيقية بين عمله في المجال الطبي»النفساني«وبين نضاله المناهض للاستعمار. ويؤكّد فانون في العديد من نصوص»كتابات حول الاغتراب والحريّة«أنه لا يمكن للمستعمرين أن يرضخوا للمطالب التي يجري تقديمها بصورة»استعطاف«لهم. ونقرأ في الكتاب ما مفاده : ليس هناك مسار عقيم أكثر من توجّه من يتعرّض للاضطهاد لعواطف مضطهديه. وليس هناك مثال في التاريخ أن استجاب استعماري لاستعطاف من يسحقهم. إن المصالح الماديّة لا تسمح بسماع صوت العواطف والحسّ السليم. وبصورة عامّة يؤكّد فانون في مختلف نصوص هذا الكتاب وبأشكال مختلفة أنه يناهض " نزع شخصيّة الإنسان كإنسان". ويعتبر ذلك بمثابة معركته الأساسية في الحياة. وانطلاقا من ذلك بالتحديد، أعلن تأييده غير المحدود للثوّار الجزائريين عندما انطلقوا بحرب تحرير بلادهم في مطلع شهر نوفمبر من عام 1954. كما أعلن من خلال كتاباته في مجال التحليل النفساني وفي السياسة والمسرح وفي مراسلاته مع أصدقائه وفي سلوكه كطبيب معالج، أنه يناهض كل أشكال "عزل البشر، وخاصّة المرضى النفسانيين، الذي يدفعهم نحو حالة اغتراب أكثر عمقا". وفي جميع النصوص المقدّمة يبدو بوضوح وجود "خط ناظم" يربط بينها، رغم تنوّع ميادينها، يمثّله "الموقف العنيد" المناوئ للاستعمار ولدفع الإنسان نحو "الاغتراب". موقف تبنّاه "فرانز فانون" في كتاباته، كما في سلوكه الحياتي.