لا اختلاف على أن الإبداع يشترط الحرية للمبدعين، لكن في الوطن العربي لا تتوقف سلسلة الانتهاكات لحرية الإبداع والتي باتت معهودة، فمازالت الإشكالية المتعلقة بالعلاقة بين الثقافة والسلطة قائمة إلى اليوم، حيث في كل مرة نعود لنسمع عن انتهاك جديد للإبداع، واضطهاد آخر لمبدع يضاف إلى قائمة سابقة مكتظة بمبدعين دفعوا حريتهم ثمنا لإبداعهم. حالة من الجدل احتدمت في الأوساط الثقافية المصرية إثر الإعلان عن حكم قضائي السبت الماضي ضد الكاتب والصحافي المصري بجريدة أخبار الأدب، أحمد ناجي، بالسجن لمدة عامين، بتهمة نشر مواد أدبية تخدش الحياء العام، وتغريم رئيس تحرير صحيفة "أخبار الأدب"، طارق الطاهر 10 آلاف جنيه مصري. كان ناجي قد نشر فصلا من روايته "استخدام الحياة" في عدد الجريدة الصادر في 3 أغسطس 2014، والتي رأت النيابة، في أمر الإحالة، أن "الاتهام ثابت على المتهم وكاف لتقديمه إلى المحكمة الجنائية بسبب نشره مادة مكتوبة نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة، وأجّر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجا على عاطفة الحياء". في المحاكمة الأولى لناجي، قضت المحكمة بالبراءة له من التهم الموجهة، خاصة بعد شهادة كل من الكاتبين صنع الله إبراهيم ومحمد سلماوي لصالح ناجي، واللذين أكدا أن الرواية خاضعة لخيال الكاتب بشكل كامل، ولا تجوز محاكمة الخيال بأي شكل كان، ليأتي الحكم ضد ناجي في الاستئناف المقدم من قبل النيابة. وإثر الإعلان عن الحكم، انتفض المثقفون في مصر ضد الحكم الصادر الذي اعتبروه انتهاكا صارخا لحرية الإبداع، وفكرا داعشيا يتسلل بقوة إلى المجتمع المصري ويفضي إلى محاكمة خيال المبدعين في المحاكم. وقد دشن عدد من المثقفين الشباب حملة إلكترونية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، بعنوان “احرق عملك الإبداعي”، وقد وجهوا من خلالها دعوة إلى المبدعين بجمع نسخ من أعمالهم الإبداعية، وحرقها أمام مقر دار القضاء العالي بالقاهرة، الثلاثاء الأول من مارس المقبل، كنوع من الاحتجاج الرمزي على الحكم المناهض لحرية الإبداع، كما دشن عدد من المثقفين صفحة على فيسبوك وتويتر بعنوان “ضد محاكمة الخيال”. الحكم بالسجن على الروائي أحمد ناجي بسبب عمل إبداعي ليس الأول من نوعه، فهي تهمة باتت شائعة في الفترة الأخيرة التي شهدت انتهاكات واضحة لحرية التعبير، ومن أبرزها الحكم الذي صدر على القاص كرم صابر في وقت سابق بالحبس خمس سنوات بتهمة ازدراء الأديان في مجموعته القصصية “أين الله” التي تعرضت لانتقادات لاذعة من الأزهر الشريف، فضلا عن المحاكمات الأخيرة لكل من فاطمة ناعوت وإسلام البحيري في مواجهة التهم ذاتها. حكم فاضح الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم، انتقد الحكم الصادر ضد ناجي قائلا: لا يصح بأي حال من الأحوال، ووفقا للدستور المصريّ نفسه، أن يُسجن مبدع على كلامه، هذا دور النقد فقط، والغريب أنه نال البراءة من محكمة، وفي الاستئناف نال السجن، هذه سابقة غريبة، علينا أن نتكاتف ضد مثل هذه الأحكام، وإلا صار كلّ المبدعين في مرمى السجن فورا؛ من كتب بشكل جيّد ومن كتب بشكل رديء. المثير للسخرية أن البعض من المثقفين أنفسهم يؤيدون القرار تحت مسمى أنها رواية رديئة، وهذا أغرب من الحكم نفسه، فحتى لو كانت كذلك، فهذا دور النقد لا دور المحكمة والسجن والتأديب والعقاب. من جانبه أكد الروائي أحمد شوقي أن الإبداع لا يمكن محاكمته بأي حال من الأحوال، والحكم الوحيد عليه هو ذائقة المتلقي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقف مبدع خلف القضبان بسبب كتاب أو رأي، والدولة التي يهدّدها كتاب هي دولة ضعيفة. واتفق الكاتب الصحافي جمال عبدالرحيم مع شوقي في ما ذهب إليه قائلا: أنا ضدّ الحبس في قضايا الرأي بصفة عامة، وتوجهت بصحبة النقيب لزيارة أحمد في قسم شرطة بولاق، وسوف نتقدم بمذكرة للنائب العام لوقف تنفيذ العقوبة. أما الروائي عادل سعد فقال : الحقيقة لا أعرف ما المقصود بخدش الحياء العام للأسف الشديد كل ما حولنا يخدش الحياء، الفصل المنشور فاضح فعلا، لكنه يصور جانبا مهمّا من قبح العاصمة وضياع شبابها بعد ضياع ثورتهم في يناير، هذا الفصل يمكن تفهمه إذا نشر داخل رواية للخاصة، لكن لا يجوز نشره في جريدة عامة وللكاتب الشاب الحق في التعبير عن حالة التيه والقذارة العامة لدى الشباب وللقاضي الحق في اعتبار ذلك جارحا. واستطرد سعد: جزء من المسؤولية يقع على ديسك أخبار الأدب والصديق طارق، وكان يمكنه بالاتفاق مع المؤلف حذف البعض من المفردات الصريحة أو تخفيفها في الفصل المنشور بالجريدة، وهو أمر متعارف عليه وكان يمكن للقاضي أن يتغاضى عن هذا الخطأ باعتباره غلطة صبيانية، النص فاضح فعلا والحكم فاضح أيضا. الفكر بالفكر الروائي محمود الغيطاني علق قائلا: يبدو الأمر لي وكأننا خارجنا لتوّنا من إحدى مسرحيات العبث التي قرأناها لصمويل بيكيت ويوجين يونيسكو، ولكن هذا اللون من العبث العصري أكثر وقاحة وقسوة بكثير ممّا تصوّره هؤلاء الكتاب الذين لو رأوا ما يحدث اليوم لتعلموا كيفية تطوير هذا اللون من الكتابة بناء على معطيات واقعنا المصري اليوم. واستطرد الغيطاني: أن يكتب أحد الروائيين رواية وتتمّ محاكمته أو سجنه أو حتى مساءلته، من أجل نص روائي يخضع للخيال فهو لا يختلف إطلاقا عن الداعشيين، الفارق الوحيد الذي أراه أن الداعشيين كانوا سيفصلون رأسه بتهمة الترويج للفجور، في حين أننا سجناه بنفس التهمة التي تطل برأسها علينا اليوم من القرون الوسطى، حتى لكأننا عدنا مرة أخرى في شكل نكوصي إلى هذه القرون. من جهته، قال الفنان التشكيلي عبدالرازق عكاشة: أعتقد أن مصر تمرّ بأخطر مرحلة في تاريخها الحديث لأنها تتنازل عن دورها الثقافي، وسجن ناجي وغيره هو مسمار في نعش أيّ حاكم لأنه إعلان صارخ عن دولة الجهل، وغرامة الطويل والحكم على ناعوت، أظن أن ذلك بداية لكشف وجه نظام سقط في امتحان الدرب الأحمر. في السياق نفسه أكدت الناقدة والكاتبة مروة مختار على تضامنها الكامل مع أحمد ناجي ضد الحكم الصادر في شأنه قائلة: أتضامن مع أحمد ناجي انتصارا لمبدأ حرية الكلمة والتعبير والفكر، وليس إيمانا مني بما كتب، الموقف نفسه مع الكاتبة فاطمة ناعوت ومع إسلام بحيري، فأنا أختلف معهم اختلافا واسعا، ولكني ضدّ سياسة ردع الفكر بسطوة القانون وتحريك الدعاوى والدعاوى المضادة وكأننا مازلنا في حاجة ماسة لسياسة الوصاية الفكرية والعقلية على كل ما يكتب وما ينشر. وتضيف: أدين فكرة الوصاية والمصادرة التي تشي بالعجز عن المواجهة، مواجهة الفكر بالفكر، كما أنها تعدّ مؤشرا خطيرا لعودة فكرة محاكم التفتيش، إن ما يحدث يعدّ إرهابا فكريا لكل من تسوّل له نفسه الخروج عن النص أيّا كان أو مجرد الاختلاف معه أو مناقشته، وإن القضية لم تقف عند أحمد ناجي فقط بل طالت طارق الطاهر رئيس تحرير أخبار الأدب.