"أنا شخصيًّا أظنّ أنّ الدّاء الذي أصابني عظيمٌ وفيه كلّ الإفادة. أظنّ أنّ داء الإنسانيّة عمومًا شيءٌ عظيم وفيه إفادة أيًّا أصاب وكيفما أصاب... ولكن يجب أن نجيد التعامل معه وأن نُحكم قبضتنا عليه وإلاّ هرب منّا وكففنا عن أن نكون ناسًا"(ص216)، بهذه العبارة الصاعقة ينسدل الستار على الفصل الأخير من رواية "السماء تهرب كلّ يوم"، الإصدار الأوّل للكاتبة كاتيا الطويل، عن دار هاشيت أنطوان (نوفل). في هذه الرواية الشيّقة، الصاخبة بالحوادث والشخصيّات، يجد القارئ أمام ناظريه سطورًا تختصر مشوار الحياة الحزينة، فيتجرّع كلمةً كلمةً، وصفحةً تلو أخرى آلام الدنيا، ليجد نفسه غارقًا في أحلام الشخصيّات نفسها، وفي عذاباتها. في هذه الرواية الزاخرة بالأحاسيس المتناقضة، يشعر القارئ كأنّه أمام اعترافات مقعدٍ خشبيٍّ "قابعٍ في ركنٍ منعزلٍ باردٍ في كنيسة صامتة"(9)، أمام مقعدٍ خشبيٍّ أعلن الخسارة والرّضوخ والاستسلام منذ اللحظة الأولى. قد يخال المرء، إثر قراءةٍ سطحيّة لبعض صفحات الكتاب أنّ الرواية تتناول "قضيّة" الفرار أو الهرب، وخصوصاً أنّ هذه العبارة تتواتر أكثر من مئة وعشرين مرّة في متن الكتاب ناهيك بالعنوان. إلاّ أنّ الهرب ليس سوى قناعٍ، يخبّئ في ثناياه وتجاويف مادّته قصصًا أعمق، وحكايات يسيطر عليها الصمت. إنّه الصمت القاتل، الصمت الجارف الذي يحمل معه أسئلة لا متناهية وإجابات غير متوقّعة، فوحده الصمت "لا يطلب حلولاً ولا اقتراحات، وحده الصمت لا يترك مجالاً لطريق العودة، وحده الصمت يقتل الإنسان والإله"(218). ووحده الصمت هو الذي دفع بشخصيّات كاتيا الطّويل إلى الهرب. صمت الشخصيّات جعلها ترضخ أو تنتفض، وفي الحالين كان الفرار السبيل الوحيد للخلاص. إمّا الهرب إلى الذات والغوص في الأحلام والذكريات والأعماق، وإمّا الهرب نحو مجتمعٍ لا يرحم، تالياً الانزلاق عن الذات والابتعاد عنها ووضع قناعٍ يغطّي الخوف، والقهر، والحرمان، والبؤس، والملل، والغضب، والرغبة. إنّه قناعٌ تُلبسه الكاتبة لشخصيّاتها المنمّقة، قناعٌ يختصر مجتمعنا اليوميّ الذي يرزح تحت وطأة الماديّة الجارفة. فشخصيّة الكاتبة الرّئيسة تلك الّتي تظهر في الفصل الأوّل وتعود من جديد في ومضاتٍ أنيقةٍ شفّافة طوال الرّواية "لم تكن تدري أنّها في أمسيتها الأولى في المدينة ستكتشف أعظم سرٍّ لم تطلعها الحياة عليه، وأسمى قانون يعيش به أهل المدينة الجافّة: المظاهر (47). فالشخصيّات الهاربة من ذاتها، لم تجد الطمأنينة في دنيا مليئة بالأوجاع، والصعاب، فغرقت في دوّامة البحث المضني عن سعادة زائفة، فانية، غير ثابتة، ذلك أنّ الموت وحده ثابتٌ، مستقرٌّ، مستقيمٌ، لا يتزعزع. للرواية فصولٌ سبعة، تتصارع فيها امرأةٌ هاربة من عائلة تقليديّة تريد منها الزواج قسرًا، فتاة هاربة من ريعان شبابها، من روتينها المحتضر، من اقتناعات الأفراد الراسخة، من القرية التي دفنتها حيّةً ترزق. هي رواية رجلٍ هارب من عائلة مسلمة متديّنة، وصبيّة حالمة تعشق الكتابة وتهوى القراءة والثقافة والفنون على أنواعها، وآخر سارق راح ينهب ما يقع عليه ناظره بعدما سرقت قلبه فتاة المسرح الهاربة، وآخر هارب من نظرات العائلة الّتي تذكّره يوميًّا بفشله فيلتجئ إلى الجماعات الإسلاميّة الّتي تستغلّ ضعفه، وغيرها من الشخصيّات التي تهرب من أناها مخافة المواجهة، فتقبع في صمتٍ قدسيٍّ، مدمّرةً أضغاث أحلام. وحده المقعد الخشبيّ لا يهرب، وحده المقعد الخشبيّ يظلّ صامدًا، صامتًا، ساكنًا، مصغيًا إلى حكايات هؤلاء. وحده المقعد الخشبيّ قادرٌ على الاستماع من دون إطلاق الأحكام الجارحة. وحدها عظام ذلك المقعد المهترئ قادرة على الشعور بتلك الكائنات المتصارعة، التي تتنازع في أتونٍ من نار. وحده المقعد الخشبيّ لا يزال يتنفّس على الرغم من أحلامه التي لم تتحقّق، ومن خيباته التي لم تنقص، ومن لعبة الحياة التي حطّمته. فتلك الشخصيّات الهاربة من قبرها، ستجد نفسها أسيرة قبرٍ آخر، ومثوًى دائم هو الحياة. أوليس الموت، هربًا نهائيًّا يسبق حالات الفرار الدائمة التي يتخبّط فيها المرء مع كلّ إشراقة صباح؟ صراعٌ مع الذات على الذات لا أسماء للشخصيّات، لا هويّات لها، لا مكان ثابتاً يجمعها سوى مقعد خشبيّ مهترئ في كنيسة من الكنائس. فالكاتبة جعلت من اللازمان واللامكان المسيطرين على معظم حوادث الرواية، ملجأً للهرب والفرار. وعلى أنّ وصف الشخصيّات، دقيقٌ ومتفانٍ، وأنيقٌ، يجعلك تشعر كأنّك في حضرة عالمٍ نفسيٍّ يدرك ثنايا الأمور ويستطيع أن يفكّك أصغر الجزئيّات القابعة في نفوس تلك الشخصيّات وعقولها، فإنّك في أحايين كثيرة تتفاجئ لهول الحوادث وتشابكها، واتّصالها الوثيق. فالفصول التي تبدو متفكّكة، تروي قصصًا منفردة، ومنعزلة، سرعان ما تلتحم لتشكّل وحدةً تجتمع فيها الشخصيّات تحت لواء صراعٍ مع الذات، نتيجته الحتميّة الهرب والفرار. فالأمكنةكثيرة، والأزمنة متعدّدة قوامها الرجعات الزمنيّة والاستباقات التي تغني الحوار الداخليّ وتضيف عنصر التشويق الذي يدفع بالقارئ إلى معرفة مصير شخصيّاته. يبقى الغموض سيّد الموقف، وسرعان ما يتحوّل إلى عنصرٍ مؤجّجٍ للعواطف والأحاسيس المختلفة. فأنت تدرك تمام الإدراك أنّ الفتاة هربت من قريتها، ونزلت إلى المدينة، وأنت تدرك أنّ الشاب يعيش في حيٍّ شعبيٍّ من أحياء العاصمة المكتظة. إلاّ أنّ الغموض يلفّ هذه الأمكنة، وكأنّ الكاتبة هربت من الأسماء، من الهويّات القاتلة، ومن المكان، ولجأت إلى اللازمان، إلى اللامكان، إلى التعميم. فشخصيّاتها بحوادثها التي تتناول الزواج، والحبّ، والموت، والمرض، والبعاد، والخوف، والنّجاح، والفشل، والصباح، والفصول، والسفر، والبقاء، والمظاهر، والترف، والفقر، والدّين، كلّها جعلتها في بوتقة واحدة، تحت جناحي مقعدٍ خشبيٍّ، أمام صورة سيّدٍ صامتٍ "ما زال وجهه على حاله... لا مبالٍ...دومًا"(261).ليست من باب المصادفات أن تفتقر تلك الشخصيّات إلى أسماء، إلى هويّات، إلى جواز سفرٍ يتيح لها التحليق خارج السرب، إلاّ أنّ هذه الميزة هي التي ستسمح للشخصيّات بأن تكتسب صورتها شبه النهائيّة. ستتطوّر شيئًا فشيئًا، ثائرةً على التقاليد، غاضبةً من الفوضى، عازمةً على التغيير. فهل يكون التغيير بالهرب؟ أم بالمواجهة؟ بالصمت؟ أما لرّضوخ؟ أيكون بالبكاء والإذعان؟ لقد صغُرَتْ شخصيّات الكاتبة أمام الألم، والخوف، مُلاحِقةً توابيت الضياع في حياةٍ يكمن سرّها في الهرب الدائم من الذات. حبٌّ متزعزعٌ وعشقٌ مؤلم يعتبر نابوليون بونابارت إنّ الانتصار الوحيد في مضمار الحبّ، إنّما هو الهرب. هكذا بالنسبة لموقف الكاتبة من الحبّ في روايتها، ذلك أنّها بيّنت من خلال شخصيّاتها قصص حبٍّ جلّها لا يدوم. فالحبّ يُحَبّ لذاته لا للحبيب(20): "أحبَّها قبل أن يتمكّن من الهرب [...] وما دخلي إن لم يخبره أحد أنّ الحبّ والزواج حالتان مختلفتان... الحبّ قد يقضي على الزواج، والزواج قد يقضي على الحبّ"(131). تعالج كاتيا الطويل مسائل كثيرة من بينها مسائل الهوى والهيام. الهوى الذي يدمّر البيوت والمنازل "فالبيت هو الحبّ، هو الأمّ، هو الأب الّذي يحنو والشقيق الذي يدافع. البيت هو الحماية والأمان، والمنزل حجارة ورسوم"(80). مايزت الكاتبة بين حالات العشق الجارف الّذي يدمّر المرء، وحالات الحبّ القانع الراضخ. وتناولت قصص الهرب من الذات، بحثًا عن حبٍّ، عن حبيبٍ، عن أمانٍ، عن دفءٍ، بحثًا عن طفولة ضائعة وأحلام محطّمة، لم تلبث أن اصطدمت بالواقع المرير. إلى جانب الحبّ، تعنى الرواية بوصفٍ دقيقٍ، متأنٍّ لكلّ المشاعر الّتي تصحب الحبّ، وتدمّره بدءًا بالأنانيّة، مرورًا بالشكّ، وصولاً إلى الكره. لقد مثّلت شخصيّات الرواية مجتمعةً الإنسان الحالم، والمنتفض، والثائر، الذي يبحث عن حريّته بين أشلاء ذاته، من دون أن يدرك أنّه سرعان ما سيصبح عبدًا لتوقه الآسر إلى الحرّية. ارتسمت شخصيّات الرواية، وحيدةً في مواجهة ألمها، فكان المقعد المهترئ القابع في ركنٍ من أركان الكنيسة الملجأ، والخلاص. لم تكن الكنيسة، بل المقعد، لم يكن الإله، بل ثنايا الخشب البارد الذي شعر بكلّ قطرة دمعٍ أهرقت، وبكلِّ تململٍ وحسرةٍ شعر بها ضيوف هذا البيت (أي الكنيسة). فأن تكون في عزلةٍ بالنسبة إلى ريلكه "نعمة كبرى بشرط أن يكون ما يكفيك من طعام الأحزان! أن تكون وحدك مع حزنك، هذه نعمة أكبر بشرط أن يكون لديك ما يكفيك من سلام العظمة والسموّ إلى ما فوق الإنسان"... إلى سماءٍ تهرب كلّ يوم!