الجمال سمته الصمت الناطق، منه ما يخطف الألباب وتنصت له الآذان، ومنه ما لا تلحظه. وحال كلامنا عن الجمال المدفون، لابد أن نتذكر ذلك المشهد التمثيلي؛ فهو بلا شك من المشاهد الحاضرة بقوة لمن دقق ووعى. وهذا عندما كانت تعزف الفرقة الموسيقية والسفينة "تايتانيك" تغرق. فقد أبدع المخرج "جيمس كاميرون" في هذا المشهد من فيلم (تايتانيك)، وطرق الجمال بطريقته هو لا غيره. فالسفينة تتجه إلى حتفها الأخير، والمعزوفات الموسيقية لا تنقطع بهمة عازفين أرادوا عيش لحظاتهم الأخيرة وهم يفعلون ما يحبون. هؤلاء العازفون عزموا على اقتناص الجمال من فم الموت غير آبهين بمن يستمع لهم، لأن الجمال منبعه الذات. فلعلهم أيدوا إيليا أبوماضي في بيت شعره: (والذي نفسه بغير جمال ... لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً). إلا أن العلة في جموع الناس التي كانت تتدافع من حولهم دون اكتراث للجمال الذي يصل آذانهم. صراع البقاء شتت أذهانهم عن الجمال في لحظاتهم المتبقية. ربما هذا المشهد يقارب التجربة التي أجراها عازف الكمان (جوشوا بيل) من عدة نواح. فقد عزف مقطوعات موسيقية لبيتهوفن في محطة مترو أنفاق، والمفاجأة كانت عندما لم يلتفت إليه المعظم مع أن جمالية الموسيقى غدت تتسلل إلى آذانهم في تلك الأثناء. المحصلة هي وقوف ستة أشخاص فقط للاستمتاع بموسيقاه، ودفع المال من قبل عشرين آخرين على عجل، وتلك الغلة من بين مئات البشر الذين تقاطعت طرقهم مع جوشوا في ذلك اليوم. وإذا أردنا تجميع هذا كله، نصل إلى نتيجة مفادها أن هناك جمالاً مخبأ بين ظهرانينا دون أن نعلم، ويذهب سدى من غير إدراك. وهو يقودنا إلى مقولة توفيق الحكيم: (ما قيمة الموجود إن لم يكن معلوما؟!). فالقيمة متحققة في الثمين، ولكنها متحققة أكثر فور علمنا لنفاسة المعدن الذي نحن بصدده. ولعل من المؤسف علمنا غالباً بقيمته بعد حلول الفوت واختفاء الصوت. ومن هذا القبيل تقديرنا للمبدعين بعد موتهم، وتوزيع أكاليل الورود على قبورهم في محاولة لتوسية النفس على ما فقدناه. فمن اشتهر من العمالقة بعد موتهم عدد ليس بالهين الذي نستطيع تجاوزه وقد أخذتنا العزة بالإثم. فكافكا الكاتب التشيكي ذاع صيته بعد أن كان جسده في التراب، وعالم الوراثة ميندل ما فطنّا لأهمية أبحاثه إلا وروحه في مكان آخر غير الأرض. ومثل ذلك، العازف المبدع "فيفالدي" الملقب بالراهب الأصهب، ومعزوفته الفصول الأربعة التي باتت مستخدمة في كثير من مناسباتنا الاجتماعية كباب ترحيب أو فاصل توديع. عندما ألف فيفالدي تلك المقطوعة، خاطب الجمال في فصول الربيع والصيف والخريف والشتاء بإبداعية لافتة. لاقت حينئذ استحساناً لكنه لا يقارن باستحسان اليوم، وكانت جنازته متواضعة انصرف عنها المعجبون. اختفى حضور أعماله قرنين من الزمن، وتم اكتشافها بالصدفة في أحد الأديرة الإيطالية موضوعة على الرف يعلوها الغبار تنتظر تقديراً ما في زمن ما. ونستمر في مكابرتنا ونحن نتحسر على الماضي الجميل، وهي ليست أكثر من خرافة نرددها بغية التعلل بالجميل من القول. فالجمال نسبي، وحقب الأزمنة الكاملة المثالية غير موجودة. فنحن نجعل من الحاضر "ديستوبيا"، ومن الماضي "يوتوبيا". أي أن حاضرنا مثالي الكآبة والبؤس وماضينا مثالي الفرح والهناء، والواقع أن كل زمن فيه جمال وقبح بنسب مختلفة، ووصول الجمال إلينا فقط من الماضي لا يعني أن القبح كان خلالها مفقوداً. الماضي الجميل ما هو إلا كذبة نعيشها لتبرير الواقع والفرار منه، واللجوء إلى تمثيلية قوامها الماضي المكتمل الذي لا تشوبه شائبة. نصبغ الماضي بجمال مترف، ونفر إليه فراداً وجماعات. فالخير والشر دوما متواجدان ومتصارعان، ولم يصل إلينا علم عن زمن كان فيه الخير هو الحاضر الأوحد، حتى عند بدء الخلق. حسد قابيل هابيل وقتله، فبان شر قابيل وظهر خير هابيل. فكما يقولون الشيء يعرف بنقيضه، ولولا الظلام لما أدركنا أهمية النور، ولولا الشر لما عرفنا كنز الخير. فنحن نندب حاضرنا، ونعلي من شأن ماض ذهب في حال سبيله. وفي خضم ندبنا نغفل عن الجمال الكامن الذي نمتلكه، فلا نملك بعدها ماضياً أو حاضراً أو مستقبلاً. فنحن نميل إلى الخرافات التي تجعل من العيش ذي طعم مختلف، فنعيش الطعم الجديد المصطنع ونهمل الطعم الأصلي. فالزمن الجميل هو الذي لم يقبل بعد، وينتظر أذرعاً تجعله حقيقة ماثلة أمام العيون.