القصص والروايات التي تُكتب لسد ثغور الواقع، أحيانا تتجاوز حدودها وتنتج آثارا غير متوقعة، تماما كما يحدث معنا في رواية «صلاة لأجل المفقودات». الرواية التي كُتبت بلسان وإدراك طفلة، أيضا كتبت بيد تخييلية خفية رشيقة تدعونا لقراءة هذه الرواية، الصادرة حديثا عن دار الجمل ترجمة عبير مرعي، دونما توقف. في ريف مقاطعة غيريرو في المكسيك، المكان الذي يُعد مسرحا ناشطا لعصابات المخدرات التي دمرت المجتمعات الصغيرة الريفية من المنطقة، حيث كل الناس تجار مخدرات بمن فيهم البوليس بالطبع، والمحافظ وحتى: «الرئيس اللعين كان رجل عصابات لأنه يسمح لكل تلك الاسلحة التي تستخدمها العصابات للفتك بالناس». كما كانت تقول ريتا والدة بطلة الرواية «ليديدي". سمّت والدة «الطفلة الراوية» ابنتها، «ليديدي» على اسم الأميرة ديانا، ليس لأنها تشبهها أو لأنها معجبة بالليدي دي كما كان يطلق عليها قبل وفاتها، بل لأن الام المغدورة والمهجورة من قبل زوجها كانت تراها من النساء التعيسات، رغم كل الرفاهية التي عاشت بها ديانا. كانت تقول عنها «لو وُجدت قديسة النساء المخدوعات فيجب أن تكون ليدي ديانا»، وتعتبر أن اسمها هو انتقام أمها من أبيها، الذي هجرهما وغادر الى الولاياتالمتحدة ليعيش حياة أخرى مع عائلة جديدة. الرجال هناك يعبرون النهر الى الولاياتالمتحدة. يذهبون للعمل ولبدء حياة جديدة يرسلون مالا لمرة أو مرتين ثم ينتهي الأمر. هكذا فإن تلك القرى الريفية كانت تجمعات من النسوة يعملن وهن يسوّدن أسنانهن بالفحم ويشوّهن وجوههن حتى لا يكنّ ضحايا عنف الرجال الوحيدين الموجودين في الجوار. يقطنون سيارات الدفع الرباعي ويركبون دراجات نارية ويظهرون فجأة من العدم ببندقية إي كي 47 معلقة على أكتافهم، وكيس من الكوكايين في جيب الجينز الخلفي وعلبة مارلبورو أحمر في جيب القميص الأمامي. يرتدون نظارات شمسية ماركة ري بان. أسوأ شيء يمكن أن تمسكه نبتة ماريوانا، أو بندقية، ورجال المكسيك يمسكون بالشيئين معا، كما تقول والدة ليديدي. "هنا قصتنا، لكنها قصة كل الناس"، تقول ليديدي الفتاة التي تطلعنا على الواقع المرير من خلال حياتها بين صديقاتها المقربات، باولا، ستيفاني، وماريا. الفتيات الصغيرات اللواتي يذهبن للمدرسة وشعرهن مقصوص وقصير وبثياب صبيان. ما عدا ماريا التي ولدت بشفة أرنب لذلك لم يقلق والديها من أنها تسرق. الطفلة «ليديدي» كانت صبيا معظم الوقت، حالما وِلِدَت، رفعت أمها الصلاة ل «الرب ومريم العذراء» لأنها ولدت صبيا. بالرغم أن أحدا لم يُخدع. في جبل لا يولد فيه إلا الصبيان، وبعضهم يتحول إلى فتيات في حوالي الحادية عشرة من العمر. ثم على هؤلاء الصبية التحول إلى فتيات بشعات ويجب عليهن أحيانا الاختباء في جحور في الأرض. كانت أمها تناديها «بوي»، كان عليها أن تكون صبيا، وإلا فإنها ستُسرق، لا يتطلب الأمر من مهربي المخدرات إلا أن يسمعوا أن هناك فتاة جميلة في الجوار، حتى يجتاحوا الجبل بسياراتهم الايسكيلاد السود ويخطفوا الفتاة. ما إن يسمع أي صوت سيارة دفع رباعي يقترب، حتى تهرب كل الفتيات إلى الجحور. ولا فتاة من اللواتي سُرقن عادت أبدا، أو حتى أرسلت رسالة. باولا كانت حياة الفتيات تسير على ما يرام، لكن وجود طفلة جميلة جدا اسمها «باولا» جعل المكان كله مهددا بقدوم سيارات الدفع الرباعي. أم باولا هي صاحبة فكرة جحور الاختباء. ما إن يسمع أي أحد صوت سيارة دفع رباعي يقترب، أو يشاهد بقعة سوداء على البعد أو اثنتين أو ثلاث بقع سوداء، حتى تهرب كل الفتيات إلى الجحور. كانت باولا في سريرها مستغرقة في النوم، كان وجهها مغسولا ونظيفا وشعرها مربوطا بشكل جديلة، كانت نائمة بعمق عندما اقتحم رجل المخدرات منزل باولا، كان فقط يريد إلقاء نظرة متمعنة عليها، أراد أن يستوثق أن الشائعات صحيحة وقد كانت صحيحة، بعد عام حالما بلغت الرابعة عشرة من عمرها جاؤوا بشكل نظامي وأخذوها من منزلها وهي ملفوفة فقط بمنشفة لأنها كانت خارجة لتوّها من الحمام. باولا التي تشبه جينيفر لوبيز لكن أجمل منها، اختفت لتكون حبيبة من كان يسمي نفسه "آكل لحوم البشر" الجغرافية لا تقل وحشية عن رجال العصابات في مقاطعة غيريرو. أرض حارة لأشجار الكاوتشوك. والأفاعي، والإيغوانا والعقارب، العقارب الشقر الشفافة، ونمل، نمل أحمر يجعل الأذرع تتورم وتبدو مثل الساق. منطقة منسية متروكة للعصابات، حتى مدارسها لا تحظى بمدرسين، قلما يزورهم أستاذ ويكمل عامه الدراسي. حتى الأطباء اذا حدث وزاروا تلك المقاطعة فإنهم يأتون برفقة موكب من الجنود لحمايتهم من مجابهات مهربي المخدرات العنيفة. لا يتوانى رجال تلك العصابات عن اختطاف المزارعين من حقولهم لإجبارهم على قطف محصول الماريوانا. لهذا اختفت الحقول وظل المكان أسير وحشية الطبيعة والعصابات. "إن كل ما هو ممنوع يتحول، في النهاية، الى أغنية"، تقول والدة ليديدي، وجينيفر كليمنت كاتبة هذه الرواية حولت مأساة المكسيك إلى أغنية في روايتها هذه " صلاة لأجل المفقودات" بسبب الخراب القمعي، يتأصل النفور من المكان، من الوطن، لهذا تهرب ليديدي دي ومع والدتها وماريا من المكسيك، بقرار تتخذه الأم التي تثرثر، وتسكر، لكنها تمتلك الحس السليم الذي سيكون منقذا لابنتها وهي تقول: "سوف أغسل كل صحون في الولاياتالمتحدة". جينيفر كليمنت كتبت نصا تعقبت من خلاله العنف في عقر داره، مستثمرة فعالية الكلمات والصور، وبنفس الوقت لم تستغن عن التأثيرات البنائية التي تؤدي دورا نشطا في السرد من خلال تقسيم الرواية إلى جزأين، جزء لطفولة ليديدي وجزء لبداية نضجها كإمرأة. تحمل الرواية أيضا بعدا وجوديا من خلال أحاسيس الطفلة التي تغادر المكسيك وهي تحمل شعورا غامضا، عميق الغور، غير ثابت، متناقض في الوقت نفسه، قوي، تجاه الحياة في الجبل.