هل تعرفون ما هي "الأوبلوموفية"؟ ربما كان كثر يعرفون وربما أكثر منهم لا يعرفون. لكننا إذا اجتزأنا من الكلمة مقطعًا وحصرناها في "أوبلوموف"، لا شك أن عدد الذين سيعرفون سيكون أكبر بكثير. ف"أوبلوموف" هو اسم واحدة من أشهر الروايات الروسية في القرن التاسع عشر. وأوبلوموف هو، بالطبع اسم شخصيتها الرئيسية. بل هو بالتأكيد واحد من أشهر الشخصيات في الأدب العالمي. وأكثر من هذا هو واحد من أشهر الأسماء في "تاريخ الكسل" في العالم. كسله يتجاوز ومن بعيد حتى كل المواصفات التي يوردها بول لا فارج، صهر كارل ماركس، في ثنايا كتابه الأشهر "الحق في الكسل". فإذا كان لافارج يعيد النضالات العمالية وكل الإيديولوجيات المرتبطة بها إلى مطالبة الناس بحقهم في الكسل دون أن يمنعهم ذلك من الحصول على كل متطلبات العيش، فإن أوبلوموف لا يتوقف أبدًا عند تلك "الصغائر الإيديولوجية" ولا يطالب بشيء ولا يناضل من أجل شيء. كل ما في الأمر أنه "يمارس حقه في الكسل" دون أن يبالي حتى بجعل ذلك دعوة أو مذهبًا أو مثلًا أعلى. إنه كسول والسلام. وهذا ما يقودنا إلى "الأوبلوموفية" التي لا علاقة لبطلنا لا بصياغتها ولا بأي دفاع عنها. فقط صاغها الناقد الروسي الكبير دوبروفسكي مستندًا إلى حياة أوبلوموف كما صوّرها غونتشاروف في روايته. ويقينًا أن أوبلوموف ما كان من شأنه أبدًا حتى أن يزعج نفسه بالتساؤل عن تلك النظرية التي صيغت حول اسمه. لو فعل لنسف كل شيء: النظرية والرواية والشخصية ولما كان هناك هذا العمل الأدبي الكبير الذي وصفه تولستوي يومًا بأنه "تحفة كبرى" وقال عنه دوستويفسكي أنه "رواية خدمتها موهبة براقة". رواية أم حالة سلوكية؟ قد يبدو الكلام السابق كله في نهاية الأمر أشبه بأحجية ولذلك نوضح: ما نتحدث عنه هنا رواية روسية صدرت للمرة الأولى في العام 1858، لتحدث قفزة في الأدب الروسي، ولكن كذلك في الأخلاق المجتمعية الروسية وتترجم إلى عدد كبير من اللغات من فورها، ثم تُقتبس في المسرح والفنون التشكيلية وتُحاكَى من قبل أعداد لا تحصى من الكتاب. ثم حين يطل القرن العشرين وتنطلق فيه السينما، تقتبس في أفلام عديدة وما إلى ذلك. أما الأوبلوموفية فقد أوصلت الرواية إلى الذروة إذ حولتها إلى أساس مذهب يقوم على فكرة الكسل المطلق. وكل هذا وحبكة الرواية في غاية البساطة تتراوح بين الهزل والميلودراما، متّخذة من حياة شخصيتها الرئيسية محورًا لها. وهي إلى هذا رواية مسلية وشيقة ما إن يبدأ القارئ بقراءة صفحاتها الأولى حتى يغرق فيها لينهيها فيما يخالجه شعوران: أولهما الدهشة أمام هذا ال"أوبلوموف" الذي إذ تيسّرت له كل راحة العيش والظروف والثروة المؤاتية، رمى كل ذلك جانبًا – تاركًا المبتزين يبتزونه حتى يخسر الكثير دون أن يبالي -، منصرفًا إلى فعل.... لا شيء مصرًا على كسله حتى رحيله هادئًا ساكنًا وهو موقن من أن رحيله هذا سيؤمن له متابعة فعل اللاشيء إلى أبد الآبدين، من ناحية، وشعور بالغيرة من هكذا شخصية متضافرة مع رغبة في التماهي معها حتى وإن لم تكن لدى الغيور لا الإمكانات ولا الوقت الكافي لذلك! لا شيء يهمّ ولنعد هنا إلى حبكة الرواية بعد أن بات موضوعها واضحًا، وبعد أن صار في إمكان القارئ أن يتخيّل الأثر الكبير الذي تركته في المجتمع الروسي بالتواكب مع ما استخلصه دوبروفسكي منها كمذهب أدبي – أخلاقي وسلوكي لا يزال حتى اليوم يداعب مخيّلات كثر من الناس في روسيا وحول العالم. تتحدث الرواية كما بتنا نعرف، عن الشاب أوبلوموف الذي ورث أراض شاسعة وأقنانًا وثروة كبيرة لكنه لم يرث أية رغبة في إدارة هذه الأملاك وتدبير شؤون الأقنان وحتى الانصراف إلى تبذير الثروة. لا شيء من هذا كله يهمه. كل ما يهمه الجلوس أو النوم في غرفته لا يتحرك ولا يفكر بل حتى بالكاد يفتح فمه ليتكلم. وهو إن اضطر لأن يسوي شأنًا من شؤونه سيفعل إنما دون أن يبارح الغرفة – وبالتالي صارت الغرفة نفسها، مع مرور الزمن، جزءًا من الأوبلوموفية ورسمها عشرات الفنانين في عدد كبير من اللوحات -. غير أن مشكلة بطلنا تكمن في أن لديه صديقًا من أصل ألماني درس معه وشبّا وترعرعا. وهذا الألماني، أندري ستولتز محب للعمل ديناميكي، كما يفترض بكل ألماني أن يكون حتى ولو صار روسيًّا منذ زمن طويل. ولا يتوقف ستولتز هذا عن محاولة "إنقاذ" صديقه من وضعه الذي ينذر بانهياره في رأيه. ومن هنا إذ شعر أن كل كلامه ونصائحه لن تجدي نفعًا، يقرر أن الحل لن يكون إلا من طريق امرأة. هكذا يعرّفه على فتاة مثقفة وحسناء من عائلة ثرية تدعى أولغا. وبالفعل تبدو الخطة ناجحة... أول الأمر على الأقل حيث يفيق أوبلوموف لوهلة من كسله العدمي ويقع في غرام أولغا التي سرعان ما تبادله عواطفه مقتنعة بالكلام الجيد الذي يقوله ستولتز عنه أكثر مما بانجذابها اليه. لكن هذا الانجذاب سيتحقق، وستشعر أولغا أنها تحب أوبلوموف. هنا يبدو كل شيء في أحسن حال ولكن حين تلوح ساعة الحقيقة يعود إلى صاحبنا كسله بأفدح مما كان في أي وقت مضى. وهكذا بدلًا من أن يقترن بأولغا التي لا تخفي أنها ستحاول إصلاحه، يفضل الاقتران بالأرملة لاغافيا التي كان استأجر لديها شقة خلال إقامته في سانت بطرسبرغ. والحقيقة أن ما جذبه إلى تلك الأرملة كان شيئًا واحدًا: كانت الوحيدة التي لم تتوقف عن امتداح كسله والإيمان بعظمة القرار الذي اتخذه بألا يفعل شيئًا في حياته. إذا هي بالنسبة إليه المرأة المثالية التي يصحّ أن تشاركه حياته الوديعة الساكنة. أما أولغا فإنها تفعل هنا الشيء المنطقي: تتزوج ستولتز بعدما عادت إلى الالتقاء به صدفة خارج البلاد عندما هاجرت وقد يئست من حال أوبلوموف. وإثر ذلك تتطور الأحداث بمنطقها الخاص: تنجب أغافيا ولدا لأوبلوموف يسميه هذا أندريه على اسم صديقه الألمانيّ الوفي الذي إذ يئس من متابعة أية محاولات إضافية مع صاحبه يغادره ليعيش حياته، فيما يشيد أوبلوموف لنفسه عزبة جديدة بعدما كان رفاق السوء قد انتزعوا منه القديمة دون أن يحرك ساكنًا. وسيسمي هذه الجديدة أوبلوموفا... فقط لأنه لم يجد في ذاته نشاطًا فكريًّا يمكّنه من العثور على اسم آخر! الموت السعيد في هذه العزبة الجديدة التي ستكون غرفته – مقره الدائم - فيها أكثر فوضوية من غرفته الشهيرة السابقة رغم بعض الجهود التي تبذلها أغافيا.... عن غير قناعة، في هذه العزبة إذًا سسيتابع أوبلوموف حياته تحت رعاية أغافيا التي تطعمه وتشربه كما لو كان طفلًا حريصةً على ألا يحتاج شيئًا. وهو لا يحتاج إلى شيء على أية حال وسيظل كذلك راضيًّا عن مصيره جامدًا في مكانه منصرفًا عن أي هم أو إعمال فكر باستثناء إيجاده في نهاية الأمر اسما لحالته "الغريبة": أوبلوموفيتيس. وهنا ستكون نهايته استمرارًا طبيعيًّا لحياته: سيموت في سريره نائمًا... ولا شك أن آخر ما فكّر فيه كان اليقين بأن موته ليس سوى تواصل مريح لنومه الطويل. ولد إيفان غونتشاروف في سبرينسك العام 1812 ليرحل العام 1891 في سانت بطرسبرغ التي عاش فيها معظم سنوات حياته. وهو عمل في الصحافة وخاض الكتابة باكرًا، بعد أن تلقى تعليمه في موسكو. وفيها تعرف على ليرمنتوف الذي لم يعره انتباهًا ما أثّر في كاتبنا وجعله يقرر أن يخوض الكتابة حتى يتفوق عليه. وهكذا بعد أن ترجم كتبًا من الفرنسية ثم توظف مترجمًا في وزارة المالية ما أتاح له وقتًا مكنه من البدء في كتابة القصص والروايات، أنتج منذ العام 1844 عددًا لا بأس به من الأعمال مثل "حكاية عادية" و"المرض الرهيب" و"الفرقاطة بالاس" لكن أيًّا من أعماله لم يُشتهر شهرة "أوبلوموف" طبعًا.