في أبطال رواية خليل الرز “بالتساوي” الصادرة عن دار الآداب، تظهر “الأبلوموفية”، نسبة إلى شخصية أبلوموف للكاتب الروسي إيفان غونتشاروف، من خلال محاولة بطليه الخروج من ذلك المنعطف. والتناص مع هذه الفكرة، لا تخفى ملامحه في هذه الرواية، كما لا يخفيها في روايات سابقة للرز. درس الرز الأدب الروسي في معهد الاستشراق في موسكو خلال ثمانينات القرن الماضي. وهذا سبب أول للاعتقاد أنه لا ينجو أيضا من التناص مع روايتي دستويفسكي “مذلون مهانون”، و”ذكريات من منزل الأموات”. السبب الثاني لميل الرز إلى التناص مع الأدب الروسي يأتي من تشابه حياة بطله الأستاذ سميع مع الحوار الجواني الذي عاشه أبلوموف في رواية غونتشاروف. كما نجد في المونولوجات بين عبدالهادي وسميع، التي قلما تأتي على شكل حوار، ما يشبه الحوار الصريح بين أبلوموف وشتولتس. في “أبلوموف”، هنالك تأكيد على ربط القول بالعمل، والتقيد بمقاييس أخلاقية صارمة. لكننا نجد في “بالتساوي” محاولات للخروج من النمطية والقيود الاجتماعية، وسعيا إلى كسر القواعد الأخلاقية. يستعير الرز عنوانا لروايته “بالتساوي”، بدلا من “الموت بالتساوي”، مثلا، حاذفا دلالة الموت المتاح دائما في سوريا، وبوفرة الآن. وأذكر أنني قرأت أن الاسم الأولي للرواية كان “بالتساوي الممل”؛ “ثمة أشياء في الحياة هي بالتساوي لكل الناس، كمقعد في حديقة عامة، أو في صالة سينما، أو رصيف حيث هو لكل الذاهبين، مثلما الشارع لكل السيارات، وإشارات المرور…”. هو الموت، ودفعة واحدة في الواقع، بعد أن عاش السوري حياته وهو يدفع الأقساط المتزايدة منذ خمسين سنة، لذلك كان موت الأحلام، حتى بشروطها المجحفة التي يميل الكاتب إلى جعلها كوميديا سوداء. “فكَّر الأستاذ سميع أن الإنسان، رغم كل شيء، يبلغ أحيانا التاسعة والأربعين من عمره هكذا دون مقدمات، وأنه لن يصبح مديرا”. أحداث الرواية رهن اللعبة التي يحبها خليل الرز خلال رسم مصائر شخصياته، حين تأتي غريبة مدهشة على غير توقع ذي صلة بحياتيْ بطليه. فالأستاذ سميع يعيش في حي الباشا في غرفة مستأجرة عند السيدة بهيجة. يعمل في المديرية العامة لاستنهاض التراث العربي، ويحلم أن يتقاعد مدير الهيئة ليحل محله، وهذا كل شيء. أما عبدالهادي فهو الابن البكر لتاجر دمشقي يحاول أن يتمرد على الأب، لكنه يظل مشدودا بالوفرة المادية التي يتيحها له وضعه كابن تاجر. وهذا كل شيء، أيضا، بالنسبة إلى عبدالهادي. بطلا الرواية يعيشان حريتيهما كمونولوجات أكثر مما اختبرا الحرية كديالوغات مع محيطهما الحي، وغير الحي. وقد كانا يبحثان عن حرية ما، وفق شروط مختلفة لحياتيهما، وكانا يحاولان الخروج من معتقل مفتوح، أو هما قد ظنّا أنهما خرجا منه. هما صديقان غير متكافئين في السن، التقيا في الجامعة ليتشاركا الهذيان الداخلي نفسه، مشدودين إلى ماض لم يصنعاه، بينما يحلمان أن يتساويا في واقع لم يعيشاه بعد. بين حلميهما وواقعيهما تكمن أحداث الرواية التي تتحرك في مسارين متساويين. صحيح أن الحياة مجموعة مصادفات قد تبدو للمتعجل بلا معنى، إلا أن خليل الرز يرتب هذه المصادفات ضمن شروط روائية تلتزم فوضى الدومينو، فالمصادفات هي ما تتحرك ضمنها الشخصيات وتلتقي وتتباعد، فالرز يمسك بخيوط حكايته ومصائر شخصياته التي يبدو في الظاهر أنها مليئة بالمفارقات لكنها في النهاية تجتمع وتتلاقى لترسم مصير الإنسان التواق إلى الحرية والغد الأفضل. وقد أكد الرز أن في روايته هذه معاني مشابهة لما سبق أن صاغها في روايتيه “سلمون أيرلندي”، و”أين تقع صفد يا يوسف”، حيث يشبه مصير بطله مصير السلمون الذي يعاند تيار النهر عائدا إلى حيث عاش آباؤه، حاملا في بيضه تلك الذاكرة عن مكان لم يعش فيه قط. هنا، للسمك ذاكرة تضيء، أوضح من غريزة وأدق من خريطة. تكسَّر بعض السمك وهو يعاند التيار على صخور النهر، وقذف التيار بالضعيف منه إلى جروف شحت مياهها، لكن كوكبة من السمك نفذت وصية أجداد نوعها وعادت لتضع بيضها في المكان المحدد. وعبدالرحمن، في “أين تقع صفد يا يوسف”، اعتقد أن بذرة الكينا التي بدأت تتشكل شجيرة في باحة بيته ضعيفة بحيث يمكنه اقتلاعها بضربة من بوز حذائه، لكنه أجَّل ذلك فكبرت الشجرة واحتلت الباحة، ناشرة ظلها، ومزاحمة غرف البيت حولها، مستضيفة أنواعا من الطيور بين أغصانها. إذا استعنا بالدلالات السائلة للمكان والزمان الروائيين عند خليل الرز، كان بطلا روايته: الأستاذ سميع، وعبدالهادي، يسيران بجسدين دافئين حيين بيولوجيا ينتظران حرية ما. ولذلك يبدو الزمان والمكان عنده أقرب إلى نقلات العين السريعة في أول لحظات النوم وتشكل المنامات. هنا، فعل الرز في “بالتساوي” ما فعله في روايتيه السابقتين المذكورتين، من ناحية خلخلة شروط المكان. هو مكان غير مطابق للواقع يحدث فيه أن يبدأ الحدث في الرقة، لينتقل إلى دمشق، وينتهي في حلب. حجة الرز في ذلك أن التساؤل الذي يبديه قارئ يعرف هذه الأمكنة لن يبديه القارئ البعيد، فلماذا لا يتساوى القارئان في التساؤل عن ذلك كمجرد جانب فني لا يطابق الواقع بالضرورة. صدرت “بالتساوي” بعد الثورة السورية، لكنها تتشارك مع أعمال الرز السابقة في إشارات مقيمة في فكر الكاتب، بحيث لن يكون التشابه في الترميز مصادفة، مع ذلك، سيبدو التأويل مغامرة، وإن كان مجرد محاولة، أو وجهة نظر. فبيئة القمع حاضرة في كل مشاهد الروايات الثلاث الأخيرة. كذلك هذيان الأبطال الذين يعيشون بطريقة ما منعزلين عن مجتمعهم المخدَّر في عمومه. هنا، لا يفيدنا تصور أن خليل الرز حاول استشراف الثورة في رواياته، بالرغم من أن كاتبات وكتابا سوريين أقل من الرز موهبة، ومسؤولية أدبية، نشروا ضجيجهم منذ الأيام الأولى للثورة للقول إنهم نظَّروا للثورة، أو توقعوها بين يوم وليلة. فالرز يقدم رواياته كعمل فني فقط، بغض النظر عن التأويل الذي يمكن أن يساهم به الناقد، أو القارئ. ولأن الرز أبدى موقفه المتحفظ على التاريخ في الرواية.