استطاع المستشرق الإنجليزي ستانلي لين بول في كتابه "تاريخ العرب المسلمين في الأندلس" الذي ترجمه الأديب والشاعر علي الجارم وصدر في العام 1947، رسم صورة واضحة وموجزة لتاريخ الأندلس من الفتح العربي الإسلامي حتى السقوط؛ صورة اتسمت إلى حد بعيد بالموضوعية والبُعد عن التعصُّب لدين أو قومية، أوضحت الجوانب الإيجابية لكلا الجانبين المسلم والمسيحي، وأيضا وجهت سهام النقد لكليهما. حيث تمكن المؤلف من حصر الكثير من تاريخ الأندلس، من أحداث فتحها، مرورًا بعصور ازدهارها واختلاف الحكَّام عليها، حتى سقوط آخر ممالكها. وألقى فيها الضوء على جوانب عديدة من تاريخ العرب المسلمين بأسبانيا دينيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، مشيرًا إلى الأصوات الدينية المسيحية المعارضة لحكم المسلمين، وكيف تعامل معها المسلمون. واضعًا يده على الأسباب الحقيقية لسقوط الأندلس والتي من بينها التشرزم وخيانة بعضهم البعض والصراع على الملك. الكتاب الذي يعد مرجعًا في تاريخ حقبة مهمة في أوروبا وشمال إفريقيا، صدر في طبعة جديدة عن الدار المصرية اللبنانية بتحقيق د.عبد الباقي السيد عبد الهادي ومراجعة د.أيمن فؤاد السيد، كان الجارم قد افتتحه بهذه الأبيات: أمامك قصة عن مجد قوم ** تقشَّع عن سمائهم السحاب مناصل ما بدت للحرب لبوا **وإن نودوا لمكرمة أجابوا نجوم ما بدت إلا لتخفى ** كما يعلو على الماء الحباب سلوا التاريخ عنها إن أردتم ** ففي صفحاته خُطَّ الجوابُ وفي مقدمته أشار الجارم إلى أن ستانلي لين بول يحب العرب ويتغنى بمجدهم ويؤلف لأبناء أمته في تاريخهم كتابًا، قل قصيدة طويلة الذيول كلها ثناء وإطراء وحب وإعجاب، وعطف وحنان، ولوعة وبكاء، فهل كان يصح في حكم البر بالعربية أن يبقى أبناؤها محجوبين عن هذا الكتاب دهرًا طويلًا؟ لقد ترجمت الكتاب فارتاحت نفسي لأني في حين واحد أذعت فضل العرب على لسان رجل ليس منهم. ثم أذعت فضل هذا الرجل لأنه جدير بإعجاب العرب. ورأى أن طريقة لين بول في التأليف جامعة بين التحقيق العلمي وربط الحوادث بعضها ببعض، وتأدية قصة الأندلس كاملة متصلة الأواصر، في أسلوب شائق وسياق رائع، فإنه بعد أن قرأ تاريخ الأندلس في مراجع شتى بين عربية وإفرنجية، ولقي ما لاقي في اجتياز ذلك الخضم المضطرب بالروايات والحوادث استطاع أن يخرج للأدب والتاريخ قصة بديعة الأسلوب، متماسكة الحلقات، لها مع صدق حقائقها كل ما للقصص الخيالية من فتنة وسحر. وقال الجارم إنه "قد يداخلك بعض الريب في أن المؤلف متعصب للعرب، محتطب في حبلهم، لأنك تراه يقتنص الفرص أو يخلقها للإشادة بدينهم، وسياستهم للأمم، ثم بآدابهم ومدنيتهم التي يعدها شعلة النور في أرجاء أوروبا بعد أن خمدت مدنية الرومان وزالت حضارة اليونان، ثم إنه رسم لعبد الرحمن الداخل والناصر والمنصور بن أبي عامر صورا من القوة والحزم، والعدل والدهاء لم يستطع مؤرخ عربي أن يجمع ألوانها. وإذا غمز بعض المحسنين من الأمراء بنقد كان خفيف المس رفيقًا، حتى إنه لم يبخل بفضله من عطفه عن ملوك الطوائف الذين بددوا شمل الدولة، فأحسن رثاء دولتهم، وبكى فيهم الهمة والسخاء وإنهاض العلوم، وإعلاء شأن الأدب والشعر. أما حديثه عن مملكة غرناطة وأفول شمس العرب بالأندلس، فلم يكن إلا أنات وزفرات ودموعًا. ووقف على أطلال الأندلس كما يقف العاشق المحزون، فبكى مدينة زالت، فنونا بادت، وعزًّا طاح مع الرياح، وملكًا كأن لم يمض عليه إلا ليلة وصباح، ومجالس أنس كانت نغما في مسامع الدهور، ودروس علم هرعت إليها الدنيا وتلفتت العصور. نعم، إن ستانلي لين بول كان يحب العرب حقًّا، ولكن هذا الحب لم يجاوز به الحق، ولم يخدعه عن نفسه ولم يسلبه صفة المؤرخ المحقق. وكل ما في الأمر أنه كان صريحًا في نشر الحقائق، فصدع بها حين أنكرها أو شوه من جمالها كثير ممن يكتمون الحق وهم يعلمون. وأكد الجارم إن لين بول لم يكن متعصبًا للعرب. ولكنه كان لهم منصفًا، وعلى تاريخهم أمينًا، ولهم أخًا وصديقًا حين قل الأخ وعز الصديق، على أن في الكتاب عتابًا في مواطن العتاب ولومًا في مواضع اللوم وتعنيف المحب المخلص حين يحسن التعنيف. وفي مقدمة التحقيق تناول د.عبدالباقي سيرة حياة وآثار كل من لين بول وعلى الجارم، فأشار إلى أن لين بول عمل بالمتحف البريطاني في الفترة من 1874 حتى 1892، وبعدها صب اهتمامه على علم المصريات من عام 1897 حتى عام 1904 وفي عام 1897 أصبح أستاذًا للدراسات العربية في جامعة دبلن، وهو يعد من فئة المستشرقين المنصفين، وبنظرة سريعة على إنتاجه في التاريخ الاسلامي نجد أن الرجل كان منصفا إلى حد كبير. وقال إنه في هذا الكتاب استطاع أن يرسم صورة واضحة وموجزة لتاريخ الأندلس من الفتح حتى السقوط، في إطار الموضوعية والبعد عن الذاتية والتعصب، فكثيرًا ما وجدناه يدافع عن العرب ويمجدهم ويمدح حضارتهم ومهارتهم متى ما استحقوا ذلك، في حين أنه ينتقدهم في مواضع استحقوا فيها النقد. وبشأن موقفه من النصاري رأيناه ينتقد مواقف نصارى الشمال في غير موضع، وانتقد ما فعله ألفونسو بمسلمي الأندلس، كذلك انتقد السيد الكمبيدور على تصرفاته وأفعاله رغم إعجابه الشديد بشخصيته، وهو ما يؤكد لنا أننا أمام شخصية موضوعية وصاحبة أمانة في العرض والطرح والتنظير. وقال عبد الباقي: اعتمد لين بول على المنهج الموضوعي شأنه في ذلك شأن دورزي في كتابه "المسلمون في الأندلس" الذي ترجمه المؤرخ د.حسن حبشي، ومن ثم لم يعر لين بول التأريخ الحولي اهتمامًا، وإنما جمع تاريخ الأندلس في إطار موضوعات عالج من خلالها ثمانية قرون معالجة موجزة غير مخلة بالغرض الذي من أجله تم تصنيف الكتاب.