لم يتوقف (إستانلي لين بول) مؤلف كتاب (العرب في أسبانيا) قبل مائة عام مضت، عند صراعات الحكم وأمور السياسة والحروب المستمرة، الدامية مع الإفرنج والقوط وكل القوى التي تآمرت على دولة المسلمين في الأندلس التي استمرت لأكثر من ثمانمائة عام، بل رصد في بعض فصول كتابه أوجه التقدم المادي والعمران، والعلوم والفنون، وها هو في مقدمة فصل يحمل عنوان (حاضرة الخلافة)، يبدأه بقول أحد مؤرخي العرب: "إن قرطبة عروس الأندلس، بها من الجمال والزينة ما يبهر العين ويسر النفس، فأمراؤها المتعاقبون تاج مجدها، وقلادتها نظمت من درر استخرجها شعراؤها من بحر اللغة الخضم، وحلتها أعلام الآداب والعلوم، وأهداب حُلتها أصحاب الفنون والصناعات" ونجد إستانلي لين بول يؤمن على كلامه ويؤكد عليه بالقول "ولقد كانت قرطبة فعلاً أيام الخليفة العظيم (يقصد عبد الرحمن الداخل) حاضرة جديرة بالفخر والإعجاب، وإذا استثنينا بيزنطة فلن نجد في أوروبا مدينة تساميها في جمال أبنيتها، أو في حياتها الرخية المترفة، أو فيما تزخر به من أنواع العلوم وفنون الآداب. ثم يقول "إن الموجز الذي نحن بصدد نقله عن مؤرخي العرب في وصف قرطبة، وما كانت فيه من نهضة وازدهار ومجد، إنما يعود زمنه إلى القرن العاشر، وإذا لحظنا أن أسلافنا السكسون في هذا العهد كانوا يسكنون الأكواخ ويفترشون القصيل، وأن لغتنا لم تكن تكونت بعد، وأن القراءة والكتابة كانتا محصورتين في عدد قليل من الرهبان عرفنا ما كان للعرب من مدنية عجيبة، وحضارة منقطعة النظير، وتظهر المقابلة جلية غريبة بين حاضرة الأندلس وغيرها من المدن، إذا ذكرنا أن أوروبا كلها في هذا العهد كانت غارقة في حمأة من الجهل وخشونة الأخلاق، وأنها لم يكن بها شيء من آثار المدنية إلا ما بقي للإمبراطورية الرومانية من أطياف في القسطنطينية، وبعض أجزاء إيطاليا". ثم يقول في موضع آخر من كتابه المهم "إن قرطبة مدينة حصينة، تحيط بها أسوار من الحجر ضخمة شاهقة، وهي جميلة الشوارع، وكانت في الزمن القديم مقر سلاطين القوط، وكانت دورهم داخل سورها المحيط بها، ويشتهر سكانها بالرقة والظرف وكرم الخلق وحدة الذكاء، ولهم الذوق الكامل في مأكلهم، وملابسهم، وانتقاء خيولهم، وإليها كانت الرحلة في رواية الشعر، إذ كانت مركز الكرماء وميدان العلماء والشعراء، ولم تزل تملأ الصدور منها والحقائب، ويبارى فيها أصحاب الكتب أصحاب الكتائب، ولم تبرح ساحتها مجر عوال ومجرى سوابق، ومحط معال وحمي حقائق، وهي من الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد، والزور من الأسد". إن قرطبة وفقاً للمؤلف كانت جديرة بكل ما ينثر عليها من الإطراء والثناء، ولن تستطيع إذا رأيتها الآن، أن تدرك ما كان لها من جمال رائع أيام الخليفة العظيم، فإن شوارعها الضيقة، ودورها المبيضة بالجص، لا ترسم إلا صورة ضئيلة لما كان لها من العظمة واستبحار العمران، فقد تهدم "القصر" واتخذ الأسبان أطلاله بعد العز السامق سجناً للمجرمين، ولا تزال القنطرة ماثلة فوق الوادي الكبير إلى اليوم، كما لا يزال المسجد الجامع الذي بناه أول الأمويين عجباً من العجب، ومصدر دهشة للسائحين، ومن المحقق أنه كان أجمل روعة أيام عبد الرحمن الناصر أو بعدها بقليل، حينما زاد الوزير الأعظم (المنصور بن أبي عامر) في بنائه. * * * * * واختلف المؤرخون في مقدار اتساع رقعة المدينة وفقاً للمؤلف والأرجح أن طولها لا يقل عن عشرة أميال، وكانت شواطئ الوادي الكبير متلألئة بالقصور المبنية بالرخام والمرمر، بالمساجد والحدائق التي عُني فيها أشد عناية بالأزهار والأشجار النادرة المجلوبة من الممالك الأخرى، وأدخل العرب بالأندلس نظامهم في الري الذي لم يصل الإسبانيون إلى مثله من قبل ولا من بعد وفي الهامش يذكر الشاعر علي الجارم مترجم هذا الكتاب المهم أن البتانوني يذكر عناية العرب بالري بمنطقة بلنسية فيقول: فقد شقوا أنهارها وحفروا ترعها، وأجروا خلجانها، وسيروا إليها الماء من جبال نيفادا التي هي مقر الثلوج المستديمة، وبنوا على الترع قناطر كثيرة لحجز المياه، ووصولها إلى المنطقة العالية حتى أصبحت هذه المنطقة جنة من الجنان، وكانت دورة الزراعة فيها ثلاثية في السنة ونقل أول أمراء الأمويين نخلة من الشام لتذكره بموطنه، ونظم فيها قصيدة محزنة يندب فيها بعده عن أهله ودياره، كما بعدت النخلة عن أهلها وديارها، وقد غرسها في حديقة حاكي بها حديقة جده هشام بدمشق، التي كانت ملعب لهوه في أيام صباه، وأرسل رسلاً في كل بقاع الأرض ليجلبوا إليه أندر ما في البلاد من الشجر والنبات والبذور، وكان بستانيوه غاية في الذكاء والمهارة، فنمت هذه الأنواع الغريبة واعتادت الأقليم، وانتلت من حديقة القصر إلى كل بلاد الأندلس، وعُرف الرمان ونما وكثر بالأندلس، بعد أن جاء في هدية لعبد الرحمن الداخل من دمشق، فأخذت حبوبه واستنبت بحديقته، "وكانت هذه الحديقة تروى بأنابيب من الرصاص، تصب الماء منها تماثيل مختلفة الأشكال، من الذهب الإبريز، والفضة الخالصة، والنحاس المموه، في أحواض الرخام الرومية المنقوشة العجيبة، فترسله إلى البحيرات الهائلة، والبرك البديعة، والصهاريج الغريبة". ويذكر المؤلف ما وثقه المؤرخون عن أعاجيب قصور الأمير عبد الرحمن، وما كان بها من الأبواب الفاخرة، التي تفتح على الحدائق حولها أو على النهر، أو التي يمر منها الأمير إلى المسجد الجامع، في طريق فرشت بالبسط الثمينة ليؤدي صلاة الجمعة. وكان بعض هذه القصور يسمى ب"الزاهر"، وبعضها ب"المعشوق"، وبعضها ب"المؤنس"، ورابع ب"قصر التاج" وهكذا، بينما احتفظ قصر خامس باسم حاضرة الأمويين بالشرق وهو "دمشق" وكان يقوم على أعمدة من الرخام، وقد رصفت أرضه بالفسيفساء. وقد امتد بين شاطئ النهر جسم فخم به سبع عشرة قنطرة، وهو لا يزال ماثلاً إلى اليوم يشهد بمهارة العرب في علوم الهندسة، وكانت المدينة مزدحمة بالدور الفخمة، قيل إنه كان بها أكثر من خمسين ألف قصر للعظماء ورجال الدولة، وأكثر من مائة ألف بيت للعامة، ونحو سبعمائة حمام. * * * * * ويقول المؤلف في موضع آخر "وللحمامات شأن كبير في المدن الإسلامية، لأن النظافة عند المسلمين ليست من الإيمان فحسب، بل هي شرط لازم لأداء الصلوات والعبادات عامة، ذلك في حين أن كان مسيحيو العصور الوسطى ينهون عن النظافة ويعدونها من عمل الوثنيين، وكان الرهبان والراهبات يفخرون بقذارتهم، حتى إن راهبة دونت ببعض مذكراتها في صلف وعجب: إنها إلى سن الستين لم يمس الماء منها إلا أناملها، عندما كانت تغمسها في ماء الكنيسة المقدس، نقول: بينما كانت القذارة من مميزات القداسة، كان المسلمون شديدي الحرص على النظافة، لا يجرؤون أن يقفوا لعبادة ربهم إلا إذا كانوا متطهرين، وحينما عادت أسبانيا إلى الحكم المسيحي، أمر فيليب الثاني زوج مارس ملكة انجلترا بهدم كل الحمامات العامة، لأنها من آثار المسلمين!"، ودلالات قول المؤلف هذا لا تحتاج إلى تعليق سوى أن هذه هي حضارتنا وتلك حضارتهم فمن هو يا ترى الذي يستحق وصف الهمجي والقبيح عبر التاريخ الإنساني؟!. ونعود إلى المؤلف الذي يقول في موضع آخر من كتابه الموسوعي، راصداً ملامح الجمال العمراني والإنساني في حضارة العرب بالأندلس "وكان لا يزال للمسجد الجامع المنزلة الأولى بين مباني قرطبة الضخمة الجميلة، فقد أنشأه عبد الرحمن الداخل في سنة 784م (168ه) وأنفق في بنائه ثمانين ألف دينار، حصل عليها من غنائم القوط، ثم أتم هذا المسجد ابنه التقي هشام في سنة 793م (177ه) بما اغتنمه من حروب أربونة، وكان كل أمير بعده يضيف جمالاً جديداً إلى هذا المسجد الذي يعد أبدع مثال في العالم للفن الإسلامي في أول عهده". وأشد بعداً في باب الغرابة وفقاً للمؤلف مدينة الزهراء وإن لم تكن أكثر من المسجد حسناً بناها عبد الرحمن الناصر في أحد أرباض قرطبة، وأنشأ هذا الخليفة المدينة في سفح الجبل المسمى بجبل العروب على بضعة أميال من قرطبة، كان ينفق عليها كل سنة ثلث دخل المملكة، مدة خمس وعشرين سنة، ثم استمر ابنه من بعده في الإنفاق عليها مدة عشرين سنة، وكان عدد العمال في كل يوم عشرة آلاف، وكان جملة ما يبنى منها في كل يوم من الصخر المنجور المعدل ستة آلاف صخرة، ويعمل في عمارتها في كل يوم نحو ثلاثة آلاف دابة، وأقيم بها من السواري أربعة آلاف كان كثير منها هدية من إمبراطور القسطنطينية أو من روما، أو قرطاجة، أو سفاقس، أو غيرها، إلى جانب ما كان يؤخذ من مقاطع طرَّكونة والمريَّة، وكان بالزهراء خمسة عشر ألف باب ملبس بالحديد أو النحاس المموّه. ويذكر المؤلف في موضع آخر من كتابه أن "رونق قصور قرطبة وبساتينها مع استهوائه القلوب يغرينا بجمال آخر لا يقل عن رونقها الظاهر، فقد كانت عقول أهل قرطبة كقصورها في الحسن والروعة، فإن علمائها وأساتذتها جعلوا منها مركزاً للثقافة الأوروبية، فكان الطلبة يفدون إليها من جميع أنحاء أوروبا ليتلقوا العلم عن جهابذتها الأعلام، حتى إن الراهبة "هروسويذا" وهي بعيدة في ديرها السكسوني بجودرشيم حينما أخبرت بشنق يوليوجيوس لم تستطع إلا أن تثني على قرطبة وتسميها: "ألمع مفخرة للدنيا". وكان يُدرس بقرطبة كل فرع للعلوم البحتة، ونال الطب بكشف أطباء الأندلس وجراحيها من النمو والازدهار نصيباً أعظم مما ناله قبلهم منذ أيام جالينوس، وكان أبو الطيب خلف جراحاً ذائع الصيت في القرن الحادي عشر، وبعض عملياته الجراحية يطابق اليوم العمليات الحديثة، وجاء ابن زهر بعده بقليل، فكشف عن أساليب كثيرة في العلاج والجراحة، أما ابن البيطار العالم النباتي، فإنه سافر إلى كل بقاع الشرق للبحث عن العقاقير الطبية، وألف في ذلك كتاباً جامعاً، وكان الفيلسوف ابن رشد الحلقة الأولى في السلسلة التي وصلت فلسفة قدامى اليونان بفلسفة أوروبا في العصور الوسطى، وكانت علوم الفلك، والجغرافيا، والكيمياء، والتاريخ الطبيعي، تدرس بمثابرة وجدّ بقرطبة، أما الأدب العربي فإن أوروبا لم تر في عهد من عهودها حفاوة بالأدب وأهله كما رأت في الأندلس، حين كان الناس من كل طبقة ينظمون الشعر، ويظن أن هذا الشعر هو الذي أوحى للشعراء المغنيين بأسبانيا بأناشيدهم القصصية وأغانيهم، وهو الذي حاكاه شعراء "بروفانس" و"إيطاليا". * * * * * وقد بلغت الأندلس وفقاً للمؤلف في كتابه (قصة العرب في أسبانيا) الغاية في الفنون فبناء مدينة كالزهراء، أو مسجد كالمسجد الجامع، ما كان ليتم على هذا الوضع الرائع إلا إذا بلغ العمال قمة المهارة في صناعاتهم، وكانت صناعة الحرير من الصناعات الممتازة بالأندلس، فقد قيل إن عدد النساجين بلغ في قرطبة وحدها مائة وثلاثين ألفاً. واشتهرت (ألمرية) بمنسوجاتها الحريرية وبسطها، ووصلت الفخارة في الإتقان حداً عجيباً، فقد انتهى الفن بالصناع بجزيرة ميورقة إلى أن أبرزوا أواني فخارية تلمع ببريق معدني، ومنها استعارت إيطاليا اسم أوانيها التي دعتها بالميورقية، وكانت تصنع الأواني النحاسية والحديدية والزجاجية المزججة والمذهبة بألمرية، ولا يزال لدينا بعض نماذج من العاج المحفور وقد كتب عليها أسماء عظماء قرطبة. نعم إن هذه الفنون نقلت من الشرق بغير شك، ولكن صناع الأندلس وفقاً للمؤلف كانوا تلاميذ نجباء لأساتذتهم من البيزنطيين، والفرس، والمصريين، فوصلوا إلى درجة النبوغ في صناعة الحلى، وبقي من ذلك إلى اليوم أثر عجيب من آثار ابن الخليفة العظيم، لا يزال يحفظه الأسبان فوق المذبح الأعلى لكنيسة قرطبة: وهو علبة ملبسة بالفضة، مرصعة بالدّر، وقد كتب عليها بالعربية دعاء وتمجيد لأمير المؤمنين الحاكم المستنصر بالله، وهو دعاء يعد غريباً فوق مذبح للمسيحية. وكانت الحلى ومقابض السيوف دقيقة الصنع بارعة الفن، كما يدل على ذلك سيف الأمير أبي عبد الله آخر أمراء غرناطة، واشتهر المسلمون دائماً بصناعة المعادن حتى إن بعض الأشياء التافهة كالمفاتيح، كانت جميلة الصناعة فائقة الحلية، والثريا البديعة التي صنعت لمسجد أمير غرناطة محمد الثالث والتي لا تزال ماثلة بمجريط (مدريد) خير مثال لتفوق العرب في نقش البرنز وإتقان زخارفه. ووصلت الأندلس إلى منزلة في صناعة المخرمات لم تصلها إلا دمشق والقاهرة، ولا نزال نقرأ في كثير من أمكنة غرناطة تلك العبارة: "لا غالب إلا الله" وهي شعار أمرائها، وقد سبق أن تحدثنا عن الأبواب النحاسية بقصور قرطبة، وبعض هذه لا يزال باقياً إلى اليوم بكنائس أسبانيا. وطالما سمع الناس عن سيوف طليطلة، ومهارة أهلها في صناعة الصلب، وهذه الصناعة وإن كانت في أسبانيا قبل الفتح الإسلامي إلا أنها زادت تقدماً في أيام الخلفاء والأمراء بقرطبة، واشتهرت ألمرية، وإشبيلية، ومُرسية، وغرناطة بصنع الدروع وآلات الحرب. * * * * * وكانت النهأية ... * تلك كانت بعض مظاهر الحضارة في العمارة والفنون بكافة أنواعها في الأندلس إبان مجد العرب المسلمين والذي انهار كما يؤكد المؤلف في العديد من فصول كتابه بعد انهيار هذا الحكم وتفرق بنانه إلى شيع وأحزاب وقادة متنافرين متحاربين وبعد تولي الإفرنج حكم البلاد. * ولقد تعددت مشاهد نهاية حكم العرب في الأندلس، وفقاً لفصول الكتاب الموسوعي (قصة العرب في الأندلس) لمؤلفه الإنجليزي (إستانلي لين بول) ووفقاً لرصده لسقوط المدن والحواضر الإسلامية في هذه الدولة التي كانت عصية على الهزيمة، مدينة إثر أخرى، إلى أن جاء الدور على غرناطة التي كانت هي آخر الحواضر التي وقعت في أيدي الوحشية الأسبانية (بقيادة فرديناند) تلك الوحشية التي لم تتورع عن حرق وتخريب وإفساد كل ما يقابلها من زرع وعمران، ولما لا وهم رواد القبح والعدوان حتى يومنا هذا (أنظر لأحفاد فرديناند من حكام وقادة كل من أمريكا وإسرائيل ومن يؤازرهما في عدوانهم الدائم على العالم وبخاصة المسلمين اليوم). ونترك المؤلف مع بضعة أسطر باكية تحكي سقوط آخر قلاع المسلمين في الأندلس (في الخامس والعشرين من شهر نوفميبر سنة 1491م (897ه) أمضيت (غرناطة) شروط التسليم، وكان منها شرط يحدد زمناً للهدنة، لا يجوز بعد انقضائه أن تصل إلى المدينة أية نجدة، وأن تسلم عند ذلك للملكين (فرديناند و إيزبلا)، وترقب العرب عبثاً وصول ما كانوا يأملون من النجدات من مصر أو من سلاطين تركيا فلم تأت، وأرسل أبو عبد الله في آخر ديسمبر إلى فرديناند يطلب إليه أن يدخل المدينة ويستولى عليها، فتقدم جيش النصارى من مدينة شنتفي هكذا كانت تسمى وقتها صفوفاً، واخترق المرج، وعيون العرب الباكية تنظر إليه في جزع وحسرة، ودخلت مقدمته الحمراء، ونصبت الصليب الفضي الأكبر فوق قمة برج المدينة إلى جانب بيرق الحواري يعقوب، بين أصوات كانت تملأ الأفق صائحة: سنتياغو! ثم نُصب حولهما علما قشتالة وأراغون، وجثا فرديناند وإيزابلا على ركبتيهما يحمدان الله على هذا الفتح المبين، وسجد خلفهما الجيش كله، ورتلت فرقة المرتلين الخاصة صلاة الشكر في تبتل وخشوع. ووقف أبو عبد الله في ثلة من فرسانه بسفح جبل الريحان، عند مرور هذا الموكب، فتقدم إلى فرديناند وسلم إليه مفاتيح المدينة، ثم ولى مدينته المحبوبة ظهره منطلقاً إلى الجبال، حتى إذا وصل إلى قرية البذول وهي على مسافة مرحلتين من المدينة فوق مرقب عال من البشرات وقف يودع المملكة التي نُزع منها كما تنزع السن القادحة، فرأى المرج النضير وأبراج الحمراء، ومنائرها الضاربة في السماء، وبساتين جنة العريف، وكل ما بغرناطة من جمال وعظمة، فأجهش بالبكاء وصاح: الله أكبر،!! ووقفت أمه عائشة إلى جانبه وهي تقول: حق لك يا بني أن تبكي كما تبكي النساء، لفقد مدينة لم تستطع أن تدافع عنها دفاع الرجال! ولا تزال البقعة التي ودع فيها أبو عبد الله مدينته بدموعه وزفراته تسمى إلى الآن: آخر حسرات العربي، ثم اجتاز أبو عبد الله إلى بر العدوة بإفريقية، حيث كان يعيش بها هو وأبناؤه بالاستجداء وسؤال المحسنين). انتهى كلام المؤلف، الذي أحسب أنه أبكى كل مسلم لديه إحساس وانتماء لتلك الحضارة التي ولت، إننا نعتقد أن المؤلف وهو يختم كتابه بتلك الكلمات المؤثرة كان هو الآخر يبكي بلوعة، وألم تماماً مثلما أكاد أرى عينا كل مسلم وعربي، وهي تبكي حسرةَ، وتذكراً، عندما تقرأ كلماته تلك، ولكن هل يفيد البكاء كالنساء على ملك لم نحافظ عليه كالرجال .... (كما قالت عائشة)؛ وهل فقدنا نحن العرب أندلس واحدة منذ سقطت الأندلس الأولى وحتى اليوم؟ أم أن أكثر من أندلس قد تقوضت واندثرت؟ والأهم هو السؤال هل ثمة أمل أن يستعيد الرجال يوماً ملكهم الذي كان ليس في الأندلس فحسب، بل في فلسطين، الأندلس الجديدة الدامية!! سؤال برسم المستقبل. E-mail: [email protected]