مجيء عصر الانفتاح وبداية الخصخصة التي حاول الدكتور عبدالعزيز حجازي وضع ضوابط لها فأطاحت به كرئيس وزراء مظاهرات العمال في باب اللوق ترفع شعارات! حكم النازي ولا حكم حجازي، وحجازي بيه كيلو اللحمة بقي بجنيه! مع قدوم العيد، وضحت أزمة الأجور والرواتب في مصر بشكل كبير، فبدلا من أن يكون العيد فرحة وسعادة، كان مبعث حيرة وألم، وسر شقاء للكثير من الأسر المصرية، التي ظلمتها الحكومة بتعنتها في تنفيذ حكم القضاء الأداري، ووضع حد أدني عادل للأجور،فقد جاء العيد ونيران الأسعار تشتعل، وأثبتت الأضاحي كذب ادعاءات حكومةالأغنياء، التي يترأسها نظيف، فقد كشفت عن كم الفقراء، والفقر الذي يعشش في شوارع مصر التي امتلأت بالشحاتين والمتسولين، والغلابة الحالمين بقطعة لحم من الأضاحي،التي يجود بها الخيرون من الأثرياء، كما زحف فقراء القاهرة علي المقابر أملا في الفوز برغيف خبر أو مايجود به من خرجوا يزورون موتاهم في العيد. وفي ظل هذا المشهد المأساوي في أيام البهجة، التي تحولت إلي أيام للتسول،كان هناك من يقضون العيد في القصور والمنتجعات، في مارينا والسخنة والجونة وشرم الشيخ، من أصحاب الرواتب المبالغ فيها والامتيازات التي تمنحها لهم تلك الحكومة، التي ضاع الفقراء وسقطوا من حساباتها. تفاوت رهيب وأنا أقرأ عن الرواتب وتفاوتها بين جهة وأخري، وفي نفس المكان، حيث يحصل البعض في نفس العمل أو المصلحة أو المؤسسة علي مئات الألوف من الجنيهات، وأحيانا قد يصل ما يحصل عليه في الشهر الواحد أكثر من مليون جنيه، بينما وفي نفس المكان أيضا من لايمكن أن يحصل علي هذا الرقم ولو أمضي في العمل نفسه أكثر من أربعين عاما، هذا التباين الرهيب، وتلك الجريمة التي ترتكب في حق الناس، تناولها الكاتب الكبير لويس جريس في 16 فبراير من هذا العام، ولذلك أعيد نشر مقاله بالنص، حتي نعرف أننا نؤذن في مالطا. يقول :"من يضع القواعد والضوابط المالية التي تضع الدرجات الوظيفية وما يقابلها من رواتب؟ من الذي يحدد قيمة الجهد البشري الذي يقدمه كل إنسان في مصر وما يقابله من عائد مادي؟ لماذا أصبحت الأجور تتفاوت بعد أن كانت متوازنة إلي حد كبير؟! لماذا يتقاضي الموظف الحكومي راتبا متدنيا في حين يتقاضي نظيره في البنوك والشركات راتبا مرتفعا؟! لماذا يتقاضي المصريون رواتبهم في مصر بالدولار إذا عملوا مع جهات أجنبية أو شركات عابرة القارات أو متعددة الجنسيات؟!.. وأسئلة أخري كثيرة ومتعددة يثيرها التفاوت الرهيب في الأجور التي يتقاضاها المصريون هذه الأيام. سمعنا عن أجور لبعض رؤساء التحرير في الصحف القومية تصل إلي مليون جنيه شهريا، في حين يوجد رؤساء تحرير في مؤسسات قومية أيضا لايتقاضون سوي بضعة آلاف، والبعض مثلي يتقاضي 416 جنيها شهريا.. وأيضا في الشركات القابضة والمؤسسات الكبيرة تتراوح الأجور بين المليون والثلاثة ملايين لأصحاب المنصب الأول ومن يليه من المعاونين، أما بقية العاملين فإنهم يتقاضون رواتبهم طبقا للوائح وضعتها مجالس الإدارة أو الشئون الإدارية حتي تتوازن الميزانيات.. كانت مصر منذ بدأت تدخل عصر التحديث وتحاول اللحاق بأوروبا في عصر محمد علي الكبير ثم في عهد الخديو إسماعيل، ثم مع الاحتلال الإنجليزي وقيام مؤسسات حكومية مثل البريد والبرق واللاسلكي والسكة الحديد.. ومصلحة المساحة ومصلحة الري وإدارة السجون، ثم النظارات المختلفة وافتتاح المدارس ثم الجامعة المصرية وشركات طلعت حرب تضع أجورا متوازنة.. وكان يحكم الأجور جهة اختصاص تسمي ديوان الموظفين تحدد الدرجات والترقيات راتب كل درجة وهكذا.. وكان لكل وظيفة توصيف ومقياس لجودة الأداء.. وجاء عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذي حدد الرواتب في مصر بحد أقصي خمسة آلاف جنيه في العام أي ما يقرب من 416 جنيها في الشهر لأكبر وظيفة. كان رئيس الجمهورية يتقاضي خمسة آلاف جنيه في الشهر، والوزير يتقاضي 250 جنيها في الشهر،ووكيل الوزارة 150 جنيها في الشهر. والموظف حديث التخرج من الجامعة يتقاضي 12 جنيها فيما عدا بعض المهن مثل القضاة والمهندسين فقد كان هناك كادر خاص للقضاة يجعلهم يتقاضون عند التعيين في منصب وكيل النيابة خمسة عشر جنيها، وأما المهندس فكان يدفع له تسعة جنيهات فوق الاثني عشر جنيها بدل تفرغ! وأذكر أنني عام 1949 وكنت طالبا في كلية العلوم بجامعة الإسكندرية وذهبت مع وفد من طلبة الكلية للقاء فؤاد باشا سراج الدين الذي كان وزيرا للمالية في ذلك الزمان نطالبه بأن يعدل راتب خريج كلية العلوم إلي خمسة عشر جنيها بدلا من اثني عشر، ووعدنا بدراسة الموضوع! كما أذكر أن وفدا من مدرسي المدارس الإلزامية ساروا في مظاهرة تطالب بالمساواة براتب مدرب الكلاب في بيوت الباشاوات بعد أن نشرت مجلة "روزاليوسف" أن مدرب كلب الباشا يتقاضي ثلاثين جنيها في الشهر! عصر الانفتاح هكذا كانت الأجور في مصر حتي بداية عصر الانفتاح الذي بشرنا به الرئيس السادات عندما أصدر قرارا بإطلاق الحد الأقصي للرواتب. ومنذ ذلك التاريخ الذي كان في الربع الأخير من القرن العشرين بدأت الأجور تتحرك علي استحياء.. ومع مجيء عصر الانفتاح وبداية الخصخصة التي حاول الدكتور عبدالعزيز حجازي وضع ضوابط لها فأطاحت به كرئيس وزراء مظاهرات العمال في باب اللوق ترفع شعارات! حكم النازي ولا حكم حجازي، وحجازي بيه كيلو اللحمة بقي بجنيه!! وتوالت الحكومات التي بدأت تضع اللوائح الجديدة وتطلق العنان للأجور حتي استفحلت وأصبحنا اليوم نسمع عن موظف في درجة مدير عام أو وكيل وزارة يتقاضي مليون جنيه في الشهر! وقيل الكثير حول تبرير تغيير اللوائح التي تبيح للموظف العام سواء كان وزيرا أو رئيسا لمجلس الإدارة أو عضوا في مجلس إدارة بنك أن يتقاضي الملايين شهريا أو سنويا.. الحكاية هاصت وأصبحت الرواتب للكبار سداح مداح يغرف كل منهم راتبا ضخما سواء أنجز أم لم ينجز! وأصبحت اللوائح والقرارات الإدارية تشكل شكلا قانونيا لصرف المكافآت والأجور الباهظة بغض النظر عن النتائج أو المردود. بل إن بعض الشركات والبنوك والهيئات حرصت علي أن تجعل جلسات الانعقاد بالآلاف.. تصور مثلا مجلس إدارة بنك أو هيئة من الهيئات تحدد 2500 جنيه للجلسة الواحدة، وأحيانا يحددون خمسة آلاف جنيه للجلسة الواحدة. وجهاز مثل التليفزيون يتقاضي أصحاب المناصب فيه رواتب وأجوراً ومكافآت تصل إلي أكثر من المليون شهريا، وبقية الموظفين يتقاضون أجورا عادية لا تكاد تفي باحتياجات أسرهم الضرورية. موازين مختلة الموازين في الأجور اختلت، وانفلت العيار منذ أن أصدر الرئيس السادات قرارا بإطلاق الحد الأقصي للأجور.. وهكذا انقلب الحال من التقتير أيام عبدالناصر إلي البغددة والرفاهية لأصحاب المناصب دون النظر إلي بقية الأعمال. وأصبح الناس يرددون أن أصحاب المناصب العليا عايشين في نعيم، والموظف الغلبان يشحت ويدوخ علشان يحقق المعادلة الصعبة. كانت الأجور أيام عبدالناصر قليلة ومحدودة، وأيضا الأسعار محددة، أما في عهد السادات فقد تصاعدت الأجور لأصحاب المناصب وارتفعت الأسعار علي الجميع فازداد عدد الفقراء وانتهت الطبقة المتوسطة إلي الأبد. وهنا أتوقف قليلا بعد هذا السرد التاريخي لأطرح عددا من الأسئلة. هل سنستمر علي ما نحن عليه؟.. هل هناك من يدرس عملية الأجور والرواتب في مصر ويتساءل لماذا هذا التفاوت الرهيب بين أصحاب المناصب العليا وبين جموع الموظفين الذين هم عصب العمل ويقوم علي أكتافهم عبء النجاح والفشل؟!.. إلي متي يستمر العمل في المؤسسات والهيئات والشركات القابضة وغير القابضة خاضعاً لرؤساء مجالس الإدارة الذين يظنون أنهم أصحاب هذه المؤسسات ولايفكرون في جموع الموظفين والعمال الذين يتحملون النصيب الأكبر في التشغيل والإنتاج؟!.. لماذا تحدث الأزمات والتي تجعل العمال أو الموظفين يخرجون في مظاهرات للتعبير عن الظلم الواقع عليهم؟! إلي متي يستمر التجديد لبعض رؤساء مجالس الإدارات حتي سن السبعين، ويظل هذا الرئيس يتقاضي مليونين أو ثلاثة ملايين من هذه الوظيفة ويحجب أكفاء آخرين من الصعود لتولي المنصب؟! هل هو خبرة نادرة ليس لها مثيل في مصر، أم أنه مسنود من وزراء لأسباب لا نعرفها؟! إلي متي يظل الرؤساء في البنوك والشركات والمصالح الحكومية والمؤسسات يحجزون الوظائف لأبنائهم ولأقربائهم، ويحرمون أبناء الشعب العادي من فرصة التقدم للوظيفة؟! إن هذا السلوك يجعلنا نتدهور ونتأخر لأننا لا نضخ دماء جديدة إلي العمل بتعيين الأبناء والأقرباء أصحاب نفس الجينات وبالتالي لا نتقدم!.. إن التفاوت الشديد في الأجور يصنع خللا شديدا في المجتمع، ولايقدم الفرص لأبناء الشعب في الحصول علي فرص متكافئة للتعيين في وظيفة.. ومن هنا انتشر بين الناس أن الوظيفة بالواسطة، ومن ليس لديه واسطة لايحصل علي وظيفة!. وذكر لي أحد الأصدقاء أن المستشار جودت الملط رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات طلب من رئيس الجمهورية أن يحميه من أصحاب الوساطات من الوزراء ونواب الحزب الوطني الذين يعتقدون أن المناصب والتعيين تضمن لهم النجاح في الانتخابات ناهيك عن تقاضي أجور باهظة للتعيين في بعض الوظائف!!.. إن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر لأن استمراره يضر بمصلحة الوطن.. وذكر المستشار جودت الملط أنه كان يريد ألف شاب لشغل بعض الوظائف في الجهاز المركزي للمحاسبات، ولكنه تلقي طلبات كثيرة وبعد فرزها طبقا للمواصفات المطلوبة لشغل الوظيفة وجد أن هناك 2500 شاب تنطبق عليه مواصفات الوظيفة، وأنهم جميعا من الأوائل.. أي أوائل الكليات الجامعية حتي التاسع، وأنهم لايعملون منذ عام 2006 . أوائل في طابور البطالة وهنا يثور سؤال كيف تركنا هؤلاء الأوائل يقفون في طابور البطالة؟! هل لأن أساتذة الجامعات ومراكز البحث العلمي تحتفظ بالمواقع للأبناء والأقرباء، أم أنه فعلا لا توجد لهم وظائف - إنه خلل عام كان يجب أن نلتفت إليه؟.. ولحسن الحظ أن المستشار جودت الملط وعد أنه سوف يجد مكانا لجميع المتقدمين الذين تنطبق عليهم الشروط.. هذا مثل واضح كشف عنه المستشار جودت الملط، ويا تري ما هي النماذج والمآسي الأخري التي لانعرفها وتحدث في مجتمعنا؟!.. إنني أري أن هذا أمر لا يمكن السكوت عليه، وأنه بدلا من أن تخوض الصحف في راتب رئيس مصلحة الضرائب الذي يقال إنه يتقاضي مليون جنيه شهريا.. علينا أن نقوم بدراسة الأجور في مصر وتسلسلها، ووضع الضوابط اللازمة التي تراعي الإنصاف لجميع العاملين، أن يتقاضي رئيس مجلس الإدارة مبالغ طائلة في حين أن جميع العاملين والذين يقع عليهم عبء التشغيل والإنتاج لا يتقاضون مثل ما يتقاضي ذلك الأوحد!! إنني أطالب بعودة ديوان الموظفين والذي أعتقد أن المستشار المتميز صفوت النحاس صاحب السمعة الطيبة والذي يرأس اليوم جهاز التنظيم والإدارة هو المنوط بهذا الأمر، ولكن ربما لايدخل في اختصاصه أصحاب تلك المناصب في إدارات المؤسسات والشركات القابضة الذين يتقاضون الملايين شهريا وسنويا. لجنة محايدة وإنني اقترح إنشاء لجنة محايدة لدراسة موضوع الأجور المتفاوتة في مجالس إدارات الشركات القابضة والمؤسسات القومية واتحاد الإذاعة والتليفزيون وبقية شركات مؤسسات الدولة.. وأرشح بضمير مستريح لرئاسة هذه اللجنة المستشار أحمد رضوان منصور وزير التنمية الإدارية في عهد الدكتور عاطف صدقي، وقد زاملته في اللجنة العليا للانتخابات وأشهد أنه غزير العلم والمعرفة بالأجور والقوانين المنظمة للأجور والمكافآت، وأنه مارس هذا العمل في عهد وزارة الدكتور عاطف صدقي، ولندع له أن يختار من يراه مناسبا لإنجاز هذه المهمة الضخمة.. والمستشار أحمد رضوان منصور يشغل اليوم منصب أمين عام اللجنة القومية المتخصصة التي كان يرأسها السيد كمال الشاذلي رحمه الله. **إن العدالة الاجتماعية تتحقق إذا وضعنا معايير عادلة لأصحاب المناصب وربطنا كل وظيفة بالأداء وزيادة الإنتاج وليس بتعيين المحاسيب والأقارب في وظائف رواتبها كبيرة دون أن يكون هناك توصيف للوظيفة وشروط التعيين فيها.. إننا لن تتقدم خطوة إلي الأمام دون مراجعة الأخطاء ومعالجتها حتي يشعر المواطن بالعدالة وينال كل من أبناء الوطن ما يستحقه من مرتب علي قدر ما يقدم من جهد وفكر خلاق. ** خير الختام: (حتي تكون الحكومة عادلة تثبت بالفعل أنها حكومة الشعب، عليها أن تضع حدا أدني للأجور يتناسب مع زيادة الأسعار، وأن تضع حدا أقصي يقضي علي التفاوت الرهيب والامتيازات التي يحصل عليها البعض بدون حق). [email protected]