في تقرير نشرناه بصفحتي السينما في العدد الصادر بتاريخ 29 سبتمبر الماضي، وحمل عنوان "ضيوف ورواد مهرجان الإسماعيلية في انتظار "الراهب والبابا"، توقعنا أن الفيلم الذي يحكي سيرة حياة الأب متي المسكين، سيثير جدلاً بالمهرجان، وقلنا بالحرف الواحد: "تترقب الدوائر الفنية والثقافية والإعلامية بمزيد من القلق واللهفة ردود الفعل التي يُنتظر أن يثيرها الفيلم التسجيلي القصير "متي المسكين .. الراهب والبابا"، الذي اختير للعرض في مسابقة الافلام التسجيلية الطويلة والقصيرة. وصدق ما توقعناه بالضبط، فالفيلم الذي أخرجه إياد صالح، وتعاون مع عدد من زملائه في انتاجه وشهد المهرجان عرضه الأول، فجر الكثير من الجدل، ووجهات النظر الجديرة بالاحترام،و منذ اللقطات الأولي له نجح في جذب اهتمام جمهور المهرجان، من مصريين وعرب وأجانب،حيث اختار "خريف الغضب" عام 1981 نقطة انطلاق لاحداثه التي امتدت إلي 52 دقيقة، وتحديداً اللحظة التي واجه فيها الرئيس السادات عواصف عاتية، لجأ بعدها إلي مجلس الشعب بحثاً عن دعم سياسي - كما قال سيناريو الفيلم الذي كتبه سامح حنين وفي ذلك الخطاب "التاريخي" فتح النار بضراوة علي البابا شنوة، واتخذ قراره "الأرعن" بالغاء القرار رقم 2782 لعام 1971 بتعيين البابا شنودة بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وهو القرار الذي انتزع - وياللسخرية - تصفيق أعضاء المجلس وقتها في فضيحة ستلاحقهم جميعاً حتي يوم القيامة! وفي إيقاع لاهث غير معتاد في هذه النوعية من الأفلام التسجيلية، سواء القصيرة أو الطويلة، يشير الفيلم، الذي أنتج عام 2010، إلي الصدمة التي اعترت الاقباط في مصر عقب القاء "السادات" لخطابه، والإهانة التي لحقت بالبابا، وفي لقطة ذكية يكشف الفيلم عن وجود شخص في ديرالأنبا مقار راح يترقب الموقف، وصفه بالراهب العجوز، الذي هالته الحرب التي احتدمت بين الكنيسة والنظام، وكان هذا الشخص هو الأب متي المسكين! مقدمة تحيلك إلي الطريقة التي تكتب بها الأفلام الروائية، حيث الإثارة و"الفلاش باك" المحكم، والايقاع المنضبط، ففي هذه اللحظة تحديداً يعود الفيلم ليتوقف عند عام 1919 الذي شهد ميلاد الطفل يوسف اسكندر، الذي أصبح فيما بعد "الأب متي المسكين"، وهو العام الذي شهد انتفاضة المصريين جميعاً، وظهور شعار "يحيا الهلال مع الصليب"، حيث يستضيف الفيلم عدداً من الرموز في مجالات الفكر والصحافة والتاريخ وعلم اللاهوت ليقدموا شهادات عن "الأب متي المسكين"، وعلي الرغم من تفاوت أهمية ماقالوه، والمساحة التي احتلها بعضهم علي الشاشة، إلا أن شهاداتهم جاءت لتكمل بعضها البعض، وتؤكدها أحياناً، والأهم انها نجحت في نهاية الأمر في أن ترسم صورة مهمة للأب متي المسكين، الذي يمكن القول إن الفيلم اكتشفه، وألقي الضوء علي جوانب خافية في شخصته أهمها أنه "المعارض" الذي لعب دوراص كبيراً في الكنيسة، و "الزاهد" الذي رفض أن يستخدمه "السادات" للإطاحة بالبابا، عقب إقالته من منصبه، حيث فشل "السادات" في الحصول علي موافقته - أي "الأب متي المسكين" - بالتربع علي الكرسي الباباوي خلفاً لشنودة، علي الرغم من إيماء الفيلم في لحظة ما بأنه كان الأحق به، عقب رحيل البابا كيرلس. لقد جمع الفيلم بين المفكر والكاتب القبطي كمال زاخر والمؤرخ ميلاد حنا وأندريا زكي نائب رئيس الطائفة الانجيلية في مصر وعبدالمسيح بسيط كاهن كنيسة العذراء واستاذ علم اللاهوت وأيضاً الكاتب الصحفي عادل حمودة والباحث والصحفي د.محمد الباز، وعلي الرغم من غياب الصوت الذي يمثل الكنيسة المصرية، إلا أن الفيلم رسم ملامح إنسانية وسياسية للأب متي المسكنين، الذي نجح علي الرغم من وفاته عام 2006، في أن يتحول إلي "الغائب الحاضر"، فقد كان بارعاً في الإدارة قدر براعته في التفقه في الدين، ووصف بأنه "واحد من أهم اللاهوتيين العرب"، ونوه الفيلم - من خلالها الشهادات - إلي الكتب التي أصدرها، وتحمل نظرياته في الحياة والدين وأيضاً السياسة، وتجاوزت المائة كتاب، وكشف أيضاً عن اتهامه يوماً بأنه "شيوعي" لمجرد أنه انحاز للعدالة الاجتماعية وضرورة رفع الظلم، وهو الاتهام الذي لاقي سخرية جميع المتحدثين، وكان أكثرها طرافة قول أحدهم:"الشيوعي لابد أن يكون ملحداً.. والأب متي المسكين لم يكن كذلك، أما الكاتب الصحفي عادل حمودة، فقد تهكم من التهم التي ألصقت بالمسكين في عهد ممدوح سالم وزير الداخلية سابقاً وقال: "تهمة جاهزة دائماً". في هذا السياق لم يخل الفيلم من اشارات كثيرة لها مغزي، وربما تثير حفيظة الكنيسة ورجالها عند عرض الفيلم علي نطاق واسع، فتدخل لمنع عرضه، لكن الشيء المؤكد أن الفيلم تبني موقفاً جريئاً عندما وصف د. ميلاد حنا عهد "السادات" بأنه "كان مليئاً بالاضطرابات" كا ألقي الفيلم باللائمة عليه لأنه "السبب في تقوية شوكة الجماعات الإسلامية، وسمح لهم بالكثير من التجاوزات في حق الاقباط "مما جعل رموز الكنيسة - وعلي رأسهم البابا شنودة، حسب تأكيد د.محمدالباز - ينادون بأن "من لطمك علي خدك الأيمن، فالطم له خده الايسر"! ومن هنا لم يكن مستغرباً أن يصف الكاتب الصحفي عادل حمودة "الاب متي المسكين" بأنه "رجل سياسة أكثر منه رجل دين ومعجزات، ويختتم الفيلم بقوله: "يوم أن يأتي علي رأس الكنيسة رجل آخر سيعرف كل مسيحي وكل مسلم قيمة الأب متي المسكين. ويتحدث ضياء رشوان الباحث في شئون الجماعات الإسلامية عن العلاقة بين "البابا" و"السادات" بأنها "صدام بين أرادتين سياسيتين" ويؤكد كمال زاخر أن الأب متي "شخصية تصالحية وليست تصادمية كما أنه ليس صاحب أطماع "ويثني عليه د. ميلاد حنا لأن "السادات ما قدرش يشتريه "، بدليل أنه صاحب اقتراح اللجنة الخماسية التي تدير الكنيسة، بعد عزل "البابا"، بينما كان في مقدوره أن يحتل "الكرسي" الذي خلا بخروج "البابا" لو أراد! مفاجآت كثيرة تضمنها الفيلم الجرئ، من بينها تفسيره للأزمة بين "السادات" و "البابا شنودة" بأنها ترجع إلي رفض "البابا" سفر الاقباط المصريين إلي القدس، بعد زيارة الرئيس السادات ورغبته في تسريع التطبيع، إذ فوجئ بموقف البابا عندما قال: "سندخل القدس مع المسلمين بعد تحريرها" مما أثار غضب وحفيظة "السادات" واتهمه بأنه يخلط الدين بالسياسة! وفي سياق آخر سعي الفيلم لنفي الأخبار والشائعات التي أكدت توتر العلاقة بين "البابا" و "الراهب" فأشار إلي زيارة "البابا" لدير الانبا مقار عام 1996 لرأب الصدرع، علي الرغم من تحذير البعض له، بحجة أن "الأب متي المسكين" لن يكون في شرف استقباله غير أن الفيلم قدم الوثائق المرئية الحية، والمنشورة في الصحف وقتها، وعلي رأسها جريدة "وطني" لسان حال أقباط مصر، بأن الزيارة تمت، وكان "الأب متي" في استقباله، ولم يكتف ببشاشة اللقاء، وإنما ألقي خطبة شبه فيها زيارة "البابا شنودة" بزيارة المسيح " عليه السلام ووجه إليه الدعاء بطول الصحة قائلاً: " إلي مائة سنة ياسيدنا". من العبارات المأثورة التي أوردها الفيلم علي لسان الأب متي المسكين قوله :" إذا زادت الخطيئة في فجورها فانتظروا الكارثة" وبانتهاء الفيلم ظل التساؤل الذي يلح علي الجميع ويبحث عن إجابة: "هل باتت الكارثة علي الأبواب"؟!