"التصوير شعر صامت، والشعر رسم ناطق".. كانت هذه جملة الإمام محمد عبده (شيخ الجامع الأزهر قبل قرن تقريبًا) وهو يصف الصلة الوثيقة بين اللوحة والقصيدة، أو بين اللون والحرف.. وهي الصلة الوثيقة التي آمن بها الفنان التشكيلي الكبير عدلي رزق الله (1939 2010) الذي رحل منذ أيام قليلة عن واحد وسبعين عامًا، بعد صراع مع المرض الخبيث الذي تمكن من الكبد لمدة ستة شهور قضاها الفنان في مركز المنصورة الطبي، ثم في مستشفي السلام بالمهندسين. وكأن فناننا الكبير الراحل وهو يتبني كلمات محمد عبده، يتواصل كذلك مع عبدالقاهر الجرجاني وهو يشرح في "دلائل الإعجاز" تجاوب التمثيل الحسي للمعني ما بين الشعر والرسم، في دائرة الاستعارة التي تفتح إلي مكان المعقول من القلب بابًا إلي العين". وقد اعترف رزق الله بانشداده إلي "الكتابة" في سيرته الذاتية التي أصدرها حينما بلغ الستين في عام 1999 بعنوان "الوصول إلي البداية: في الفن وفي الحياة"، حينما قال: "كان للكلمة دور في حياتي لا يقل عن دور الصورة.. منذ الطفولة الباكرة تزاوجت الكلمة المكتوبة والصورة في تربية وجداني".. أقبلتُ علي تلقي الأدب المكتوب بنهم عارم لكنني خفت دائمًا من اقتراف جريمة الكتابة".. ويلخص رزق الله هذا التداخل بين اللوحة والقصيدة بقوله "إن اللون هو لغة الفن التشكيلي، وإن اللغة هي اللون في الكتابة". ونحن نعرف أن العلاقة العميقة بين الكتابة والفن التشكيلي قديمة قدم الحضارة المصرية الفرعونية التي امتزج فيها الحرف بالرسم، بل إن حروف اللغة الهيروغليفية نفسها كانت علي هيئة رسوم لأسماك وأشجار وطيور.. وقديمة قدم الحضارة الإسلامية التي كان فيها "الأرابيسك" أشكالاً وكلامًا، بل إن "الخطوط العربية للحروف" هي صور وتشكيلات وتكوينات تشكيلية، مما استلهمه فيما بعد رسامون عديدون: فارسيون وغربيون وعرب (مثل الفنان التشكيلي المصري الضخم حامد عبدالله).. وكذلك الحال في الحضارة الآشورية والبابلية والصينية والمسيحية. كما نعرف أن التزاوج بين الرسم والشعر كان أحد الملامح البارزة للحركة السريالية الفرنسية قبل النصف الأول من القرن العشرين، وللحركة السريالية المصرية في الثلاثينيات والأربعينات من القرن العشرين. عدلي رزق الله، إذن، استمرار وتواصل لهذا الميراث الطويل من تداخل اللوحة والكلمة، منذ الحضارات القديمة حتي حياتنا الحديثة والمعاصرة. ولقد بدأ توجه الشعر إلي رسوم رزق الله منذ أوائل السبعينيات، أثناء إقامته في باريس، حينما أقام معرضه المستقل الأول، وكتب الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي (الذي كان مقيمًا كذلك بباريس بعد مطاردة السادات للمثقفين المصريين بمصر) قصيدة ألقاها في افتتاح المعرض وألقي ترجمتها الفرنسية الكاتب الجزائري جمال الدين بن شيخ.. القصيدة الجميلة بعنوان "آيات من سورة اللون"، ويقول فيها: "قطرتان من الصحو/ في قطرتين من الظل/ في قطرة من ندي/ قل هو اللون/ في البدء كان/ وسوف يكون غدًا/ فاجرح السطح إن غدًا مفعمُ/ ولسوف يسيل الدمُ/ قل إنه الطينُ/ فلينظر الطينُ مم خلقناه/ قل هو ماءٌ/ وما هو ماءٌ ولكن دمُ/ نخلة أنت أم سُلمُ/ وأنا خنجرٌ طالعٌ/ أم هلالٌ تحدر بين الترائب/ حتي اختفي في الذوائب/ ثم بدا جدا/ وارتدي جسدا". وعندما عاد رزق الله من باريس في أوائل الثمانينات توثقت عري الصداقة بينه وبين شعراء الحداثة من جيل السبعينيات وما بعده، فصار يستلهم قصائدهم في لوحاته، وصاروا يستلهمون لوحاته في قصائدهم.. واتجهت قصائد عديدة إلي لوحات رزق الله، منها قصائد للشعراء: عبدالمنعم رمضان وأمجد ريان والسماح عبدالله ووليد منير وكاتب هذه السطور.. يقول أمجد ريان في قصيدته "مقاطع إلي عدلي رزق الله": "يغني لونك المغولُ/ حاملاً طعم الأوجاع/ وفي كفك: المحاور القزحية/ تتغني بالشهادة/ ترتمي في العشق حارًا/ ونواة اللون في كفيك". علي أن أوثق علاقة كتابية مع لوحات رزق الله كانت تلك التي تجلت في كتابات إدوار الخراط، حيث أصدرا معًا كتيب "سبع مائيات وسبعة تأويلات"، وحيث كتب الخراط العديد من النصوص الأدبية حول لوحات رزق الله.. وهي نصوص تشرح اللوحة، وتشرحها، وتقرؤها من منظور الكتابة والكاتب، ثم إنها قبل وبعد كل ذلك تقيم "لوحة كتابية" موازية للوحة اللون، فكأنه نص علي نص، أو لوحة علي لوحة، إن أجواء رسم رزق الله تتجاوب مع أجواء كتابة الخراط، حتي أن الخراط قال مرة لرزق الله: "أنت ترسم ما أحلم بكتابته".. لذلك فمن الطبيعي أن تقرأ النص التالي للخراط عن لوحة مائية لرزق الله، فلا تدري هل هو حديث عن لوحة الرسام أم هو نص أدبي من صميم تجربة الكاتب الروحية والثقافية والحياتية.. يقول الخراط عن "زهور المحاياة": "جسد الدكنة الغالبة يشفي علي السواد الأدهم/ قتامةٌ كتابيةٌ داخلَ بللوريات موصدة نهائية الإحكام/ ممراتٌ مضمرةٌ تنقذها من وهدة اليأس/ النغمة الجنائزية الزرقاء المندمجة بالدُهمة/ لم تسقط في القنوط/ صرخة الزهور عارمةٌ جامحةٌ ترد علي مقبرية الإحباط". ما سرّ هذه العلاقة الوثيقة بين شعر وكتابات الحداثة وبين رسوم رزق الله؟.. حاول رزق الله نفسه تفسير هذه العلاقة فيتحدث عن تعرفه علي شعراء "إضاءة" و"أصوات" من جيل السبعينيات، بعد عودته من باريس، وحرصه علي أن يلتقي الشعر والرسم في معارضه، فيلقي هؤلاء الشعراء شعرهم داخل معارضه محاطين بألوانه ولوحاته.. ثم يوضح أن سبب هذه العلاقة الوثيقة هو أن في لوحته تكثيفًا شعريا لا حكيا قصصيا أو روائيا. ونستطيع أن نضيف إلي عامل "التكثيف الشعري" ثلاثة عوامل أخري صنعت هذه الأرض المشتركة بين رسوم رزق الله، وشعر الحداثة المصري: الأول: هو الحسية الجسدانية الساخنة التي ينهض عليها رسم رزق الله وشعر الحداثة. والثاني: هو التركيز علي "جزئية" في أي موضوع والتركيز عليها والغوص فيها وتشريحها والوصول منها إلي "كليات" أعمّ وأشمل. والثالث: هو الابتعاد عن الزعيق السياسي المباشر الذي يهمل الجماليات لصالح "المضمون" الفاقع الصارخ. هذه هي العناصر المشتركة الأربعة بين رسوم رزق الله وكتابة الحداثة، مما جعل رسومه كأنها ترجمةٌ للاتجاهات الحداثية في الشعر، وجعل الشعر الحداثي كأنه ترجمة لتراكيب الرسام اللونية، مع استقلال كل منهما بذاته: الرسم رسمٌ، والشعر شعرٌ.. لكن "الأواني المستطرقة" بينهما هي التي تعطينا مصداقًا جديدًا ومتجددًا لمقولة الإمام محمد عبده: "التصوير شعر صامت، والشعر رسم "ناطقٌ". رحم الله عدلي رزق الله، الذي أحب الشعر والشعراء، وأحبه الشعر والشعراء.. وكانت لوحته "قصيدة لونية" ساخنة وطازجة، وكانت حياته قصيدة من المحبة والبهجة والتفرد. حلمي سالم